Menu

المجتمع الصهيوني على أريكة المحلل النفسي

أحمد مصطفى جابر

صورة تعبيرية

 

في استطلاع أجراه سامي سموحا خلال خريف 2004 على 700 يهودي فوق 18 عاماً بما فيهم المستوطنين، وهدف إلى إخضاع التزام المواطنين اليهود وفي إسرائيل واستبطانهم للقيم الديمقراطية المتعارف عليها للفحص، في موازاة رغبتهم بالحفاظ على الأمن الداخلي للدولة تبين أن 40% يعارضون مقولة إن على دولة إسرائيل أن تطبق مساواة كاملة للحقوق للمواطنين العرب وقد أيد 25% مقولة أن حكومة غير ديمقراطية أتفق مع آرائها أفضل من حكومة ديمقراطية لا أوافق على آرائها.
وقد أيد 56% إجازة سلب حقوق أساسية مثل حرية التعبير عن الرأي وحرية التنظيم السياسي. وقد عبر 68%أن الاعتقال الإداري (بدون محاكمة) أداة شرعية لفرض الدفاع عن أمن الدولة وقد أيد 61% اللجوء إلى وسائل عسكرية وليس (فقط) بوليسية ضد العرب.

وقد أعلن 57.8% أنه يستحيل الوثوق بغالبية العرب وامتنع 71.8% عن الدخول إلى تجمعات سكنية عربية، وقال 55.9% أن على الدولة فرض حظر على حزب (حداش) الحزب الشيوعي وتحالفه حينذاك.

وفي حالة التعارض بين الطابع الديمقراطي واليهودي للدولة اختار 67.8%الحفاظ على الطابع اليهودي، وعبر 66.7% إنهم أكثر ما يخشون من العرب هو تزايد سكاني متسارع وقال 71.8% إنهم يخشون أن يشن العرب صراعا من أجل تغيير الطابع اليهودي للدولة.

وأكد 96.5% إن على إسرائيل أن تحافظ على أكثريتها اليهودية و 93.5% أنه يجب المحافظة على قانون العودة لليهود.

وفي استطلاع آخر أجري في نيسان 2006 (نقلا عن شبتاي تينت) أظهر مؤشر العنصرية تجاه العرب الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل الذي أجراه مركز مكافحة العنصرية أن 68% من اليهود في إسرائيل يرفضون العيش في بناية واحدة مع العرب، و40% يؤيدون تشجيع العرب على الهجرة و46% لا يوافقون أن يدخل عربي إلى بيتهم و41%يؤيدون الفصل بين العرب واليهود في أماكن الترفيه وقد تبين أن 75% من الحالات العنصرية مصدرها المؤسسة، و63% وافقوا أن العرب خطر أمني و ديمغرافي على دولة إسرائيل و50% يشعرون بالخوف وعدم الارتياح عند سماعهم اللغة العربية.

وفي احدى نسخ مؤشر الديمقراطية الذي ينشره (المعهد الإسرائيلي للديمقراطية) تبين أن 62% من اليهود يؤيدون تشجيع الحكومة العرب على الهجرة، و 79% يثقون بالجيش أكثر من أي شيء آخر.

هناك من الأدلة في الحياة السياسية وتحولات المجتمع الإسرائيلي ما يدل على أن الأرقام السابقة – وهي ليست سوى أمثلة لغرض الدراسة محدودة- ليست مجرد أرقام استطلاعات قد تصدق وقد تخيب، بل أنها متعلقة بالقيمة والضمير الجمعي، تعبر عن اتجاهات الفعل السياسي والتفكير لدى هذا المجتمع المحكوم بعقدة كراهية الآخر (الغوييم) ورفضه، وإذا كان صحيحا أن الجلادين الطغاة يبقون في مواقعهم نتيجة القهر والقوة والرعب الذي يقيمونه، إلا أنه صحيح أيضا أنهم ليسوا سوى نتاج البنية لاجتماعية التي يصعدون إلى قمتها.

في إحدى مقابلاته سئل الكاتب البيروني الكبير ماريو فارغاس يوسا فيما اذا كان «يمكن القول أن الشعوب والطغاة يتقاسمون مسؤولية الأنظمة الاستبدادية؟ » فأجاب «هل كان باستطاعة فرانكو أن يكون موجودا دون الإسبان، هتلر دون الألمان، ماو دون الصينيين؟ بإمكان جميع الشعوب في بداية أي نظام استبدادي أن يقاوموا ولكن الحقيقة أن أغلب الديكتاتوريين ينجحون لبرهة في جذب وإغراء أكبر شريحة من الجماهير وإذا استثنينا الدعم العسكري نجد أن الطغاة يأتون لأننا نطلبهم، كان تروجيللو شعبيا جداً إلى درجة أن الشعب الدومينيكي لو كان التقى القتلة ليلة اغتياله لافترسهم، ما أريد توضيحه أن الديكتاتورية ليست فقط الإذلال والتعذيب والقهر وإنما هي أيضا انهيار بطيء لمجتمع بأكمله».

أظن أن قارئا حصيفا بإمكانه أن يطور بقليل من التمعن أطروحة يوسا الآنفة، فبالنسبة للنموذج الإسرائيلي ليس الأمر مجرد ديكتاتور جاء إلى سدة الحكم وإنما هو موضوع مجموعة بشرية كاملة تجمعت من أطراف الدنيا لتقيم دكتاتوريتها على أنقاض شعب آخر، وهكذا لم يكن انتخاب فاشي كشارون أو ليبرمان أو شاؤول موفاز أو نتنياهو أو بينت أوغيرهم  مجرد صدفة في تاريخ السياسة الشعبية الإسرائيلية، وإنما هي النتيجة الطبيعية التي يفرزها مجتمع من هذا النوع.

وأرقام النتائج للكنيست والحكومة التي أفرزتها ليست مجرد أداء تصويتي بل هي تكرار انتخابي رتيب يعكس حقيقة المجتمع الصهيوني وفاشيته التي تظهرها أحيانا استطلاعات الرأي أو التصريحات أو الممارسات العنصرية ناهيك عن تبلورها يوما بعد يوم في قوانين بشعة تستهدف إنسانية الإنسان الفلسطيني وحياته ومعنى حياته.

ولكن كيف يمكن أن تتحول جموع غفيرة من الناس إلى منظومة منضبطة للقتل والإرهاب والكراهية، نطرح السؤال  نقلا عن حنة آرندت التي تقدم مشروعا للإجابة في تحليلها «لتفاهة أو بساطة الشر» حيث عندما تمت محاكمة (آيخمان) أحد جلاوزة النظام النازي الذي لم تكن علاقته سلبية تماما بالصهيونية وقادتها، والذي تسبب موت الآلاف في غرف الغاز، بحث الكثيرون عن الخطأ الأساسي في التركيبة النفسية لهذا الإنسان، فلم يجدوا شيئاً، فالرجل «كان يقوم بعمله فقط»، كان بيروقراطيا ينفذ التعليمات على أفضل شكل ممكن، على العكس تماما، الرجل كان منظما ونظيفا ولطيفا في تعامله، يذكرنا هذا الوصف بتعليق يوسي سريد زعيم ميرتس على دماثة ولطافة وحسن أخلاق الفاشي ليبرمان بعد عشاء حميم بينهما، ولكن ليبرمان ليس مجرد أداة للنظام بل جزء لا يتجزأ منها. و استكمالا لتحليل أرندت أثبتت تجارب (ملغرام) أن معظم الناس العاديين يمكن أن يتحولوا إلى وحوش من الناحية الأخلاقية، يعذبون الأبرياء بدون روادع أخلاقية تذكر، اذا وضعوا في ظروف مناسبة من حيث طاعة السلطة، تصرفات الجنود الإسرائيليين الشبان الذين لا تتجاوز أعمارهم الثامنة عشرة على الحواجز التي يقيمها الجيش الإسرائيلي من تنكيل وتعذيب وإهانة للفلسطينيين تندرج تحت هذا التحليل.

وبالتأكيد أنتجت الكثير جدا من الدراسات حول هذا الموضوع، ولعل أهمها أعمال فرويد الذي درس الشخصية اليهودية من منطلق الفهم النفسي الداخلي لـ (اللاشعور)، وقد درس اليهودية في العديد من مؤلفاته (الطوطم والمحرم) الذي استند فيه إلى الانثروبولوجي فريزر ثم كتب عام 1911 مقالته (موسى ومايكل أنجلو) بدون توقيع قدم فيه تحليلات عميقة للشخصية اليهودية، وهو يرى أن الشخصية تتميز بسمات عامة يمكن توحيدها بوصفها سمات في كل الشخصية اليهودية وهذه السمات هي : الكذب وجنون العظمة والقتل والإرهاب وتزوير التاريخ، وبمراجعة توضيحات فرويد وإشاراته الصريحة للبارانويا اليهودية، مذ ادعاء كون اليهود الشعب المختار للإله لوجدنا أن اليهود لم يكونوا بحاجة إلى النازي كي يتحولوا إلى البارانويا فالأسر النازي لم يفعل سوى إيقاظ البارانويا اليهودية الكامنة والمكبوتة في ذلك الشتات اليهودي والمقنع بمظاهر الخنوع.

وفي أعماله حلل مصطفى زيور الشخصية اليهودية عبر جدل العلاقة بين المعامل النفسي –الاجتماعي، مؤكدا على معامل الارتباط السلوكي بين الطرفين الاجتماعي والنفسي، إذ يرى في حياة اليهود في الغيتوات انعكاسا على نفسية أفرادها، يتبدى في أشكال عنيفة جسدية برزت في الاستكانة والذل، مما دفع بهذه الشخصية إلى سلوكيات اتسمت بالشراسة والعنف أعطى مثلا على ذلك في سلوكيات جمعية تعبر عن نفسية موحدة في عصابات شتيرن وأراغون وهاغانا، وغيرها.

حيث جرى في تجربة المعسكرات النازية الحافز على تشكيل مجموعة من السمات المرضية مثل (الحذر والريبة والشك) في التعامل الاجتماعي والوثيق الصلة بمرض (البارانويا)، ويرى زيور أن مناحيم بيغن أبرز الشخصيات التي اكتملت فيها معالم السفاح ليكون أبرز أمثلة (التوحد بالمعتدي النازي) أما موشيه دايان فكان خير متقمص للعسكرية النازية منتهيا إلى أن الشخصية  اليهودية تفقد تماسكها الاجتماعي اذا ما تخلت عن العدوان.

وفي ذات العمل ركز زيور في تحليله على انقلاب الشخصية من الاستكانة والذل والاختناق في الغيتوات إلى الشراسة والإرهاب في فلسطين عبر العصابات التي تحولت إلى (جيش الدفاع).

ويرى زيور أن تجربة الأسر النازي شكلت صدمة نفسية شخصية أكدت توحد اليهودي بالجلاد مثل (النقص في الحس الاجتماعي والأخلاقي) الذي يعبر عنه بنوع من الحذر التوجسي (الشك) وثيق الصلة بتوجس مرضى البارانويا، وكان هؤلاء اذا ما أتيحت لهم حرية التعبير عن عدوانيتهم يصلون إلى درجة الاندفاعات العدوانية المتوحشة.

وينهي تحليله بالتقرير بأن ما يجمع بين التجمعات اليهودية الإسرائيلية بالرغم من اختلافها في كل شيء إنما تتلخص بهذا التوحد بالمعتدي الذي أتاح لليهود التحول من المذلة إلى الطغيان ومن الخنوع إلى السفاحية (من سفاح) لذلك يستنتج المحلل الحاجة الإسرائيلية النفسية لممارسة العدوان. فشخصية المتوحد بالمعتدي تفقد تماسكها إن هي توقفت عن العدوان لأنه يطمئنها مانعا تفجر موجات القلق والرعب فيها.

إن هذا ينطبق تماما على المجتمع الإسرائيلي الذي يعيش حسب دافيد غروسمان حالة من الذعر المستديمة، حيث الغالبية الساحقة من السكان واقعة في فخ ما جرى بعد 1967، ومستسلم تماما لفكرة قدرية مفزعة مفادها أن شيئا لن يتغير، تترافق مع «عقدة الضحية التي لا تفارق الإسرائيلي أبدا، حتى كأنهم أقاموا إسرائيل كي يكفوا عن الحياة الطبيعية ويواصلوا الحياة في هيئة الضحية فقط» فالمجتمع الإسرائيلي بلغ مرحلة تصنيف كل آخر في خانة العدو، الذي لابد من محاربته، ليس في صفوف الأغراب فقط بل بين اليهود أنفسهم «وكل من لا ينتمي إلى مرجعيتك الدينية العلمانية الاستيطانية أو المناهضة لهذا كله هو عدو لك بالضرورة.. شيوع الخرافة وتآكل الروح الوطنية والنزعة العدمية والتحلل من المسؤولية» يضاف إلى هذا كله جنون الأساطير واختراع ما يمكن اختراعه منها لبناء منظومة من المعتقدات المتناقضة التي تهدف إلى تحقيق تماسك افتراضي، قائمة على الغش والمزاعم المغرضة، والمزيفة أيضا، ولعل المثل الأبرز هو الادعاء باكتشاف (قبر شمشون) في الجليل وكيف أخذ الآلاف يحجون إليه على غير هدىً دون أن يفطن أحد أن هذه الأسطورة المخترعة الجديدة ليست سوى إطار مبتكر فولكلوري وعقائدي تمهيدا للخطوات العملية بتهويد الجليل وطرد العرب منه، هذا الجنون الجماعي برز في تلاعب شارون بعواطف المستوطنين المتدينين حيث وعدهم بأن الانسحاب سيضمن نقل كل كنيس بأحجاره ذاتها غير منقوصة وخداع الجماهير ليس جديدا على أنظمة الفاشية والاستبداد، وقد لاحظ ألكسس دوتوكفيل مرة أن النظام يعرف أن تصديق الأكاذيب البسيطة أسهل من تصديق الحقائق المعقدة و «الحشود المأزومة التي لا يستطيع العهد الجديد أن يعطيها شيئا ملموسا يستطيع أن يحشوها على الأقل بالأكاذيب» وهكذا «ما بين مطارق هي كل عدتهم ومسامير هي كل العالم المحيط أسست جمهورية الخوف».

هذا العصاب الجماعي الإسرائيلي يتأسس عميقا في البنية النفسية لمجتمع المستوطنين الصهاينة في فلسطين، ولئن كان العصاب  حسب تعريف جورج طرابيشي هو كل خلل أو اضطراب من طبيعة مرضية يصيب الشخصية أو قطاع منها نتيجة لتمحورها حول عقدتها النفسية فان «العقدة» التي ينتظم حولها العصاب الجماعي الإسرائيلي هي عقدة الاعتراف بالشعب الفلسطيني ، هذا العصاب يأخذ شكل جموح أيدلوجي مدجج بالفكر الصهيوني الذي يأخذ في جانب منه شكل وباء نفساني.

وقد توصل البروفيسور دانيئيل بارطال من جامعة تل أبيب ورئيس المنظمة العالمية لعلم النفس السياسي إلى النتائج التالية: 1- الشعب اليهودي في إسرائيل غير طبيعي، مفرق ويعاني من انقسام حاد، معسكر قومي جبري يقول بـ (لا حل للنزاع في الشرق الأوسط، ومعسكر حمائمي مضغوط هستيري وكلاهما يهرب من الواقع، الأول يتنكر لعلاقة السلام والثاني يهرب من المسؤولية إلى عالم الخيال. 2- عن السبب النفسي للخوف من التغيير يقول بارطال أن إسرائيل استثمرت الكثير في النزاع مع العالم العربي من ناحية عسكرية واقتصادية ومعيشية وتم تشديد أيدلوجية تفسر وتبرر هذا السلوك، من الصعوبة تغييرها«أسهل أن نواصل رؤية السلبيات لدى الخصم من أن نبذل جهدا لرؤية ألوان رمادية داخل اللون الأسود». 3- استذكر بارل طال «في تجربة وضع المجتمع الإسرائيلي على أريكة المحلل النفسي» أبحاثا كان أنجزها في السابق ودلت على أن الأطفال اليهود منذ عمر الثانية والنصف يتكون لديهم تصور سلبي عن العرب ويبقى العربي في تصورهم مفردة ملازمة لصفات سلبية شريرة. وقد فحص منذ أكثر من عشر سنوات كتب التدريس العبرية فوجد أنها لا تنفك تكرس النزاع وتمجده وفي فحص متجدد عام 2002 وجد أن كتب التدريس العبرية ما تزال تعاني من التثبت بالماضي، ويقول «يبدو أن السلام بقي خارج حدود المدرسة».

من جهته توصل البروفيسور المرحوم إسرائيل شاحاك إلى استنتاج حاسم باعتبار «الصهيونية تسرق إمكانية تطبيع وجود إسرائيل مع وجودها..»( إن هذا الاستنتاج يشير بوضوح إلى تطابق الشكل والمضمون في الكيان الصهيوني، فالصهيونية هي جوهر دولة إسرائيل، الذي لا فكاك منه، وتخلي هذه الدولة عن جوهرها يعني نهايتها الحتمية، وهذا ما لم يخطط له أو يتخيل حدوثه مؤسسوها وقادتها اليوم، الذين يعيدون التأكيد باستمرار على هذا الجوهر وعلى أهمية الصهيونية لإسرائيل باعتبارها روح الأمة.

ويرى شاحاك أن قيام الصهيونية على مبدأ  (الكراهية الخالدة) يمنع عنها الوجود والاستمرار الطبيعي، فبافتراض أن كل الناس يكرهون كل اليهود كل الوقت، سقوط في عدمية الفرادة الشمولية مما يحيل إلى حركة توتاليتارية تفترض وجود مسألة تخص مجموعة من الناس ولكن العالم كله يحفل بها.