Menu

حالةُ الجيش الصهيونيّ وقدرتُهُ على خوض حربٍ متعدّدةِ المجالات

أحمد مصطفى جابر

نشر هذا المقال في العدد 31 من مجلة الهدف الإلكترونية

بينَ سيطرةِ الشكِّ وعدمِ اليقين، والإحساسِ بالعجز الذي  أكّدته التجرِبةُ الميدانيّة، يصارعُ الجيشُ الصهيونيّ، للحفاظ على مكانته العمليّاتيّة وقوّته الاستراتيجيّة، وقيمته العامّة جماهيريًّا، ليس تبعًا للأسلحة المتنوّعة شديدة الفتك والتطوّر التي يملكها، ولكن تبعًا لعناصرَ توجدُ في مجالٍ آخرَ غيرِ مادي، ولا يمكن قياسُها بالنسب المئوية لنجاحات القبّة الحديديّة أو لعدد الفلسطينيّين الذين يتمّ قتلُهم كلَّ ساعة، أو عدد الطلعات الجويّة المنفّذة في سماء سوريا، فالمسألةُ ليست "ماديّةً تقنيّة" بحتةً على الأرجح، بل هو رعبٌ يأتي من مكانٍ آخر، رعبٌ مشهدُهُ الرئيسي يتلخّصُ في انهيار القدرة على القتال مهما كان نوعُ السلاح المملوك، ما يفسّرُ مقولةً صادمةً للسياسيّين والعسكر والرأيّ العام الصهيونيّ، أطلقها أمينُ مظالم الجنود السابق إسحق بريك "كلّ رئيس أركانٍ يعيدُ اختراعَ العجلة ولا يحافظ على استمراريّة أسلافه، ومليارات الشواقل تضيع على مشاريعَ تبدأُ ولا تنتهي، والنتيجةُ أنّ الجيشَ الإسرائيليَّ ليس مستعدًّا للحرب".

هذا المقالُ يصفُ الحالةَ التي وصل إليها الجيشُ الصهيونيّ؛ تحديدًا في ذراعه البري، استنادًا إلى ما تقوله تقاريرُ العدو.

أزمةُ الذراع البري

يأتي في قلب الأزمة العامة للجيش الصهيوني، أزمةُ الذراع البري المتفاقمة، والتي تشملُ التعاملَ مع إدارة القوى البشريّة، إضافةً إلى ترتيبِ القوّات، وفرضِ نظريّاتٍ عسكريّةٍ غيرِ فعّالة، وكذلك البعد اللوجستي الذي أصاب هذهِ القوّات في مقتل.

فمن ناحيةِ القوى البشريّة، أكّدت التقاريرُ أنّ عمليّاتِ التقليص المستمرّ في القوّات البريّة، وتخفيضِ مدّةِ خدمةِ الجنود، والاستمرارِ المتمادي في دعمِ أسلحةٍ أخرى – القوّات الجويّة على وجه الخصوص- أدّى إلى عجزٍ متراكم، ووصل إلى أبعادٍ لم تعد تسمحُ بالتعامل مع ساحتين في وقتٍ واحدٍ رغمَ أنّ التقديراتِ الاستراتيجيّةَ الصهيونيّةَ تجزمُ أنّ الكيانَ سيواجُهُ قتالًا على أربعِ جبهاتٍ في الحرب القادمة: في غزّة، لبنان، وعشرات الآلاف من المقاتلين المسلّحين في الضفّة الغربيّة، وفي غضون عامين - الجيش السوريّ أيضًا، الذي سيكونَ التهديدَ الرئيسيَّ على الحدود الشماليّة.

بعدَ الإجراءاتِ التي تستمرُّ منذُ سنواتٍ عدّة، نتج من بين أمورٍ أخرى جيشٌ بريٌّ صغير، الجزءُ الأكبرُ منه هو جنودُ الاحتياط، المهملون وغير المؤهلين، ومعظمُ الجيش غيرُ مؤهّلٍ للحرب؛ بسبب نقص التدريب، والضعف اللوجستي، خصوصًا سوء صيانة الإمدادات الطارئة من الأسلحة، وتسريح الآلاف من الجنود الدائمين، واختصار خدمة الجنود الجدد بالبرنامج متعدّد السنوات "جدعون" خلال ولاية رئيس الأركان غادي إيزنكوت، وفقدان القدرة المهنيّة للجنود والقادة، وخاصّة الاحتياط. فبالنسبة لجنود الاحتياط، مثلًا، تمّ مؤخّرًا تسريبُ وثيقةٍ خطيرةٍ موقّعةٍ من قبل العميد غال شوهامي، قائد الفرقة 319، وينقلُ فيها عن رئيس الأركان على كبار ضبّاطه ومعاونيه، يحذّر فيها من عدم استعداد وحدات الاحتياط للحرب القادمة، وعدم كفاءة جنودهم وقادتهم، وفقدانهم الثقة. وأضاف أنّه دون هذهِ الوحدات من المستحيل كسبُ الحرب. وبحسب رئيس الأركان كما نقلت الوثيقة، أدّى الوضعُ الحاليُّ إلى أزمةِ ثقةٍ خطيرةٍ بين جنود الاحتياط والجيش الإسرائيلي، كلُّ هذا يحدثُ بعدَ سنواتٍ عديدةٍ من التخفيضات في نظام الاحتياط، بما في ذلك إغلاقُ الوحدات وسحبُ آلاف الاحتياط.

إهمالُ الذراعِ البري

سببُ إهمال الذراع البريّة قام على أساس أسطورة التفوّق الجويّ الصهيونيّ التي ولدت منذ عام 1967، وكان الافتراضُ السائدُ حتى اليومَ يقومُ على هذهِ الفكرة بناءً على أنّه لن تكونَ هناك حروبٌ كبرى بعد السلام مع مصر والأردن واعتبار السوريّين غير ذوي صلة، ومن ثَمَّ ترسيخ حجم الجيش البري، من حيث عدد الدبابات ووحدات المشاة، للتعامل مع قوّاتٍ غيرِ نظاميّةٍ صغيرةِ الحجم في غزّة وجنوب لبنان، وكان هذا - حسب المراقبين - خطأً فادحًا كبيرًا؛ لأنّه جيشٌ يتمُّ بناؤهُ للماضي وليس للمستقبل؛ لأنّ السوريّين عادوا إلى الساحة، وخلال سنتين أو ثلاث سنواتٍ سيكون الجيشُ السوريُّ التهديدَ الرئيسي، و"المليشيات" في لبنان وغزّة تتحوّل إلى جيوشٍ مزوّدةٍ بمئات الآلاف من الصواريخ والصواريخ وآلاف الكوماندوز، الضفّة الغربيّة أيضًا لم تأخذْ في الاعتبار في المرجع عند بناء الجيش، وبقيت مثل عملية السور الواقي معلّقةً، ولم تأخذها في الحسبان.

خطّةُ جدعون

نشر رئيسُ الأركان السابق، غادي إزنكوت خلالَ ولايتِهِ خطّةً متعدّدةَ السنوات (جدعون)، تمّ على أساسها اتّخاذُ القرارات التي عدّ المراقبون أنّها أرجعت الجيشَ الصهيونيَّ عقودًا إلى الوراء، ورأت تقاريرُ عدّةٌ أنّ خطّةَ جدعون أدّت إلى عددٍ من الأزمات الخطيرة التي لم يشهدها جيشُ الكيان منذ سنوات. فلم يسبق أن تمّ استثمارُ الكثير من الأموال في الجيش البريّ في برامجَ متعدّدةِ السنوات، ومعظم الأموال ذهبت هباءً؛ نتيجةً لسوء السلوك والفشل الخطير متعدّد المستويات، وقد خلق أصحابُ المصلحة فجوةً كبيرةً بين صورة نجاح البرنامج في نظر الجمهور والحقيقة على الأرض، وتنامي ظاهرة مؤامرة الصمت والتقارير غير الموثوقة في الجيش والهدر المالي المرتبط بالفساد، حيث إنفاقُ البلايين لشراء أسلحةٍ جديدةٍ لم يتمَّ استيعابُها فعليًّا، ناهيك عن الفشل اللوجستيّ واتّضاح أنّ العديد من وسائل القتال لا تناسب البيئة القتاليّة للجيش، ولم تستخدم ليس فقط في الحرب القادمة، بل في أيّ حربٍ. يضاف إلى ذلك أزمةُ القوى البشريّة، وقطع الخدمة وتقليصها، ما أدّى في النتيجة إلى انخفاض الدافع القتالي في السنوات الأخيرة إلى نحو 14٪، وتقصير الخدمة يعني أنّ الوحدات القتاليّة تفقد قوّتها بنسبة 50٪ تقريبًا في غضون عام ونصف العام، وغير قادرة على العمل. وعدّ تقليص القوى البشريّة الضربة التي قصمت ظهر بعير القوّات البريّة، حيث أدّى هذا الخفضُ إلى حالة من الفجوات الهائلة بين القوى العاملة والمهام التي يتعيّن القيام بها في الوحدات القتاليّة الأساسيّة، ووحدات اللوجستيّات والصيانة، ونتيجةً لذلك، لم ينفّذ أي خطّة عملٍ ولم يكن من الممكن الاحتفاظُ بالأسلحة في مستودعات الطوارئ، وهي إجراءاتٌ كلّفت الكيان ملياراتٍ من الشواقل، والأسلحةُ لم تكن جاهزةً للحرب.

خطّةُ تنوفا

عند توليه منصبه؛ بدأ رئيسُ الأركان أفيف كوخافي في تنفيذ خطّته متعدّدة السنوات (تانوفا)، التي تحتوي على مكوّناتٍ أساسيّةٍ لتعزيز قدرات الجيش؛ ليكونَ "صغيرًا ومحترفًا وفتّاكًا"،  وجاء ذلك في ظلّ تفشي وباء كورونا، والخلاف في الحكومة بشأن موضوع الميزانيّة الضروريّة للسماح للخطّة بالتقدّم في الوقت المناسب، واختار رئيسُ الأركان كوخافي عدمَ انتظار الميزانيّة، وقرّر استخدامَ الميزانيّة القديمة للمضي قدمًا في خطّته، وما جعل الموقفَ أسوأَ فشلُ إدخال مئات الدبّابات الإضافيّة، وإزالة القديمة، والفشل في توفير التدريب المناسب لتشكيل الاحتياط، والفشل في استيعاب أسلحةٍ جديدةٍ وإلحاق ضررٍ جسيمٍ بالقدرة المهنيّة لجنود الاحتياط في جميع التشكيلات.

وقد أظهر استطلاعٌ عسكريٌّ أجرته كليّةُMDA  قسم العلوم السلوكيّة نتيجةً خطيرةً للغاية، تفيد بوجود نقصٍ في الثقة بقيادة وحدات الاحتياط في القيادة العليا للجيش، هذا في حين أنّ وتيرةَ البناء الجديد واقتناء أسلحةٍ جديدة، دون إضافاتٍ كبيرةٍ في الميزانيّة، لن تكونَ قادرةً على التقدّم بشكلٍ صحيح، حتى عندما يتمّ تخصيصُ ميزانيّةٍ لبرنامج "تنوفا"، فسوف يستغرقُ الأمرُ سنواتٍ عديدةٍ للوصول إلى الأرضيّة الحاسمة والقدرات المهنيّة للجيش. وهكذا، يستمرُّ الجيشُ في فقدان كفاءته بالوسائل الحاليّة، في حين أنّ الجديدَ بعيدٌ جدًّا عن الوصول إلى الكتلة الحرجة.

المعركةُ بين الحربين بديلًا عن "الحرب"

كانت استراتيجيّةُ "المعركة بين الحربين" التي يتمّ الاعتمادُ فيها بالأساس - وبشكلٍ شبهِ حصريّ - على سلاح الجوّ، إضافةً إلى الاستخبارات، قد أدّت إلى صرف  الانتباه عن تحضير كلّ الجيش للحرب الأساسيّة، وعلى أهميّة المعركة بين الحربين، لكنّها تظلُّ ليست المعركةَ الحاسمةَ، بمعنى (الحرب)، خصوصًا أنّ سلاحَ الجوّ لا يمكنه أبدًا خلق تمركّزٍ فعّالٍ على الأرض، ولا يمكنه أن يكونَ بديلًا كما أثبتت التجرِبةُ عن الجنود الذين يمشون على الأرض. وهكذا، فإنّ العددَ الهائلَ من الطلعات الجويّة في سورية منذ عام 2017، لم يغيّر الوضعَ الاستراتيجيَّ للكيان، ولم تتمكّن من وقف المشروع العسكريّ المستمرّ للصواريخ الدقيقة، وزيادة قدرة حزب الله، أو التمكين العسكريّ الإيرانيّ في سورية.

الجبهةُ الداخليّة

النقطةُ الأخرى تنبعُ من حقيقة أنّ الجبهةَ الداخليّةَ ستكونُ الساحةَ الرئيسيّةَ في الحرب القادمة، لكنّ المستوياتِ السياسيّةَ والأمنيّةَ في الكيان الصهيونيّ تتجاهلُها تمامًا، وهو ما وُصِف بأنّهُ إهمالٌ فاضحٌ، بل و"إجرامي" وتمّ تناولُهُ في تقريرين قاسيين للغاية لمراقب الدولة في الكيان عامي 2019 و2020، حيث ذكر أنّ الجبهةَ الداخليّةَ ليست جاهزةً للحرب من جميع الجوانب. وفي التفاصيل أكثرَ، نُشر عامَ 2019، مقالٌ لقائد قيادة الجبهة الداخليّة آنذاك، اللواء تامير يداي، قال فيه: إنّ "إنجازات الجيش الإسرائيلي ضدّ العدوّ في الحرب المقبلة لن تكونَ شيئًا مقارنةً بالضربة البشرية للجبهة الداخليّة بسبب عدم استعدادها للحرب".

الجيشُ يروّجُ ما يريدُهُ ويكذبُ على الجمهور

الحقيقةُ المحبطةُ التي يواجهُها المستوى العسكريُّ والسياسيُّ في الكيان الصهيوني، هي أنّهُ لا يوجدُ تصوّرٌ للأمن، حيث لا يؤثّر وزراء الحكومة ولجنة الشؤون الخارجيّة والدفاع، ومجلس الأمن القومي بأيّ شكلٍ من الأشكال على ما يحدث في الجيش، لا سيطرة ولا إشراف ولا حارس على المستوى السياسي على ما يجري في الجيش، و بمجرّد الموافقة على ميزانيّة الدفاع من قبل الحكومة والكنيست وتحويلها إلى الجيش يتصرّف كما يحلو له، ويعيد كلّ رئيس أركانٍ اختراعَ العجلة، وينقلب من سلفه، ولا يحافظ على الاستمراريّة، وتُهدر ملياراتُ الشواقل في ظلّ ثقافةٍ تنظيميّةٍ وإداريّةٍ وقياديّةٍ فاسدة، والنتيجة هي أنّ الجيشَ الصهيونيَّ غيرُ جاهزٍ للحرب، وسيدفع الكيانُ ثمنًا باهظًا للغاية، حيث القتلى والاقتصاد والبنيّة التحتيّة والمرافق الاستراتيجيّة والممتلكات.

ما معنى هذا؟

هذا يعني أنّهُ إذا اندلعت حربٌ متعدّدةُ الجبهات والمجالات في السنوات المقبلة، فسيكون الجيشُ الصهيونيُّ غيرَ كفؤٍ، وغيرَ قادرٍ على الردّ من حيث الحجمُ والكفاءة، سواءً من الناحية الهجوميّة أو الدفاعيّة، وهو ما تؤكّدُهُ جميعُ التقاريرِ العسكريّة والصحفيّة؛ حتى تلك التي ترغبُ بنفاق رئيس الأركان وهيئتها.