تشكّل أي بناء حزبي أو بنية سياسية يقوم بالأساس على عقد اجتماعي سياسي محدد، يوضح مجموعة الأهداف التي يأتلف وينتظم لأجلها هذا المجموع من الأفراد، على أرضيةٍ مشتركة، وضمن بنى وهياكل تحدد الصلاحيات الخاصة بنظام هذه البنية وآليات العمل فيها. ولكن هذا كله يصبح معرضًا للكسر والارتباك في حالات التبدل الحاد للظروف الموضوعية، وتحت وطأة هجمات القمع العنيف، وهو ما تتعرض له معظم أحزاب اليسار في عالمنا العربي وتعرضت له تاريخيًا معظم القوى الثورية حول العالم، أي أنّ الظروف الملازمة للعمل الثوري الرامي لإحداث تغييرات اجتماعية وسياسية كبرى هي ظروف القمع والملاحقة ومحاولات تمزيق البنى المنظمة، وهو ما يجعل من دور النظام والهيئات الحزبية في حراسة "النظام الداخلي" أقل تأثيرًا وقدرة، ويضع العقد الاجتماعي والسياسي والإنساني بين المجموع البشري المشكِل لهذا الحزب أو الجسم النضالي في خط الدفاع الأوّل عن بقائه ووحدته وقدرته على المواجهة، أي تصبح علاقات الرفاق بالفكرة والأهداف وقناعتهم بها، وعلاقة الرفيق بالرفيق والوفاء لمن ضحى والدفاع عمّن ظلّ يناضل هي المحركات الإنسانية الدافعة بالمعنى الأكثر فردية في ممارسته والأكثر جماعية في معناه وهدفه وسياقه.
إنّ الميل الهائل في حيازة أدوات القتل وشروط الهيمنة لمصلحة العدو الصهيوني، وكذلك لمصلحة القوى الرجعية المتحالفة معه، أو المعرقلة لمسيرة النضال والتحرّر، يضع ثقلاً هائلاً على القوى الثورية في معركتها دفاعًا عن الحقوق الفلسطينيّة وعن مستقبل العروبة، كما يعمق حالة الضغط على الأفراد المناضلين ويفرز أوضاعًا وحالات من الابتزاز والقهر المسلّط على أيٍ منهم، ويمعن في اختبار جديّة تمسكهم بالفكرة والهدف والانتماء، وما يحرس صمودهم في هذا الاختبار، هو تلك الروابط الإنسانية بين الرفاق وبعضهم البعض، والخبرة الايجابية بتجارب العمل والعيش ضمن بيئة من العلاقات الرفاقية السليمة الخالية من الاستغلال، والتي تحضر فيها قيم البذل والعطاء والتضحية والاحترام والمساواة.
إنّ الحديث عن الشهداء العظماء الذين قدموا الأرواح والدماء فداء للوطن والقضية لن ينتهي، ولكن قليل ذلك الحديث عن الالتزام الرفاقي الذي تخلقه هذه البيئة وما يسودها من نماذج راقية ومتقدمة للعلاقات الإنسانية، عن إدراك عميق لمعنى أنك تعرف يقينًا وعلى نحو دائم أن هناك من هو مستعد لفدائك بدمه وروحه، لأنك تتشارك معه ذات الطريق وذات الأهداف والقيم، حتى لا يكون الحديث محاضرة حول المثالية، يجب التنويه لحقيقة أن في ساحة الاشتباك مع العدو كما في مواجهة الاختبارات اليومية المعيشية القاسية، أو في ظل الخلاف في وجهات النظر تحت وطأة الاشتباك أو حول أساليب خوض الاشتباك قد تنتج تباينات بل وحتى نفور شخصي، ولكن ما يبقى راسخًا هو إدراك ما قدمه من تختلف معه دفاعًا عن هذه المسيرة وما هو مستعد لتقديمه، وهذا لا ينسحب فقط على العلاقات الرفاقية داخل الحزب الواحد، بل كذلك في العلاقة بين مكونات العمل والنضال المختلفة في الساحة الوطنية، وكذلك على امتداد مساحة النضال العربي.
نفي لإنسانيتنا التي شيّد هذا النضال طريق للدفاع عنها، كما نقاتل ضد عدونا نقاتل ضد أي انحلال في القيم، وفي الإيمان المتجذّر بالنضال المشترك كأداةٍ لتحقيق الانتصار، ونواجه أشكال الانعزالية والتقوقع والردة الرجعية، وأشكال الاسترجاع الجبان لمعايير غير إنسانية أو ديمقراطية أو نضالية في تحديد العلاقات مع مكونات النضال الوطني، مؤمنين بحق هذا الشعب والأمة العربية الحية، بأن يرتقي المناضل والسياسي والمقاتل لممارساتٍ صادقة في إنسانيتها ومتمسكة بانتمائها وسعيها في الدفاع عن حقوق هذه الجموع في مستقبلٍ وحياةٍ أفضل.