Menu

المجتمع المدني الكوبي يصدر بياناً صحفياً حول اقصائه من المشاركة بـ"قمة الأمريكتين"

وكالات - بوابة الهدف

أصدر المجتمع المدني الكوبي، اليوم الخميس، بياناً صحفياً حول قرار اقصاءه من المشاركة في قمة "الأمريكتين"، التي ستلتئم في مدينة لوس أنجلوس، في شهر حزيران/يونيو الجاري.

وفيما يلي كلمة للمجتمع المدني الكوبي كما وصلت بوابة الهدف الاخبارية:

المشاركة في "قمة الأمريكتين"

أيتها الرفيقات، أيها الرفاق:

اسمحوا لي أن أبداً باستذكار كلمات يعود عهدها إلى أكثر من قرن من الزمن.

"عندما يريد شعب قويّ أن يخوض معركة ضد شعب آخر، إنما هو مجبر على التحالف وعلى خدمة من هم بحاجة إليه. أول ما يفعله شعب من أجل السيطرة على شعب آخر هو عزله عن باقي الشعوب".

هذا ما خطّه خوسيه مارتيه قبل 130 سنة من اليوم عقب مشاركته في "المؤتمر النقدي"، الذي كان عبارة عن وليمة لها مآربها دعت الولايات المتحدة القويّة جمهوريّات قارّتنا الأمريكية حديثة النشأة إلى المشاركة فيها.

بعد اعتماده من حكومة أوروغواي، البلد الذي كان قنصلاً عاماً له في نيويورك منذ عام 1887، يبدو وكأن وزارة الخارجية الأمريكية قد أقصت مارتيه عملياً، بتأخير في إجراءاته وأعذار كاذبة صادرة عنها.

ذلك المؤتمر فشل، وهناك من يؤكد بأن ما أسهم في هذا الفشل بشكل حاسم هو ذلك الكوبي، الذي كتب في وقت لاحق تحليلاً عميقاً وساحقاً أملاه عليه إدراكه للمخاطر التي كانت تتعرض لها قارتنا الأمريكية بموافقتها على الوحدة النقدية.

وجهاً لوجه، وبدون تخفيف من أي نوع كان لخطابه، وصّف مارتيه بالسطور التالية عجز الولايات المتحدة عن فهم جيرانها في الجنوب:

"يؤمنون بتفوق لا يُعلى عليه ’للعرق الأنغلو-ساخوني على العرق اللاتيني". يؤمنون بدناوة الجنس الأسود، الذي استعبدوه في الأمس وينغصّون عليه العيش اليوم، والعرق الهندي الأحمر، الذي أفنوه. يظنوّن أن شعوب أمريكا الناطقة بالإسبانية يتكونون بشكل رئيسي من هنود حمر وزنوج.

ما لم تعرف الولايات المتحدة المزيد عن أمريكا الناطقة بالإسبانية ولا تحترمها أكثر –كما يُمكن أن يصل بها الأمر لاحترامها عبر الشرح الدائم والعاجل والمتعدد والفطن عن عناصرنا ومواردنا-، هل تستطيع الولايات المتحدة أن تدعو أمريكا الناطقة بالإسبانية إلى وحدة صادقة ومفيدة لأمريكا الناطقة بالإسبانية؟ هل الوحدة السياسية والاقتصادية مع الولايات المتحدة هي أمر مناسب لأمريكا الناطقة بالإسبانية؟".

أسئلة مارتيه تحتوي بحد ذاتها على الأجوبة.

قلّ ما توجد نصوص أثقب نظرة مستقبلية لسياسة الولايات المتحدة تجاه أراضينا الأمريكية، وهي سياسة جمّدها طمع الإمبراطورية المتمادي عبر الزمن، وذلك برفض الإصغاء لأصوات الرافضين للخضوع.

من يراوده شك في ذلك، فليضع هذه الكلمات في مواجهة المفهوم الإقصائي لـ "قمة الأمريكتين" التاسعة وسيتحقق من صحتها المطلقة.

القاعدة الفلسفية التي رافقت على الدوام هذا الطمع الذي لا يرتوي هو ما يسمى "القدَر البيِّن"، وهو عبارة عن قناعة متجذّرة ذات طابع عنصري وفوقي، يستند مبدأها ومفهومها إلى "عقيدة مونروي" التدخلية والمرفوضة.

من دون أن تتخلّى عن أي من هذين المفهومين، دعت الحكومة الأمريكية إلى عقد القمة القارية التاسعة في مدينة لوس أنجلوس بمشاركة تمييزية وتمثيل إقليمي منقوص.

في حال كوبا، لم يستهدف الإقصاء الحكومة وحدها، وإنما كذلك ممثلي المجتمع المدني والناشطين الاجتماعيين، بمن فيهم شباننا. لم تعد الولايات المتحدة تكتفي بتحديد هوية الحكومة الكوبية وكيف يجب أن تكون. إنما هي تبتغي الآن أن تحدد من هم ممثلو المجتمع المدني وأي نشطاء اجتماعيين هم شرعيون وأيهم لا.

اسمحوا لي أن أعود إلى التاريخ، الذي يكتنز دائماً الكثير من الدروس:

بين شهري كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير من عام 1928 كانت كوبا مقراً لانعقاد المؤتمر السادس لعموم أمريكا، وهو إحدى البذور السيئة لـِ "منظمة الدول الأمريكية" وقمم الأمريكتين الراهنة. وكان رئيس بلادنا آنذاك خيراردو ماتشادو، المرزبان سيئ الذكر الذي أطاح به تمرّد شعبي في عام 1933.

ليس هناك من مؤرخ بمعنى الكلمة يجهل بأن اختيار كوبا كمقر لانعقاد ذلك المؤتمر ترتّب عن حالتها من التبعيّة تجاه الولايات المتحدة. فقد كنّا محميّة يانكية، وهكذا فإن حتى الدعوات لم تخرج من هافانا. قام بتوجيهها القائم بأعمال كوبا لدى واشنطن.

بالرغم من التبعيّة التي كان ماتشادو وفريقه يزيّنونها بحفلات ركوع مضطرمة، وصل رئيس الولايات المتحدة آنذاك، كالفين كوليدج، في سفينة حربية ويُمكن مشاهدته في الصور العائدة لتلك الحقبة وهو برفقة زوجته، وليس إلى جانب نظيره الكوبي، وإنما أمامه بعدة أمتار.

الأوامر التي أوعز بها أسياد "الحديقة الخلفية" للقائمين على السياسة الكوبية تمثلت في تفادي أي جدل مزعج. التدخلات حديثة العهد في كل من هايتي ونيكاراغوا كانت قد سخّنت الأجواء، فكان لا بدّ من الحيلولة دون إزعاج المداولات لمسامع الإمبراطورية.

يقال أنه في رحلة سابقة قام بها إلى الولايات المتحدة، وكرمى للحصول على مقر الاستضافة، كان ماتشادو قد تعهّد لكوليدج بمنع أي طرح أو شكوى وبمنح الأمريكيين أقصى أنواع الدعم الخنوع.

كان من النصيب غير المشرّف لسفير كوبا لدى واشنطن إسعاد الزائر ذا الجبروت بثناء على التدخّل الذي ما يزال مهيناً لنا:

قال: "لا نستطيع الانضمام إلى الجوقة العامة التي تعارض التدخل، لأن كلمة ’تدخل‘ في بلدي تعني مجد، تعني شرف، تعني كرامة، تعني حريّة، تعني استقلال".

حكومة كتلك، التي استقبلت كوليدج، كان من شأن منظّمي "قمة الأمريكتين" -2022 أن يوجّهوا الدعوة إليها بطيبة خاطر، كما فعلوا قبل 94 سنة من اليوم مع الدكتاتور الأكيد خيراردو ماتشادو، الذي أطاحت به بعد ذلك الموعد بخمس سنوات ثورة عام 1933.

لكن تلك هي كوبا التي اختفت من على خارطة التبعية السياسية مع انتصار الثورة عام 1959.

أعيدكم إلى الخطاب التاريخي الذي ألقاه جنرال الجيش وقائد الثورة الكوبية في "قمة الأمريكتين" المنعقدة في بنما عام 2015. مع كل المدة التي حرمونا فيها من قول كلمتنا في القمم السابقة، وضع راؤول المبادئ التي من شأنها ضمان علاقة أكثر خصوبة بين الأمريكتين:

"لقد تبدّلت العلاقات القارية بشكل كبير، برأيي، بشكل خاص في المجالات السياسي والاقتصادي والثقافي، لكي تتركز، على أساس القانون الدولي وممارسة حق تقرير المصير والمساواة في السيادة، على تطوير علاقات مفيدة للطرفين وعلى التعاون في خدمة مصالح كل بلداننا والأهداف التي تعمل على تحقيقها".

لقد تغيّرت كوبا، وتغيرّت "أمريكانا"، لكن الإمبراطورية لا تتغيّر.

عن الطابع الإقصائي والتمييزي للمنتدى الذين سينعقد بين الثامن والعاشر من حزيران/يونيو في لوس أنجلوس، قالت الحكومة الثورية كلمتها بثبات.

معروف هو الشجب الذي بعثته عند أغلبية حكومات المنطقة هذه الانتقائية الانتهازية، وكذلك هو معروف الموقف الواضح والثابت الذي اتخذه بعض هذه الحكومات، بالإضافة إلى حالات التغيب البارزة عن الاجتماع كتعبير عن الرفض للإقصاء.

ولهذه المواجهات بين السياسات التدخلية والسياسات السياديّة سوابق في التاريخ أيضاً.

ففي عام 1994، عندما دعت حكومة الولايات المتحدة إلى عقد أولى هذه القمم واقصت كوبا، أوجز القائد العام فيدل كاسترو روز جوهر الغطرسة الإمبراطورية في عبارة واحدة: "كم من الجبن، ومن الوضاعة، ومن البؤس السياسي يعكس في الواقع هذا الإقصاء!".

الحكومة الأمريكية آنذاك، وفي ظل نشوتها بالنهاية المزعومة للحرب الباردة، حاولت استغلال أرفع رموزنا الوطنية مقاماً لكي تجذب شعوب قارتنا الأمريكية من جديد إلى مشروع إعادة استعمار كان قد أصبح موضع النسيان، وهو مشروع: "منطقة التجارة الحرة للأمريكتين" (ALCA).

وقد تجرأت على الحديث عن "قمة الأمريكتين" على أنها "حلم سيمون بوليفار الذي يتحوّل إلى حقيقة". وهو ما رد عليه فيدل بالقول: "لم ينقصهم إلا أن يقولوا بأنه تحقيق لأحلام مارتيه أيضاً"، وذلك انطلاقاً من احتفال تاريخي أقيم في قاعة الشرف في جامعة هافانا، حيث التقى وللمرة الأولى الشاب والسياسي البوليفاري اللافت، هوغو تشافيز.

لم تمض 11 سنة على ذلك، في احتفال تاريخي آخر أبرز "قمة الشعوب" أكثر من قمة رؤساء الدول، بهتافها المزلزل: "ألكا، ألكا، أل-كاراخو" (’منطقة التجارة الحرة للأمريكتين‘ إلى جهنّم!)، نعى هوغو تشافيز مشروع إعادة استعمار أمريكانا. حلما بوليفار ومارتيه بدآ بالتحقق.

في وجه أمريكا اللاتينية هذه، التي تسمّي الأشياء بأسمائها ولا تطلب إذناً لممارسة حقوقها السياديّة، تم إعداد قائمة المُستبعدين.

يشرّفنا أن نكون على رأس هذه القائمة إلى جانب قائدي فنزويلا ونيكاراغوا، وإلى جانبكم، الممثلين الحقيقيين لشعبنا. كما يشرّفنا التضامن الشجاع الذي بدر من أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، ودي لوتشو أرسي، وسيومارا كاسترو، والزعماء الكاريبيين الذين أدانوا الإقصاء بلهجة شديدة، وغيرهم ممن سيفعلون ذلك بالتأكيد خلال انعقاد القمة نفسها.

خلال ساعات قليلة سنستطيع أن نرى ما الذي سيتحقق وما هي المقترحات التي ستُعرض في لوس أنجلوس، بغض النظر عن طبل وزمر الافتتاح وصورة الرئيس المضيف مع المشاركين. الاستعراض الدعائي الموجّه إلى التجارة السياسية الداخليّة في الولايات المتحدة لن يستطيع إخفاء انعدام الاهتمام الفعلي عند تلك الحكومة بالعناية بأخطر المشكلات التي تعانيها شعوب أمريكا اللاتينية والكاريبي وأكثرها عجالة.

يُمكن مراجعة الوثائق الرسمية وخطابات سياسيين ومسؤولين في حكومة الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة. الإشارات النادرة إلى جزئنا من العالم تعكس غياباً كبيراً لفهم الوقائع الراهنة التي تعيشها منطقة لها هويتها، ولدى شعوبها آمال متراكمة بالعدالة، وتعاني التخلّف والتفاوت المتزايد، ولم تعد تتحمّل النهب المتواصل لثرواتها الطبيعية والاستغلال المتزايد لعمالها.

ولا تتحمّل أيضاً ضغط الولايات المتحدة وتدخلها الهادف لإجبار حكومات ذات سيادة على اتباع سياسات تفيد الشركات الكبرى العابرة للحدود، في محاولة لتحقيق الطاعة وإنزال العقوبة إذا لم تتحقق.

إنها ترفض دور المؤسسات التي أوجدتها الولايات المتحدة، مثل "منظمة الدول الأمريكية" وباقي أدوات الهيمنة القاريّة.

لا شيء مما سبق وارد في جدول أعمال اجتماع لوس أنجلوس.

موضوع حركات الهجرة في المنطقة هو على صلة وثيقة بالنمو، وعلى الأخص، بالتخلّف. له علاقة وثيقة بالنموذج الرأسمالي العالمي وزحف النيوليبرالية، التي تولّد سياساتها الاقتصادية مزيداً من التهميش والاضطراب الاجتماعي والبطالة وانعدام الخدمات الصحية وأنظمة التعليم المكلفة وغير الكافية، وتفكيك النسيج الاجتماعي للمجتمعات.

قطاعات متزايدة من السكان ستواصل السعي لتلبية احتياجاتها وتحقيق أحلامها بالازدهار في الاقتصادات المتقدمة في الشمال. الواقع الراهن يؤكد الفكرة القديمة بأنه ما لم يبدأ التطور بإعطاء ثماره في الجنوب، فإن التخلّف سيزحف بسرعة أكبر باتجاه الشمال.

المعادلات القمعية، كالتي يسعون إليها في الوثيقة التي تفرضها الولايات المتحدة على الاجتماع، ليست الحل. إنها تسمح بالتخفيف المؤقت من تدفقات المهاجرين الخارجة عن السيطرة، لكنها لا تحل تعددية الأسباب والظروف التي تؤدي إلى الهجرة غير النظامية.

في حال كوبا، طبّقت الحكومة الأمريكية على مدار أربع سنوات سياسة موجّهة إلى تحفيز الهجرة غير النظامية. كعُرف، هي تستقبل الذين يصلون إلى حدودها بطرق غير نظاميّة، وتمنحهم امتياز الحصول على الإقامة الدائمة بموجب صيغ قانونية موضوعة للكوبيين حصراً، وقد أغلقت السبل القانونية للهجرة وتعتمد سياسة حرب اقتصادية ترمي إلى إضعاف مستوى حياة المواطنين. إنها ما يُمكن أن نسميه الوصفة المثلى لتشجيع الهجرة غير النظامية.

غير أنه ليس من المقرر إجراء بحث عميق حول هذه المسائل في القمة الحالية، وطبعاً، لا يُمكن توقّع أي نتيجة فعالة لمشكلة ستظل تلقي بثقلها على مجتمعاتنا وعلى العلاقات القاريّة.

ولا كذلك من المتوقّع إجراء مناقشة ناجعة بشأن تحويل التكنولوجيا، الذي سيكون من الصعب جداً بدونه انتظار دفعة لنمو المنطقة.

إن زيادة الترابط والوصول إلى الإنترنيت في جميع المجتمعات هو أمر إيجابي. ولكن، إذا اقتصر هذا الجهد على الترويج لأسواق هي أسيرة الدعاية التجارية والتوجيه وحفز الاستهلاك المتواصل، فإن لا رجاء من فائدتها لأمريكا اللاتينية والكاريبي. ستكون الرابحة، بدون شك، الشركات التجارية الكبرى.

إذا ما تم الاتجاه نحو إقامة منصات تكنولوجية تساعد في المجتمعات، ولا سيما عند الشبان، على زرع الأفكار المنتَجة في المختبرات الإيديولوجية للولايات المتحدة من أجل الترويج لسلوكيات ورؤى للعالم تحفّز اللامبالاة السياسية والفساد الاجتماعي؛ وتشجع الأنانية والعنصرية والنرجسية والعدوانية، فإن النتيجة ستكون بالغة الخطورة. وستكون كذلك أيضاً إذا ما تم توجيهه نحو الترويج للكذب والابتذال والاتجار غير الشريف بالسياسة والافتراء والمأجورية الإعلامية.

إذا كان ما يتم السعي إليه هو مزيد من التأثير ومزيد من السيطرة على مجتمعاتنا عبر احتكار المنصات التكنولوجية للإعلام وتركيزها في أيادٍ قليلة جداً، فإن النتيجة الواضحة هي توطيد الهيمنة التسلطية والإمبريالية بأساليب جديدة.

إحدى القضايا الأكثر تكراراً على ألسنة المسؤولين الأمريكيين لدى ترويجهم للقمة الحالية هي الدفاع المزعوم عن الديمقراطية، التي يوازون بصورة مخادعة بينها وبين الترويج للرأسمالية، كما لو كانتا الشيء نفسه، بينما هما في الواقع مفهومان يناقض أحدهما الآخر.

لا شيء في تاريخ الولايات المتحدة القديم والحديث، ولا في سلوكها الحالي في القارة يؤدي إلى الافتراض بأن الديمقراطية أو احترام حقوق الإنسان هما أولويّتان فعليّتان في سياستها الخارجية الإقليمية. وعندما يقولون ذلك، إنما هم يفتقدون للنزاهة في قولهم وهم يعرفون ذلك.

إذا ما راجعنا السنوات الخمسين الأخيرة فقط، نجد بأنه كان جليّا ضلوع الولايات المتحدة المطلق وتواطؤها مع أكثر الأنظمة دموية وقمعيّة التي عرفتها هذه القارة، والتي مارست معها بأكبر عار أعمال قتل وخطف ومجازر وتعذيب وإعدام بدون محاكمة.

إنه لمن الخطأ والاستخفاف المرفوض الافتراض بأن شعوبنا تفتقد للذاكرة.

لكن ما هو أهم من ذلك بعد، هو افتقاد حكومة الولايات المتحدة للسلطة الأخلاقية للحديث عن الديمقراطية، عندما تكون هي عاجزة عن الدفاع عنها أو الترويج لها في قلب أراضيها ولصالح مواطنيها أنفسهم.

ليس من النزاهة الحديث عن الدفاع عن مبادئ ديمقراطية في الوقت الذي، واستناداً لقوانين فدرالية حديثة العهد، يسمح النظام السياسي الأمريكي بتمويل حملات انتخابية بلا قيود وتدبير السياسيين وشراءهم، أو ما هو يوازيها: شراء حكّام.

ليست بصادقة الدعوة إلى الديمقراطية في المنطقة بينما يرتفع عدد التشريعات في العديد من ولايات هذا البلد التي تقيّد الحق بالتصويت وإمكانية ممارسته، وخاصة إذا كان القطاع متدني الدخل، أو ينتمي إلى واحدة مما تسمّى أقليات عرقية أو يعيش في أحياء تعتبر هامشية.

من الصعب أن تكون مروّجاً لحقوق الإنسان باسم حكومة ليست قادرة على ضمان الحق بالخدمات الصحية الأساسية في البلد الأغنى والأكثر جبروتاً على وجه الأرض؛ لا تتوفر لديه، ولا هو اعتزم أصلاً توفير، الأدوات السياسية والقانونية التي تمنع مبيعات الأسلحة الحربية عشوائياً للمواطنين، بما يترتب عن ذلك من كلفة ومن فقدان متزايد لأرواح بريئة، من بينها أطفال، أصبح ذهابهم إلى مدرستهم مصدر خطر عليهم.

إن الترويج للديمقراطية وحقوق الإنسان لا يتعدى كونه وهماً في نظام سياسي تحظى فيه مصالح منتجي الأسلحة الحربية ومسوّقيها بأولوية تفوق اعتبار أرواح الأطفال والحق بالصحة وبالتعليم.

ليس نزيهاً المناداة بحقوق الإنسان في الوقت الذي تسمح فيه هذه الحكومة بنمو التمييز العنصري، إلى جانب تيارات غير متسامحة وتنادي بتفوّق العرق الأبيض؛ وفي وقت ما تزال المؤشرات على التمادي البوليسي والقضائي ضد المنحدرين من أصول أفريقية هي القاعدة.

ولا هو كذلك عندما يصل احتجاز أو اعتقال الأطفال والفتية إلى أرقام غير مقبولة الارتفاع. فحسب معطيات "الجمعية الأمريكية للحريات المدنية"، في أي يوم من السنة تجد ما لا يقل عن ستين ألف طفل وشاب دون الثامنة عشرة من العمر معتقلين أو موقوفين في سجون أو مراكز اعتقال للشباب.

وحسب "مبادرة سياسات السجن"، فإن كثيرين منهم لم يقترفوا حتى جريمة، وآلاف ما يزالون خلف القضبان بسبب انتهاكات غير جنائية. الولايات المتحدة هي البلد الوحيد في هذا النصف من العالم الذي يتم فيه الحكم على قاصرين دون الثامنة عشرة من العمر بالسجن المؤبد وبدون وقف التنفيذ.

بهذه السيرة التي يُرثى لها، تتجرأ الحكومة الأمريكية على الادّعاء بأن المنطلق لدعوة أو إقصاء بلدان من القارة إلى اجتماع القمة تمثل في معايير الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذه الذريعة تشكل إهانة لذكاء الآخرين وحسّهم المشترك.

بالتصميم المعدّ والوثائق الجاهزة، أصبح معلوماً بأنه لن يجري في هذا اللقاء بحث أو اعتماد شيء يتعلّق بالتفاوت الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة؛ وحول التهميش، وحتى داخل الولايات المتحدة نفسها. من المعلوم أنه لن يتم تناول المشكلة المتزايدة المتعلقة بشرعنة السياسة من أجل تعطيل الإرادة الشعبية والحكومات المنتخَبَة بدعم من أفقر القطاعات، ولا مناقشة الجهد المشترك لكبرى الشركات العابرة للحدود من أجل إفساد حكومات المنطقة.

لن يتم التعمق في الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية على حدّ سواء بين المناطق الأشد تضرراً من "كوفيد-19".

لم تطرح أي من الوثائق المعروضة من قبل وزارة الخارجية الأمريكية التقدّم بتحركات ملموسة لمكافحة العنصرية، ومؤازرة حقوق المرأة والأطفال، وللتخفيف من حدة وضع المهاجرين منعدم الأفق.

مشكلة التغير المناخي التدريجي والكوارث الطبيعية التي تعني كل ما تعني من تهديد لبلدان المنطقة ستبقى بدون إجراءات عملية. والإرهاب، بما فيه إرهاب الدولة، والتلاعب بهذا الموضوع لأهداف سياسية ليست نقاطاً على جدول الأعمال. لن يتم التأكيد على حق الأرجنتين بالسيادة على جزر المالوين، ولا على حق بورتوريكو بالاستقلال.

في الوثائق المطروحة لاعتمادها لن يكون هناك صوت ضد الإجراءات الاقتصادية القسريّة الأحادية واستخدامها ضد بلدان من المنطقة كسلاح للضغط السياسي.

كذلك لن تتم المصادقة في هذه الوثائق على مطالبة المنطقة بالإجماع، وبدعم شبه مطلق من المجتمع الدولي، برفع الحصار الاقتصادي المجرم الذي يعانيه الشعب الكوبي منذ 63 سنة.

ومع ذلك، لن يكون بالإمكان إسكات صوت كوبا، ولا التضامن مع كوبا. نعلم أن إدانة الحصار الاقتصادي ستُسمع هناك وأن حكومة الولايات المتحدة تدرك تماماً بأن هذا الموقف هو موقف مشترك من أقصى هذا النصف العالم إلى أقصاه.

كان واضحاً منذ عدة أشهر بأنها ستضيع فرصة استغلال الرؤساء الإقليميين في لوس أنجلوس من أجل التداول الفعلي حول كثير من المشكلات التي تلقي بثقلها على مجتمعاتنا. كان يمكن للأمور أن تسير بطريقة أخرى.

إن الحكومة الأمريكية، بسطوتها الاقتصادية والتكنولوجية، وبنفوذها، كان بوسعها أن تساهم بشكل كبير في هذا الاتجاه. كان الأمر يحتاج طبعاً لجرعة من التواضع، من النقد الذاتي، من تقدير آثار الجروح التي يتّسم بها تاريخنا؛ ولحد أدنى من التضامن وقدر أقل من الأنانية، ولتقدير صادق بأن الزمن قد تغيّر.

التواصل والتفاعل عبر الأمريكي ضروريّان. لا بدّ من وجود فسحات للحوار والتعاون بيننا نحن الذين نعيش في جنوب نهر برافو وبلدان الشمال. لكن لا بدّ أن يتم ذلك باحترام. فاضل الأمريكتين، بينيتو خواريس، عبّر عن ذلك بإيجاز عبقري عام 1867، بقوله: "بين الأفراد، كما بين الأمم، احترام حق الغير هو السلام".

نحن الأمريكيون اللاتينيون والكاريبيون لا نعتبر أنفسنا حديقة خلفية، ولا حديقة أمامية، لأحد. في هذا القول إهانة لنا ونحن نرفضه.  عندما شكّلنا "مجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي"، نحن بلدان منطقتنا جددنا التأكيد على التزامنا الصارم بالدفاع عن السيادة والاستقلال والحق بتقرير المصير.

مع دعوتنا للوحدة الضرورية والتكامل الإقليمي، إنما نحن نؤصّل الالتزام باحترام التعددية بيننا. نتشارك في منطقتنا هذه بلدان كبرى وصغرى، بلدان غنية بالموارد الطبيعية وأخرى تفتقد لها، بلدان تصدّر النفط والطاقة الكهربائية وأخرى تستوردها؛ كبار منتجي المواد الغذائية وتلك التي تحتاج للتجارة الخارجية من أجل تلبية احتياجاتها. بالإضافة لذلك، هناك البلدان الجزرية الصغيرة التي تستحق معاملة تفضيلية ومتميّزة في إدارة علاقاتها الاقتصادية الدوليّة.

لدينا في بعض الحالات اختلافات إيديولوجية عميقة، لكنها لم تمنع تطوير العلاقات، بل والتعاون، سواء كان في حل نزاعات سياسية خطيرة، أو في المساهمة بحل مشكلات اجتماعية حادّة وتقديم خدمات لأكثر المواطنين حاجة إليها. في عام 2014، تبنّينا في هافانا، وبالإجماع، الالتزام بـِ "إعلان أمريكا اللاتينية والكاريبي منطقة سلام".

مع منطقة شاسعة وغنية ومعقّدة كهذه، تستطيع الولايات المتحدة أن تتعاون وأن تضافر الجهود لمواجهة التحديات الكبرى لعالم اليوم. لكن ذلك يجب أن يكون باحترام مطلق للمساواة في السيادة.

لقد تغيّر الزمن ولا تقبل أمريكانا بفرض مصالح الإمبريالية، كما لا تقبل بأن يتم استخدامنا في نزاعات الولايات المتحدة مع من ترى فيهم خصوماً استراتيجيين في بقاع أخرى من العالم.

لدى شعبنا من الأسباب ما يدفعه للتساؤل: لماذا نولي الاهتمام لمنتدى يُستدلّ على أن نتائجه ستكون متدنية الأهمية، وبحالات تغيّب كبيرة بين المشاركين، والذي قررت الولايات المتحدة مسبقاً إقصاء عدة بلدان من المنطقة عن المشاركة فيه؟

المشكلة هي أننا لا نستطيع تجاهل جهد إضافي، ولو كان فاشلاً، لاستعادة "عقيدة مونروي"، ولا نستطيع الامتناع عن فضح مهزلة دعوة بلدان المنطقة مجدداً إلى استعراض ذي طابع نيوكولونيالي. لدى الولايات المتحدة القدرة على منع حضور كوبا في لوس أنجلوس، لكن ليس لديها القدرة على إسكات صوتنا، ولا إسكات الحقيقة.

لقد تابع شعبنا هذه القضايا. وهو مطلع كما قليلين مثله، ويدرك الوضع الراهن الذي يعيشه هذا النصف من العالم. هو مشارك في صنع السياسة الخارجية وهو ضمانة السيادة والاستقلال في وجه الأطماع التسلطية الأمريكية. بالإضافة لذلك، يتمتع بميل للتضامن الدولي وحقاً مكتسباً بمتابعة أحداث المنطقة.

ستنعقد في لوس أنجلوس أيضاً، أيام 8 و9 و10، "قمة الشعوب". الأنباء الواردة تشير إلى أن الأمر سيتعلّق بمشهد حقيقي للتداول والمواجهة في الأفكار، بجدول أعمال واسع وملتزم بأكثر اهتمامات مجمل المنطقة عجالة، بمشاركة منظمات اجتماعية ونقابات ومجموعات شبابية وجمعيات مجتمعية وأشخاص ذوي وعي اجتماعي عميق بشكل عام.

كل شيء يدلّ على أنه سيحدث هناك منتدى سياسيّ هام، وفي هذا المحفل تؤسفنا استحالة التمتع بحضور كبير مباشر. نعرف أنه كان يمكن لمشاركة الكوبيين أن تترتّب عن مساهمة هامّة، وأن تشكل تجربة لكم عند الاستماع إلى مشكلات ووجهات نظر آلاف المشاركين من بقاع مختلفة سيكونون حاضرين في المحفل.

في لحظة كالتي تعيشها اليوم شعوب أمريكا اللاتينية والكاريبي، من الحكمة العودة إلى خوسيه مارتيه. بحثه الرائد الذي حمل عنوان "أمريكانا" يحافظ على سريان مفعول مدهش. في هذا البحث، يقدم بطلنا الوطني تعاليم ودروس لكل زمان. يقول مارتيه:

"... من واجب أمريكانا الملحّ أن تُظهر نفسها كما هي، واحدة في الروح والنية، منتصرة سريعة لماض خانق، ملطخة فقط بدماء الأسمدة التي تستخرج من سواعدها القتال مع الخراب، ومن الأوردة التي تركها أسيادنا ملدوغة. إن ازدراء الجار المهول، الذي لا يعرفها، هو أكبر خطر على أمريكانا. وهو أمر ملحّ، لأن يوم الزيارة بات قريباً، فليعرفها هذا الجار، وليعرفها عاجلاً، حتى لا يزدريها".

شكراً جزيلاً