Menu

في ذكرى رحيل القائد الاستثنائي وديع حداد

طارق أبو بسام

في تاريخ 28/3 من عام ١٩٧٨ رحل عن عالمنا القائد التاريخي الاستثنائي والمميز، الدكتور وديع حداد.

نعم رحل القائد والثائر المتمرد، رحل فارس الفرسان، رحل من أدخل الرعب في قلوب الأعداء، رحل من أدخل استراتيجية جديدة في مواجهة الأعداء. استراتيجية وراء العدو في كل مكان، رحل من حمل القضية الفلسطينية إلى كافة أنحاء العالم، رحل من كنا في زمنه نخيف ولا نخاف، وأصبحنا اليوم نخاف ولا نخيف، رحل صاحب المدرسة الأممية المناضلة. رحل القائد القومي والعروبي الكبير، أحد مؤسسي حركة القوميين العرب مع رفيق دربه وتوأمه الدكتور جورج حبش ، وأحد مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

وديع حداد لم يكن قائدا عاديا، بل كان قائدا استثنائيا لقضية استثنائية، استثنائيا في تفكيره وتخطيطه وممارسته وتواضعه وإبداعه، وقد تولى عدة مواقع قيادية في حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية.

ولد وديع حداد في مدينة صفد عام ١٩٢٧، هذه المدينة التي عاش فيها وأحبها، كما أحب كل فلسطين، وهو من قال: لو عرض عليّ استعادة فلسطين دون صفد لما قبلت، ولو عرض استعادة فلسطين دون بيتنا في صفد لما قبلت أيضا، أريد وأعمل لاستعادة فلسطين كل فلسطين ولن أتخلى عن حبة تراب منها.

هُجر وديع مع عائلته بعد قيام دولة العدو إلى لبنان وفيها درس الطب في الجامعة الأمريكية وتخرج منها، وبعد تخرجه افتتح عيادة لمعالجة المرضى مع رفيقه الحكيم في منطقة الأغوار في الأردن، سميت بعيادة الفقراء، وكانت تقدم العلاج والأدوية مجانا، وكان يستفيد من هذه العيادة في إقامة العلاقات مع الجماهير والشباب وتجنيدهم لصالح العمل الوطني الفلسطيني.

هو صاحب شعار وراء العدو في كل مكان، والعمليات الخاصة التي قام بالتخطيط لها وتنفيذها في الخارج، ومنها عمليات اختطاف الطائرات، وعملية أوبك، والكورال سي وغيرها، وعملية مطار اللد الشهيرة مع الجيش الأحمر الياباني، وعملية سينما حين التي نفذها مظفر الإيراني الجنسية، إلى جانب تزويد الداخل بالسلاح.

في عمليات خطف الطائرات كان وديع يريد أن يبرز القضية الفلسطينية أمام الرأي العام العالمي وتعريفه بها، وليس هذا فحسب، بل كان يريد من هذه العمليات تحرير الأسرى من سجون العدو، بعد أن تزايدت أعدادهم وكان يؤمن أنه لا يمكن تحريرهم إلا بالقوة.

نقول بكل ثقة: لو كتب لوديع أن يعيش لفترة أطول لما بقي السجناء يقبعون في سجون العدو حتى الآن، ومن المعروف أن اول عملية تبادل للأسرى بين دولة العدو مع المقاومة تمت مع الجبهة الشعبية، أثر اختطاف أول طائرة في عام ١٩٦٨وتحويلها إلى مطار الجزائر.

تعرض وديع لعدة محاولات اغتيال فاشلة، كان أبرزها عملية قصف بيته بواسطة الصواريخ في بيروت، إلا أن "إسرائيل" نجحت في اغتياله حسب اعتراف الموساد، بالتعاون مع المخابرات الأمريكية، وأجهزة مخابرات عربية عن طريق السم.

اختلف وديع مع قيادة الجبهة الشعبية، عندما قررت وقف العمليات الخارجية في مطلع السبعينات، كونها أدت الغرض منها، إلا أن وديع لم يقتنع بذلك، واستمر في تنفيذها، مما أدى إلى اتخاذ قرار بفصله من الجبهة، والحقيقة أن القرار كانت تكمن وراءه أسباب أخرى غير معلنة لا داعي للحديث فيها من خلال هذه المقالة.

المهم أن ردة فعل وديع على قرار فصله أنه كان يقول: (نعم أنا عضو في الجبهة الشعبية بمرتبة مفصول)، وقد أعيد الاعتبار له في المؤتمر الرابع للجبهة الشعبية الذي عقد في بيروت عام ١٩٨١.

نعم لقد ظلم وديع حداد بهذا القرار، وكان مجحفا بحقه، وظلمت الجبهة أيضا، وكما قال الشاعر المظلوم طرفة بن العبد:

"وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـد"

لم يكن وديع محبا للظهور ولا للكلام، وإنما كان يعمل بصمت وإتقان، أعماله كانت تتكلم نيابة عنه، حيث كان يرتعد منه العالم ويصغي إليه، دون أن يتكلم بكلمة واحدة.

نعم ما أعظمك يا وديع، وما أحوجنا إليك في هذه المرحلة التي تحولت فيها: المقاومة من ثورة إلى ثروة، وساد الفساد ونهج المساومة والتنازل، وأصبحت الخيانة فيه وجهة نظر، ففي الليلة الظلماء يفتقد البدر.

تعرفت على وديع حداد شخصيا عن قرب وقابلته عدة مرات، ودعاني إلى بيته مع عائلتي لتناول الطعام في بيته، وهذا ما قلّ أن يحصل، وقد لمست منه التواضع الكبير الذي يتمتع به وحب النكتة والروح المرحة، كان قاسيا إلى درجة الحزم، ومتواضعا لطيفا ودودا إلى درجة أن من يقابله ويتعرف عليه بشعر بأن له من اسمه نصيب، كان إنسانا بامتياز رغم الصورة التي تحيط به.. فلقد زرته مرات عديدة في مقر عمله في بغداد، وكانت آخر مرة قبل استشهاده بأقل من شهرين، ولم يخطر في بالي أن هذا اللقاء سيكون الأخير. كان كثير العمل، لا يكاد يهدأ أو يستريح وإذا ما شعر بالتعب كان يغفو لعدة دقائق على كرسيه الذي يجلس عليه ثم ما يلبث بعدها أن ينهض لمتابعة عمله، كان عمليا وعلميا. عبقريا، وطاقة لا مثيل لها، دقيقا لا يقبل الفشل، وكان ذو حس إنساني عالٍ، وهو من كان يصدر أوامره لمنفذي العمليات، خاصة الطائرات المخطوفة، لا تقتلوا المدنيين حافظوا عليهم ولا تطلقوا الرصاص إلا دفاعا عن النفس، نحن نريد عملية التبادل والإفراج عن أسرانا... وكان دائما يردد جملته الشهيرة "في العمل الثوري لا يوجد مستحيل وكلمة مستحيل لا توجد إلا في قاموس الأغبياء".

كان قال للرفيقة ليلى خالد، تلميذته ورفيقة دربه كما روت في أحد مقابلاتها، لا أريد أن أموت على السرير، أريد أن أموت في ساحات المواجهة والقتال وبالرصاص وإذا مرضت سأقول لك متى تطلقي عليّ الرصاص.

ومن المفارقات التي وقعت بعد رحيل وديع حداد بـ 42 عاما، رحيل المناضلة الأردنية الفلسطينية تيرير هلسة عن عالمنا وهي المولودة في عكا، مسقط رأس غسان كنفاني ، رحلت في نفس التاريخ 28/3/2020، وهي من شاركت باختطاف طائرة سابينا البلجيكية بتاريخ 8/5/1972 مع رفيقتها ريما عيسى التي اعتقلت معها، ورفاقها على طه وزكريا الأطرش اللذين استشهدا في هذه العملية التي للأسف لم يكتب لها النجاح، وتم اقتحام الطائرة من قبل القوات الخاصة (الإسرائيلية) وأصيب نتنياهو في هذه العملية، وحكم عليها بالمؤبد مرتين، حيث قضت في السجن 10 سنوات وأطلق سراحها في عام 1983 في عملية تبادل الأسرى. ومن المعروف أن المسؤول عن هذه العملية كانت حركة فتح.

ونحن نكتب عن وديع لا بد من الكتابة عن الدروس المستخلصة من تجربة الراحل الكبير، ونلخص بعضها بما يلي:

١- التأكيد على أن جبهة الأعداء، جبهة واحدة، ولا يمكن فصل إحداهما عن الاخرى، الإمبريالية والصهيونية و(إسرائيل) والرجعية العربية، يشكلون جسدا واحدا، وعندما تضرب أي منهم تصيب الآخرين.

٢- التأكيد على الأهمية الكبرى لتشكيل جبهة أممية من مناضلي وأحرار العالم للوقوف في وجه معسكر الأعداء، وهذا ما عمل على تحقيقه، من خلال إقامة أوثق العلاقات معها وتقديم الدعم والتدريب وتنفيذ العمل المشترك. لقد شكل وديع تجربه أممية مقاتلة جمعت المناضلين من كل أنحاء العالم لضرب واستهداف مصالح الأعداء، وهذه التجربة تستحق التوقف أمامها ودراستها.

٣- أكدت تجربة وديع أن العدو لا يفهم إلا لغة القوة، ولا يحترم إلا القوي، وهذا ما حصل عندما كانت الكثير من الدول الغربية تتسابق لإرسال الرسائل وعبر الوسطاء، كي لا يضرب مصالحها وتستجيب لشروطه في الكثير من الحالات.

٤- أقام وديع حداد العلاقات مع الحلفاء على قاعدة الندية، وخدمة فلسطين أولا، وهذا ما أكدته التجربة مع العراق والجزائر و اليمن ومع الاتحاد السوفييتي وألمانيا الديمقراطية وغيرها من دول العالم. لم يكن تابعا لأحد وكان يأخذ قراره بشكل مستقل، كان يحترمه الجميع ويتمنون أن يقيموا العلاقة معه، لدرجة أن أندروبوف، رئيس الاتحاد السوفييتي سابقا، طلب اللقاء به وأرسل له طائرة خاصة.

٥- تميّز وديع بدقة التخطيط ووضع الاحتمالات والإجابة عليها، ولم يترك أي مسالة مهما كانت صغيرة إلا وأجاب عليها بشكل علمي، وبعد دراسة عميقة، بعيدا عن الارتجال والعاطفة، وهذا سبب نجاحه.

في ذكرى رحيلك أبا هاني، ننحني إجلالا واحتراما لعظمتك ونضالاتك وللمدرسة في التي أسستها.. نذكرك في هذه الأيام التي تتسابق فيها الخيول المهزومة، وهي في الواقع بغال مسرجة على أنها خيول، بعد أن غادرت الساحة الخيول الأصيلة.

نعم لقد رحل القائد والمعلم والثائر الأممي الذي استحق لقب جيفارا العرب والعالم.. ستبقى خالد فينا، تسكن في قلوبنا وتنير لنا الطريق.. طريق تحرير فلسطين كل فلسطين.