Menu

المشكلات التنظيمية وسبل تطوير وتفعيل دور أحزاب وفصائل اليسار العربي

غازي الصوراني

من المعروف أن المشكلات التنظيمية كانت تمثل لدى الفيلسوف الماركسي جورج لوكاتش في ثلاثينيات القرن الماضي؛ جزءا من المسائل التي لم تحظ بإنشاء نظري معمق، بالرغم من أنها كانت في بعض الأوقات –على سبيل المثال عند مناقشة شروط الانتساب إلى الأحزاب الثورية- في مقدمة أسباب الصراعات الأيديولوجية.

ويبدو أن المسألة التنظيمية في أوساط أحزاب وفصائل اليسار العربي ما تزال حتى اللحظة من القرن 21 -للأسف- تعتبر مسألة غير متبلورة بصورة متفق عليها بين أحزاب وفصائل اليسار؛ وهي أيضا ما زالت خاضعة للمراجعة والنقاش أو أنها مسألة تقنية خالصة، لا مسألة فكرية أساسية من مسائل الثورة عموماً والثورة الاشتراكية خصوصاً، وليس ذلك لأن هناك نقصاً في المادة يحول دون تعميق مسألة التنظيم نظريا، بل على العكس، فالمادة وفيرة غزيرة، لكن يبدو أن الاهتمام النظري للأحزاب اليسارية الماركسية العربية قد استأثرت به واحتكرته مشكلات الوضع الاقتصادي والسياسي وما يتفرغ عنها من نتائج تكتيكية، أو مواقف ملتبسة أو انتهازية؛ الأمر الذي حال دون ايلاء مسألة التنظيم أهميتها الحيوية والايجابية، كما حال دون إرسائها في النظرية الثورية. وهنا نعود لنتفق مع "لوكاتش" في تأكيده على صحة مقولة لينين : "لا يمكن فصل المسائل السياسية ميكانيكياً عن مسألة التنظيم". فإذا كانت المسألة التنظيمية مسألة أساسية، بوجه عام، من مسائل العمل الثوري، فإنها تأخذ أيضاً في بلدان العالم الثالث وبلدان الوطن العربي أهمية خاصة، فالحزب أو الجسد التنظيمي يمثل العامل الذاتي في التطور، في حين تشكل علاقات الإنتاج والوضع الاجتماعي _ الاقتصادي ما يمكن تسميته بالعامل الموضوعي.

والحال إن أهمية العامل الذاتي في بلادنا كما في بلدان العالم الثالث المتخلف أو الضعيف التطور اقتصادياً تفوق أضعافاً مضاعفة أهميته في بلدان الغرب المتطورة اقتصادياً، ففي بلادنا، ما زالت الطبقة العاملة هنا ضعيفة، هزيلة النمو، ولا تؤهلها شروطها الاقتصادية_ الاجتماعية الموضوعية، لأن تفرز عضوياً حزبها السياسي الطليعي، كما أن الحتمية الاقتصادية الوحيدة هنا هي حتمية الانتقال من النظام شبه الإقطاعي، شبه القبلي والعشائري، إلى أشكال بدائية ووسطية من الرأسمالية الرثة، المرتبطة بل الخاضعة أصلاً للإمبريالية العالمية، وهذا على وجه التحديد ما يعطي العامل الذاتي، الحزب الثوري، في كافة أقطار الوطن العربي، أهمية فائقة، فالمطلوب من الحزب الثوري في هذه البلدان أن يخلق وحدة العمال والفلاحين الفقراء والكادحين، وأن يخلق دورهم القيادي معاً بالرغم من ضعف وعيهم الطبقي، فالمطلوب من الحزب لا أن يعرف كيف يستغل الشروط الموضوعية للانتقال إلى الاشتراكية_ فمثل هذه الشروط لا وجود لها في بنية الاقتصاد أو المجتمع _ وإنما أن يخلق هذه الشروط.

إن مختلف التجارب قد أثبتت أن على فصائل وأحزاب اليسار العربي إعادة النظر في كيفية تطبيق مفهوم المركزية الديمقراطية، ليس بمعنى نفيه، بل بتمحيصه، واخضاعه لروح وجوهر الديمقراطية وآلياتها التطبيقية ومن ثم إعطائه معنى أشمل مما كان عليه خلال العقود الماضية، بما يجعل من هذا المفهوم عبر الحوار والاختلاف الموضوعي أداة لتطور وتجدد الحزب بعيداً عن كل أشكال البيروقراطية والتفرد والجمود والتخلف التنظيمي من ناحية، وبعيداً عن كل الممارسات التوفيقية أو المجاملة أو الحلول الوسط أو الشللية ومراكز القوى من ناحية ثانية.

هذه الأهمية الفائقة لدور العامل الذاتي في البلدان المتخلفة، تصبح أهمية استثنائية بالنسبة إلينا في كل أقطار وطننا العربي الذي لا يواجه مشكلة التخلف والتبعية فحسب، بل يواجه أيضا مشكلة تحرره الوطني والديمقراطي الطبقي ومشكلة وحدته القومية.

إن التفعيل الحقيقي أو الثورة الحقيقية للحزب، لا تحددها قناعته الفكرية أو أيديولوجيته فقط، فلكي تتمتع الأفكار بقوة تحويليه، من الضروري أن يكون التنظيم عالياً عبر وحدته وقوته الداخلية لدعم قوة الأفكار بقوة التنظيم، وبقوة ووضوح الموقف السياسي، والقضايا المطلبية الديمقراطية من المنظور الطبقي، ضماناً لانتصار الثورة الاشتراكية، من خلال الالتزام الجدلي بالأسس التي يقوم عليها الحزب الماركسي الثوري وهي:

  1. الأساس التنظيمي: ويتشكل أساساً من العناصر الأكثر وعياً من الطبقة العاملة، ومن حلفائها الطبقيين كالفلاحين الفقراء، والمثقفين الثوريين، والشرائح المتضررة من البورجوازية الصغرى، والعاطلين وأشباه العاطلين.

أما المبادئ الأساسية للحزب الماركسي الثوري: فهي تتحدد- وفق أنظمته وقوانينه والياته الداخلية - وتأخذ أسسها من المقولات التالية التي يتوجب أن تنطلق أساساً من الالتزام الواعي بمفهوم الديمقراطية وتطبيقاته: 1) النقد والنقد الذاتي. 2) المحاسبة الفردية والجماعية. 3) خضوع الأقلية لرأي الأغلبية في إطار الحوار الديمقراطي. 4) القيادة الجماعية التي يتوجب انتخابها لمدة يجب ان لا تزيد عن اربع سنوات لضمان عملية التجدد والتطور الديمقراطي .

  1. الأساس الأيديولوجي أو الفكري: نظرية الحزب الثوري باعتباره حزباً للطبقة العاملة لا يمكن أن تكون إلا النظرية الماركسية أو الاشتراكية العلمية بشقيها: المادية الدياليكتيكية، والمادية التاريخية في تطبيقاتها - عبر المنهج المادي الجدلي - على واقعنا الوطني والقومي العربي، والمناضل المنتمي إلى الحزب الثوري لا بد له من التسلح بهذه النظرية ومنهجها، ويحرص على مواكبة مسارها التطوري المتجدد حتى لا تتحول إلى مقدس أو عقيدة جامدة، والرفيق الذي لا يتسلح بالماركسية يبقى عرضة للأخطار والمنزلقات الفكرية، وخاصة منها ذات الطبيعة الإصلاحية الليبرالية أو اليسارية العدمية والانتهازية .
  2. الأساس السياسي: وهو مدخل الرفاق في كل أحزاب وفصائل اليسار العربي للارتباط بالجماهير؛ عبر فهم واستيعاب مضمون مبادئ وبرامج الحزب، وبالتالي فإن فهم الرفاق لهذا الأساس السياسي هو تجسيد لممارساتهم على الصعيد الوطني التحرري وعلى الصعيد الديمقراطي المطلبي وفق المنظور الطبقي الذي يمس كافة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والقانونية وقضايا المرأة والشباب والنقابات والعمل الجماهيري عموماً، التي تشكل في مجملها منظومة من الحقول التي يصعب الفصل بينها، والتي تتحدد في إطار برنامج الحزب السياسي المرحلي، والاستراتيجي.

لذلك فالحزب الماركسي الثوري عليه أن يبلور مواقف سياسية استراتيجية ومرحلية تتناسب والشروط الموضوعية المتغيرة، كما تتناسب وحاجات وطموحات الجماهير الشعبية الكادحة، بحيث لا تمر مناسبة دون أن يحدد الحزب الثوري موقفه منها، انطلاقا من البرنامج العام ، والذي يشرح الوضعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية محددا موقف الحزب منها، و طارحاً البديل الذي يعمل المناضلون الحزبيون على تحقيقه من خلال عملهم في مختلف المنظمات الحزبية والجماهيرية.

أخيراً، في ظروف الانحطاط العربي، أقول إن أحزاب وفصائل اليسار الماركسي العربي أمام خيارين لا ثالث لهما، إما استلهام ووعي المسار التطوري المتجدد للماركسية أو دخول هذه الأحزاب مرحلة التفكك والاندثار في انتظار الجديد، الذي سيولد حتماً من بين صفوفها أو من خارجها

وفي هذا الصدد؛ أقول لكل من يعتبر أن الماركسية قد كفت عن كونها نظرية ثورية، أنت مخطئ كل الخطأ، وكذلك الأمر بالنسبة لكل من يحكم على مستقبل الاشتراكية على ضوء حاضرها المأزوم، فلا زالت شعوب ما يسمى بالعالم الثالث تعاني من: السيطرة الإمبريالية والتبعية والتخلف، و التفاوت الطبقي والاستغلال والافقار والقهر الطبقي، ولم يحدث في تاريخ البشرية أن بلغ استغلال فائض القيمة للشعوب الفقيرة والتابعة، من قبل النظام الإمبريالي المعولم؛ المستوى الذي وصل إليه اليوم، إلى جانب كل أشكال العدوان الخارجي والحروب والصراعات الطائفية والمذهبية التي تمارس لحماية مصالح الطغم الكومبرادورية والبيروقراطية المدنية والعسكرية الحاكمة في بلداننا انسجاماً وتنفيذاً لمقتضيات وشروط التبعية والخضوع لشروط النظام الإمبريالي المعلوم كما هو الحال في بلادنا. ما يعني أن الاشتراكية اليوم باتت ضرورة حتمية كتتويج للتقدم والنهوض والعدالة الاجتماعية والمواطنة والديمقراطية والعلمانية؛ وتخليص مجتمعاتنا من كل مظاهر التخلف والتبعية والاستغلال والاستبداد.

أخيراً أيها الرفاق في كافة أحزاب وفصائل اليسار العربي؛ أن تكونوا ماركسيين، هو أن يتكامل وعيكم، فتنهلون من النظرية وتدركون منهجهاً إدراكا ذاتياً، وتؤسسوا لكم أرضية صلبة تنطلقون منها للعمل النضالي والديمقراطي، الوطني والقومي والإنساني الأممي، لا أن تأخذوا السياسة على حساب الفلسفة، فالجزء يكمل الكل، فلا تنفصل النظرية الماركسية ومنهجها بالنسبة لنا وفي كل الظروف عن العمل السياسي والنضال التحرري والصراع الطبقي، فإذا ضاع الجزء، ضاع الكل، وضاعت معه هوية أحزابنا الفكرية.

أن تكونوا ماركسيين هو أن تعملوا على أن يكون وطننا العربي في المشرق والمغرب، وطن لأبناءه، مستقلاً حراً تقدميا موحداً تسوده الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، يبنيه ويحميه أبناءه من الفقراء والكادحين بإرادتهم الجماعية الحرة، وبقيادة أحزاب وفصائل اليسار الماركسي العربي التي يجب أن تستوعب كل جوانب وأسس الحزب الماركسي الثوري إلى جانب تملك الوعي العميق بالماركسية اللينينية ومنهجها المادي الجدلي، بما يمكنها من النهوض وامتلاك القدرة على توعية وتحريض وتنظيم الجماهير الشعبية من العمال والفلاحين وكل المضطهدين ومن استعادة دورها الطليعي في مسيرة النضال الثوري لإسقاط أنظمة التبعية والخضوع وتحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية.