Menu

الاستلابُ (Alienation) عندَ ماركس

خالد فارس

نشر هذا المقال في العدد 38 من مجلة الهدف الإلكترونية

يغيبُ إلى حدٍّ بعيد، عن الأدبيّاتِ الاشتراكيّةِ العربيّة، مفهومُ الاستلاب، الذي أضافَهُ ماركس إلى أعمالِهِ من وحي فلسفة هيجل. تَشبَّعَت الخطاباتُ الاشتراكيّةُ بمفاهيمَ اشتراكيّةِ المصانع، التي سادت إبّان الحقبة السوفيتيّة. وتجدرُ الإشارةُ هنا إلى أنّ ماركس تطرّق إلى الاستلاب في كتاب المسألة اليهوديّة عام 1843، وربطه في السياسي ببعدٍ اقتصاديّ، عندما أشار إلى دور المال عنصرَ استلابٍ للإنسان، ثمّ وضع له إطارًا اجتماعيًّا اقتصاديًّا في كتاب المخطوطات الاقتصاديّة والفلسفيّة الذي صدر في 1844، الذي قد تمَّ نشرُهُ بعدَ وفاة ماركس، ولم يتمكّن فلاديمير لينين ولا حتّى ستالين من الاطّلاع عليه، حيث نُشِرَ الكتابُ عام 1932 باللغة الألمانيّة، وأوّل نسخةٍ إنجليزيّةٍ نُشرت عام 1959. لذلك يمكننا القولُ: إنّ الذين يقرأون ماركس باللغة الألمانيّة كان بإمكانهم قراءة الاستلاب بعد 1932، وغيرهم بعد عام 1959. ولا تشيرُ الأدبيّاتُ اللينينيّةُ إلى دور مفهوم الاستلاب، ولم يتمَّ تأصيلُهُ في الفكر اللينينيّ، ممّا يطرحُ قضيّةَ وحدةِ النظريّة والممارسة أمام سؤال: هل سيتغيّر تفكيرُنا وممارستنا للفكرِ الاشتراكيّ بالاطّلاع على الاستلاب عند ماركس، خصوصًا أنّ المفهوم اتّخذ طابعًا ممنهجًا في الجرانديسة (1857/1858)، ثمّ بعدها في رأس المال: 1867 (رأس المال المجلد الأول) و1894 (رأس المال المجلد الثالث، نشره إنجلز بعد وفاة ماركس)؟

الاستلابُ عندَ ماركس نظامُ هيمنةٍ على الأفراد والمجتمع

انكشافُ الإنسانِ على آليّات هيمنة، تنتقصُ من قِواهُ الذاتيّة، وتؤدّي إلى استلاب سُلْطَتِهِ على شؤونِ حياته. يتدرّج الاستلابُ من جزئيٍّ إلي استلابٍ إكراهيٍّ عنفيٍّ كلّيٍّ (الاحتلال والحروب). يتغلغلُ الاستلاب في سياقات التطوّر الإنسانيّ المتنوّعة، فيرتبطُ في المعنى المتضمّن في الغاية من تجربةٍ إنسانيّةٍ عَيْنِيَّة.

على عكس الفيلسوف إيمانويل كانط، الذي يعدُّ أنّ هناك ثنائيّة: الحريّة والضرورة الحتميّة (إمّا حريّة وإمّا لا حريّة). لا يقبلُ ماركس أن تقول عن تجربةٍ ما: إنّها الحريّة. فالحريّةُ درجاتٌ ومستويات، ترتبطُ في الواقع العينيّ الذي يعيشُهُ الإنسان، ويَصحُّ القول: إنّ واقعًا ما، فيهِ حريّةٌ أكثر. يرفض ماركس نعت الليبراليّة بأنّها الحريّة - كما يدعونا كانط - إلا أنّه يمكن القول إنّ فيها حريّةً أكثرَ من واقعٍ آخرَ ودرجةَ استلابٍ أقلّ. بذلك يُحْضِعُ ماركس الأشياءَ الحياتيّةَ إلى تقييماتٍ نسبيّةٍ في سياق الاستلاب، ولا تشكّلُ أيّ حالة استلاب، حالة مُطْلقَة، تعبّر عن كلّ شيءٍ في تاريخ التطوّر الإنسانيّ.    

الاستلابُ مفهومٌ في التاريخ

يَتَحَرّكُ مفهومُ الاستلاب عبرَ مراحلِ التاريخ البشري وَفْقًا لجدليّة التناقضات بين الواقع الحاليّ والممكن. الحريّة في مرحلة الإقطاع ليست كما في الرأسماليّة، التي تختلفُ عن الاشتراكيّة في سعيها إلى تناقص آليّات الاستلاب لتكونَ الأقلَّ نوعيًّا. يخضعُ الاستلابُ إلى معادلة السابق واللاحق، ولكن لا يوجدُ سابقٌ أصليٌّ أو نموذجٌ أصليٌّ تبدأُ منه الأشياء، لكلّ حالة استلاب تاريخٌ يُمَيّزُها، في أنّ لها سابقًا ولاحقًا يحدّد المضمون والسياق العيني الفريد لها. التماثلُ بين حالات الاستلاب نقيضُ التفكير التاريخي.

الاستلابُ ليسَ حُكْمًا قِيَمِيًّا؛ لأنّ الاستلاب جزءٌ من التاريخ، ولا يُقْرَأُ التاريخُ على طريقةِ أَخْلَقِةِ الفِعْلِ الاجتماعي، بل على أساس تَمْييزِ مرحلةٍ تاريخيّة، تُعَبّرُ عن ذاتها ومكنوناتها وغاياتها السياسيّة. فعندما جَمَعَ الخليفةُ عثمان بن عفان، القرآنَ؛ اشترط أن تكون لغةُ قريشٍ هي اللغةُ المهيمنة؛ لكيلا يكون هناك قراءاتٌ بلهجاتٍ مَحَليّةٍ تعبّر عن اتّجاهاتٍ في التأويل؛ فالذي قام به عثمان بن عفان هو استلابُ القراءات القرآنيّة من الآخرين، حتى يقوم الجميع بعد ذلك، وهو ما حصل إلى يومنا هذا، بالتوائم، أو إعادة موائمة أو تخصيص القراءة، على نحوٍ مِقياسيٍّ - مَرْجِعيّ.

جَسَّدَ عثمان بن عفان المؤسّسة التي لديها آليّاتُ هيمنةٍ على الآخر، وقد تصبح القراءةُ الحاليةُ سابقًا للّاحق في المستقبل، يتوالدُ منها استلاباتٌ جديدة، من آليّاتِ هيمنةٍ جديدة.

عندما نفهمُ لماذا تمّت هذهِ العمليّة، ككل، وما هو دورُ نوعِ الاستلاب، سنجدُ أنفسَنا أمامَ سؤالٍ آخر، ليس دينيًّا وليس ميتافيزيقيا: ما هي الحاجةُ التي تنامت للقيام بهذه العمليّة، وكان من الضروري استلابُ القراءات، سنجدُ أنَّ الأمرَ مرتبطٌ بترسيخِ سلطةٍ مركزيّة، هذا هو سؤال التاريخ عند ماركس "كلّ صراعٍ هو صراعٌ سياسيّ"، ولو لم تكن هناك حاجةٌ لترسيخ سُلطةٍ مركزيّة، ما كان هذا الاستلاب قد حصل.    

بخصوص علاقة الأيديولوجيّ الدينيّ في السياسي، نشيرُ إلى أنّ مصدرَ أو مركزيّةَ المعرفة في تلك الفترة، هو اللهُ الواحد، ومن ثَمَّ، لا بدَّ من توحيد مصدر المعرفة هذه، عن طريق توحيد قراءات القرآن. سيقولُ لنا ماركس إنّه في حقبة العَلْمانِيّة، وبعد حدوث الثورة الكوبرنيكيّة، فإنّ مصدر المعرفة تَغَيّرَ وأصبح الحياة (انتقلنا من نظريّاتٍ تقوم على مركزيّة الأرض إلى مركزيّة الشمس). لذلك، تشكّلت قِوًى، ستستخدمُ الاستلاب من أجل ترسيخ سُلطَة دُنْيَوِيَة (البرجوازيّة)، وهذا ينقلنا إلى موضوع البُنْيَة.  

الاستلابُ بِنْيَة:

عزّزت الأزمةُ الاقتصاديّةُ التي حدثت عام 2008، زخمَ نظرية ماركس في الاقتصاد السياسي، عندما نقض الافتراض التاريخي الذي نَظَّرَتْ له البُرجوازيّة، بأنّ تحويل المجتمع إلى أفراد، يسعى كلٌّ منهم إلى أن يكون فاعلًا في السوق-Economic Agent، سيقود ذلك إلى تنظيمٍ ذاتيٍّ للسوق، ولا داعي لتدخّل الدولة.

جاءت الأزمةُ لِتُعيدَ تأكيد فشل هذا الافتراض التاريخيّ، وأنّ تدخّلَ قوّةٍ من خارج السوق، الدولة، أمرٌ ضروريٌّ لبقاء الأسواق، ولو أنّ الأسواق هي التي تتحكم بالدولة، سيؤدى ذلك إلى تدمير الدولة، لهذا يجب أن تحافظ الدولة على بقائها نسبيًّا، بعيدًا عن السوق الذي يجنح نحو تدمير ذاته. وفي الوقت ذاته تبقى الدولة محافظةً على نوعٍ من الاستقلال النسبيّ، عن الأغلبية السياسيّة. الدولةُ ليس لها شأنٌ خاصٌّ بها، فهي بحاجةٍ إلى مجالٍ أو حيّز، من خارجها، لكي يكونَ شأنها، أو موضوعها. الدولةُ تأخذُ شرعيّتها من خارجها، بحاجةٍ إلى أن تُنْشِدَ هذهِ الشَرْعِيّة إمّا من الدين أو المَلِك أو الهُوِيّة أو القوميّة أو الأسواق، أو خليط من كلّ ذلك...

يحدّد ماركس دور الدولة الحديثة في جنوحها نحو الأسواق الرأسماليّة، مَعقِلًا لها، للاستحواذ على شرعية، لكنّها تتخطّى محدوديّة الأسواق التي تسيطر عليها شركاتٌ كبرى وتدفع نحو مَؤْسَسِةِ الأسواق على أساس فهمها للسوق، الذي يرتبط بمصلحتها المباشرة. تجنح الدولةُ نحو كونية قوانين الأسواق، بما لا يسمح لشركةٍ محدّدةٍ أن تحتكر السوق، ولكي تحمي الأسواق من تدمير ذاتها.    

اعتقد هيجل أنّ التسويةَ بين الدولة وهذه القوى ممكنٌ على أسسٍ من العقلانيّة، وأنّ التفكيرَ الفلسفيَّ التنويريّ، يؤدّي دورًا إيجابيًّا. اختلف معه ماركس، وعدّ أن المسألة ليست فكريّةً أو ذهنيّة، بل بِنية الدولة بذاتها، التي تواجه المجتمع، لاستلاب المجتمع مركزيته لصالح مركزية الأسواق، التي بدورها تقوم على المنفعة الذاتية للشركات، ما من شأنه ضياع السلعة العامة الاجتماعيّة.

أراد هيجل أن يقول إنّ دور الدولة ضروريٌّ، وأنّ الاستلاب جزءٌ عقلانيٌّ في بِنْيَة الدولة يستوعبه المجتمع، ويعيد تنظيم نفسه على أساس العقلانيّة التي تتناتج من الاستلاب. أما ماركس عدّ أن تغيير هذه البِنية هو الضروري، وليس بقاءها. الدولةُ عند ماركس تمثّل سلطةً تمارس استلاب، هذه السلطة في حقيقتها قِوى السوق وقوى هيمنةٍ اجتماعيّةٍ تتمثّل في اتّجاهاتٍ أيديولوجيّةٍ عنصريّةٍ دينيّةٍ وعقائديّة. السياسةُ عند ماركس هي سياسةُ الدولة، مؤسّساتٌ منفصلة، تمارس استلابها من خلال جهاز الدولة، الذي يستطيع التدخّل في حياة الناس، ويقرّر من خلال سياساتٍ أو من خلال أدواتٍ إكراهيّة، ما يحقّق استلاباتٍ من نوعٍ ما.

 ثلاثةُ مستوياتٍ متداخلة متعاقدة، للاستلاب: تمثّلُ الرأسماليّة الاستلاب الاقتصادي (استلاب العمال الفردي، والجماعي بالجملة)، والعنصريّة والفاشية واليمين الأوروبي والدين السياسيّ القوميّ الذي يتجسّد في قِوًى دولية: نظام للاستلاب السياسي، والأبويّات الاجتماعيّة في شكلها الفقهي الديني أو الحزبي أو العشائري أو الطائفي ومعهم الإعلام الغربيّ والعربيّ، نظام استلاب ثقافي.   

 "الموتُ في التماثلِ والحياةُ خلاف": مهدي عامل

في دعوة مهدي عامل نُدْرِكُ حكمةً مفادُها، أنّ تمييز المفهوم ضروريٌّ لكيلا نقعَ في ورطة التماثل، ولكن تمييز المفهوم نظريًّا، بشكلٍ مَحْض، ليس مثل تمييزه في سيرورةٍ تاريخيّةٍ للواقع العيني تقييمًا للواقع.

سَارَ مَهدي على دَرْب آلتوسير في مفهمة الماركسيّة، في سياقٍ نظريٍّ مَحض. اجتهد في تمييز المفاهيم من خلال مجهودٍ نظري، متفارقًا مع التقييم العيني للواقع، خشيةَ أن يقع في التجريبيّة. نَظَرَ إلى الماركسيّة على طريقة الفيزياء النظريّة، أو على طريقة نيوتن عندما وضع نظريته في الجاذبيّة، حيث أوجدها من بحثٍ نظريّ، وليس من تقييمٍ عيني، فانتمى مهدى عامل إلى مدرسة التفكير النظري المحض، لبناء إطارٍ تفكيريٍّ معرفيٍّ للماركسيّة، فأصبح المفهوم النظريّ هو مصدرُ المعرفة! لذلك يغيب عن كتابات مهدي، تقييم سيرورات الاستلاب في الواقع العربي، واكتفي فقط في بناء نموذجٍ مفاهيميّ، من مختبرٍ ذهنيّ، بأدواتٍ ماديّة.    

 الاستلابُ واقعٌ اجتماعيٌّ

من بين كُثُر، أكَّدَ المفكّر الماركسيّ، ديفيد هارفي، على أنّ الاستلاب يشعر به الأفراد والجماعات في مواقعَ عينيّة، وفي أوقاتٍ محدّدة، تُنْتِجُها أنظِمةُ استلابٍ محليّةٍ وكونيّة. انتزاع الأراضي من الناس، واحتكار مساحاتٍ اجتماعيّةٍ لصالح جماعاتٍ على حساب المجتمع ككل، والإكراه في العمل، وتحويل بعض أنماط العمل إلى أعمالٍ لا قيمة اجتماعيّة لها في تطوير القدرات الفرديّة. نضيف لها، الاحتلال الإسرائيلي الذي مارس الاستلاب العسكريّ على فلسطيني غزة وانتزاع أراض لبناء مستوطناتٍ عليها، وتحويل فلسطيني 1948 إلى أفرادٍ في نظام مواطنةٍ جِنْسِيّة، لاستلاب حقوقهم الجماعيّة ومصيرهم السياسي. ولا نتردّد في اعتبار الحصار العربي على الشتات في مخيّمات وجنسيّة ومنع العَوْدة، هو استلابُ الحقوق السياسيّة والمدنيّة للفلسطينيّ.