Menu

شرح المبسط لقوانين الديالكتيك

غازي الصوراني

تمهيد:

أصل كلمة الديالكتيك اغريقي ...دياليجين.. وتعني الحوار بين خصمين يعتمد كل منهما على حجج وحيثيات الآخر لتقديم حججه ودفاعه المضاد..  وفي عصر النهضة كان الفيلسوف الالماني العظيم جورج ويلهلم فريدريك هيجل (1770 - 1831) أول من نظر إلى العالم الطبيعي والتاريخي والروحي بوصفه عملية؛ أي في حركة دائمة وفي تغير وتطور ، وهنا تكمن مأثرته التاريخية العظيمة. لقد صاغت فلسفة -هيجل- بشكل منظم النظرة الجدلية-الديالكيتكية- إلى العالم ( اثبات – نفي – اثبات )، وكانت مصدراً رئيسياً من مصادر فلسفة ماركس... اما نقطة الانطلاق في فلسفة "هيجــل" ، فتتلخص فيما يلي : إن الوحدة الأولية التي تشكل الأساس الجوهري للعالم هي: "وحدة الوجود والفكر" ، حيث يرى "هيجــل" أن الفكر "يغيــــر" وجوده إلى شكل مادة، طبيعة، وهذه المادة او الطبيعة عنده هي وجود آخر لهذا الفكر القائم موضوعياً والذي يسميه هيجــل "بالفكرة المطلقة"؛ وهكذا إن العقل ليس ملكة خاصة بالإنسان بل هو الأساس الأوَّلي للعالم، ولذا فان العالم يتطور وينمو وفقاً لقوانين الفكر أو العقل.. وبهذا يكون الفكر أو العقل عند هيجــل هو الجوهر المطلق للطبيعة والإنسان والتاريخ العالمي( والعقل عنده ايضا مستقل عن الإنسان والإنسانية )؛ على ان هذا العقل او الفكر هو ماهية جوهرية موجودة لا خارج العالم بل في العالم ذاته بوصفها ( أي الماهية ) المستوى الداخلي لهذا العالم، وهنا تكمن الرؤية الفلسفية والمنهجية الجدلية العبقرية عند فيلسوفنا العظيم هيجل الاب الحقيقي للديالكتيك… وجاء كارل ماركس ليتفاعل مع الديالكتيك الهيجلي، لكن من خلال توقيفه على قدميه بدلاً من وقوفه على رأسه حسب تعبير ماركس .

المنهج الديالكتيكي الماركسي:

يتميز هذا المنهج عن المنهج الميتافيزيقي بميزات أربع هي تباعاً:

النظر إلى الطبيعة بوصفها كلاً موحداً ومتماسكاً ترتبط فيه الموضوعات والظاهرات ارتباطاً عضوياً فيما بينها ويشترط بعضها بعضاً.

النظر إلى الطبيعة بوصفها في حالة حركة وتبدل مستمرين، وتجدد ونمو لا ينقطعان إذ ثمة دائماً شيء ما يولد وينموا وآخر ينحل ويزول.

النظر إلى سيرورة النمو بوصفها انتقالاً من التبدل الكمي الخفي إلى التبدل الجذري الكيفي، والنظر إلى التبدل الكيفي بوصفه تبدلاً ضرورياً يحصل بقفزات ويسير أبداً إلى أمام من القديم إلى الجديد ومن البسيط إلى المركب ومن الأدنى إلى الأعلى.

النظر إلى موضوعات الطبيعة وظاهراتها من زاوية تناقضها الداخلي، أي النظر إلى جانبها السالب وجانبها الموجب، إلى ماضيها ومستقبلها، إلى ما يختفي فيها ويظهر، لأن مضمون النمو الداخلي هو صراع الأضداد ولأن كل شيء يخضع للظروف والزمان والمكان.

أما المادية الفلسفية الماركسية فتنطلق من مبادئ ثلاثة يعارض كل منها مبدأ في المثالية الفلسفية:

المبدأ القائل أن العالم مادي بطبيعته، وأن مختلف ظاهراته ليست سوى أوجه مختلفة من أوجه المادة المتحركة وذلك على عكس المثالية – التي يختصرها هيغل هنا على ما يبدو – التي تنظر إلى العالم بوصفه تجسيداً للفكرة المطلقة أو الروح الكلي – لكن إثبات مادية العالم لا يتوقف هنا، بل يقترن بالقول إن حركة المادة والعالم تحصل بموجب قوانين ضرورية، وهي القوانين التي يثبتها المنهج الديالكتيكي في علاقات الظاهرات وتشارطها.

المبدأ القائل أن العالم المادي هو واقع موضوعي قائم خارج وعينا به وبمعزل عنه. وأن المادة او الكون أو الطبيعة، هي المعطى الأولي في حين ان الوعي أو الفكر هو المعطى الثاني المشتق لأنه نتاج للمادة ولدرجة عليا من درجات تطورها وكمالها.

المبدأ القائل إن العالم، وقوانينه، قابل لأن يعرف معرفة كاملة. وإن معرفتنا بقوانينه هي معرفة مقبولة عندما تؤكدها التجربة والممارسة.

أيهما أسبق الوعي أم المادة؟

يتضح مما تقدم أن جوهر المسألة الفلسفية يتجلى في السؤال التالي: أيهما أسبق الوعي أم المادة؟

يعتبر السؤال عن أولوية الوعي أو المادة سؤالا مركزيا في الفلسفة، ولو أردنا ان نصوغه بطريقة سلسة ومبسطة لقلنا: أيهما يسبق الآخر هل يسبق الوعي المادة أم تسبق المادة الوعي؟ في واقع الامر أهمية هذا السؤال تنبع من التركيب الاكثر وضوحا وأهمية وهو: هل يوجد تفكير أو وعي خارج المادة وهل توجد مادة خارج الوعي وبدونه؟

للوهلة الاولى قد نتسرع بوضع إجابات اعتباطية تنزع إلى طبيعة التكوين الذاتي الثقافي لكل منا ، ولذا فنحن نحتاج لشيء من الصبر للحكم على الموضوعة أو اختيار إجابة.

قبل أن نتعرف على الخلاف في جذوره حول أولوية المادة أو الوعي علينا أولا أن نعي مقصود المادة ومقصود الوعي في ضوء دراستنا ونقاشنا وفهمنا للماركسية وفلسفتها، فبالنسبة للمادة هي الموجود المادي بكل ابعاده مستقلا عن الروح ومستغن عنها ، أو المادة هي الوجود الموضوعي القائم بذاته خارج وعينا. أما كيف هي المادة؟ فهذا سؤال يجيبنا عليه العلم عن طبيعة المادة وخواصها....الخ. إذن ما هو الوعي الآن؟ يتلخص الوعي فهماً بكونه الإدراك، والإدراك الموضوعي تحديداً ، لأن الإدراك الحسي المباشر ظاهرة توجد لدى الإنسان والحيوان على السواء بينما يتميز الإنسان بإدراك موضوعي يؤهله للتفكير المنطقي أي القدرة على ربط الأسباب بالمسببات ، أو التفكير المنتظم بلغة مهما بلغت درجة بدائية هذه اللغة.

اتخذت المادية إذن كفلسفة موقفا مبدئيا علميا من مسألة أولوية المادة ؛ ذلك أن عمليات الإدراك والتفكير وتكوين الوعي لا يمكن أن تتحقق إلا في بيئة مادية ، وبالتالي فوجود المادة شرط أساسي لا غنى عنه في عملية الوعي ، تدلنا القوانين العلمية الناظمة للوجود المادي على استحالة تكوين وعي بدون مادة ، أي أن الفرض القائل بإمكانية تحقق وعي بدون زمان أو مكان أو حركة فرض غير ممكن التحقق، فالوعي إذن مظهر من مظاهر وجود المادة.

أهمية القول بأولوية المادة:

 إن القول بأولوية المادة معناه رفض كل أطروحات الفلسفة المثالية التي تحاول تفسير العالم والوجود الانساني انطلاقا من ما ورائيات أو أي وعي سبق المادة، وبالتالي فهي دعوة لفهم واقع الانسان ووجوده انطلاقا من وعي ما هو مادي ، ووعي ما هو مادي إنما يستند للعلم ، فالعلم هو الذي يجيبنا عن ماهية المادة ، وبالتالي فإن الفلسفة المادية إنما تبني مقولاتها كلها منطلقة من الوعي العلمي الذي يكون موضوعه الأساسي الوجود المادي للكون والإنسان والمجتمع، وقد إتخذ مارك  موقفا أبعد من ذلك عندما طالب بانتقال الفلسفة من تفسير العالم إلى تغييره ، جوهر هذا الكلام المطالبة بتوظيف القوانين المادية التي تحكم الوجود في تغيير الوجود نفسه ، وبالتالي إخضاع الوجود الموضوعي للإنسان وتمكينه من خلال فهمه المادي للوجود من تغيير هذا الوجود في مصلحته نحو واقع أكثر تطورا.

تعرف المادية الجدلية في معظم المراجع على النحو التالي: أنها قوانين ومبادئ ومقولات تعمل في جانبين ، جانب المعرفة العلمية ( العلوم المختلفة ) ، والجانب الآخر هو الحركة المجتمعية وتطور المجتمع تبعا لهذه القوانين . أي أنها تطبق في العلوم المعرفية وعلم الاجتماع على حد سواء، إذن يمكننا القول، إن المادية الجدلية هي ذلك العلم الفلسفي الذي ينطلق من أولوية المادة مستخدما قوانين الجدل المادي لفهم الوجود وتطوره. طبعا ليس بمقدورنا أن نقف على المعنى المراد في التعريف المتقدم إلا عندما نقف على قوانين الجدل المادي ونفهمها جيدا ، إلا أن الانطلاق من دقة التعريف الذي سنعود لفهمه بدقة أكبر مع فهمنا لقوانين الجدل يوفر لنا مساحة التفاعل الجدلي أيضا مع التعريف نفسه وبالتأكيد سنجد أنفسنا ونحن نعود إليه نعيد صياغته أو فهمه بشكل أكثر نضجا .

قوانين الديالكتيك الأساسية هي:

- قانون تحول التبدلات الكمية إلى تبدلات كيفية.

- قانون وحدة المتناقضات وصراعها ( صراع الاضداد).

- قانون نفي النفي.

وكل قانون من هذه القوانين يعكس ناحية جوهرية ما من نواحي التطور الموضوعي، وحدّه، وشكله، وعامله. والى جانب هذه القوانين يوجد عدد وافر من المقولات أمثال العلاقة العامة للظواهر، والسبب والنتيجة، والمحتوى والشكل، والعرضية والضرورة، والجوهر والظاهر ... الخ.

إن قوانين الديالكتيك ومقولاته هذه لم تخترع اختراعاً، بل استخلصت من الطبيعة والحياة الاجتماعية، إنها تعكس القوانين الموضوعية القائمة بشكل مستقل عن وعي الإنسان.

إن الديالكتيك ليس مجرد أداة لإثبات الحقائق الجاهزة، بل هو مرشد للبحث في الظواهر والعمليات الحقيقية، هو طريقة معرفة الحقيقة الموضوعية.

إن قوانين الديالكتيك تعمل في جميع الميادين: في الطبيعة العضوية وغير العضوية، ففي الطبيعة العضوية تعمل في عالمي النبات والحيوان، كما تعمل في المجتمع في مختلف المراحل التاريخية، وهي عبارة عن قوانين التفكير في جميع مجالات المعرفة، كالرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والبيولوجيا، والاقتصاد السياسي، وعلم الاجتماع ... الخ.

إن التطبيق الحسي للديالكتيك كطريقة على الظواهر الحسية، هو وحده الذي يُؤَمّن النجاح في المعرفة والنشاط العملي، لهذا كان مطلب التحليل الحسي للواقع إحدى أهم خصائص الديالكتيك الماركسي وأكثرها تأثيراً ولهذا بالذات نجد أن أهم مبدأ للديالكتيك يقول: لا وجود للحقيقة المجردة والمطلقة، والحقيقة هي دائماً حسية ونسبية...

- قانون الانتقال من التبدلات الكمية إلى التبدلات النوعية:

  يصاغ هذا القانون وفق الأسس التالية:

1- إن كل ظاهرة أو عملية هي عبارة عن وحدة كمية وكيفية، بعبارة أخرى، إنها تتسم بتعين كيفي وكمي يميزها هي وحدها.

2- إن التغيرات الكمية تجري بصورة تدريجية، رتيبة متواصلة إلى حد معين، وفي نطاق هذا الحد لا تسبب تغيرات في الكيفية المعنية، كما أن التغيرات الكمية تتسم بالحجم والدرجة والكثافة ويمكن قياسها والتعبير عنها برقم معين بواسطة وحدات قياس مناسبة.

3- عند وصول التغيرات الكمية الى حدها الأقصى ( ويسمى حد القطع ) ، فانها تؤدي  الى تغيرات وتحولات كيفية/ نوعية جذرية تفضي إلى تشكل كيفية جديدة.

4- تجري التغيرات الكيفية بشكل قفزه، أي انقطاع في التدرج، وليس لزاماً أن تجري القفزات بشكل انقطاع خاطف، بل يمكن أن تستغرق فترة زمنية طويلة أو قصيرة (حسب الحالة في المجتمع أو الطبيعة أو الإنسان).

5- تتسم الكيفية الجديدة الناشئة نتيجة القفزة بخواص أو ثوابت كمية جديدة، وكذلك بحد جديد من وحدة الكمية والكيفية.

6- إن مصدر تحول التغيرات الكمية إلى كيفية والكيفية إلى كمية هو وحدة وصراع المتناقضات أو الأضداد وتنامي التناقضات وحلها.

ويسري مفعول قانون الجدلية (حول التغيرات الكمية إلى الكيفية والكيفية إلى كمية) على الطبيعة والمجتمع والفكر، وهو يتجلى تجلياً خاصاً في كل حالة بعينها، ولهذا يتطلب استخدامه فيما يتعلق بتنفيذ المهمات التطبيقية المتسمة بتفرد كبير القدرة على استخدام الموضوعات العامة للجدلية مع مراعاة المواصفات الفردية لكل حالة بعينها وكل مهمة بعينها.

إن الجدلية تؤكد بالاستناد إلى تجربة التطور التاريخي ، وبالتطابق التام مع معطيات العلم الحديث، أن التغيرات الكمية التدريجية لأية ظاهرة أو عملية تؤدي بالضرورة وبحكم قوانين التطور، إلى المرور عبر حد معين إلى تغيرات كيفية جذرية تنشأ في نتيجتها كيفية جديدة وظاهرة أو عملية جديدة.

ولذلك ، لا بد لفهم قانون انتقال التغيرات أو التبدلات الكمية إلى تبدلات نوعية ، من معالجة مفهومي الكم والنوعية، فعندما ندرس شيئاً ما يتبدى لنا، قبل كل شيء كيانه المحدد الذي يميزه عن الأشياء الأخرى، وهذا بالذات ما يكوّن نوعيته.

إن التحديد النوعي أمر ملازم لجميع الظواهر الاجتماعية، فالرأسمالية، مثلاً، عبارة عن نوعية معينة، عن مجموع عدد من السمات والصفات والنواحي الجوهرية بالنسبة لهذا النظام: كوجود طبقة ملاكي وسائل الإنتاج، وطبقة العمال المأجورين، واستثمار العمال من قبل الرأسماليين ... الخ، أما الاشتراكية، باعتبارها تشكيلة اجتماعية جديدة نوعياً، فتتمتع بصفات أخرى، من ملكية جماعية لوسائل الإنتاج، وانعدام العمل المأجور، والقضاء على استثمار الإنسان للإنسان.

هذان المثلان يتيحان لنا فهم أن النوعية هي، قبل كل شيء، ما يحدد الأشياء والظواهر، وبينها هي وحدة سماتها ونواحيها الأساسية التي تجعل منها هذه الأشياء والظواهر بالذات، لا غيرها.

وليست هنالك أية ظواهر أو أشياء مجردة من التحديد النوعي، فالكائن المجرد من كيانه النوعي غير ممكن الوجود.

إن النوعية تظهر من خلال الخواص، ورغم أن مفهومي النوعية والخاصية غالباً ما يستعملان بمعنى واحد، إلا أن بينهما اختلافاً. ولا يمكننا أن نعرف شيئاً عن كيفية موجود ما (أي عن الكيان المحدد الداخلي لهذا الشيء) إلا من الصفات الملازمة لهذا الشيء التي تتجلى فيها تركيبته.

فخواص الشيء يمكن أن تتغير تبعاً لتغير علاقاته مع العالم المحيط، كما يمكن أن تختفي أو تظهر بعض خصائص الشيء بدون أن يتغير هو نفسه أو نوعيته الأساسية.

مثال ذلك أن بعض خصائص الرأسمالية تتبدل في مرحلة الرأسمالية العليا، الإمبريالية (الاحتكار)، فتتحول المزاحمة الحرة إلى نقيضها، وبدون أخذ هذا التحول الهام بعين الاعتبار لا يمكن فهم الامبريالية المعاصرة وتحولها الى مرحلة العولمة.

 إن مفهوم الكمية هو أيضاً مقولة عامة تعكس ناحية من النواحي الهامة لأي شيء أو ظاهرة أو عملية، وتبرز الكمية أيضاً كتحديد للأشياء، إلا أنها، خلافاً للنوعية، تميز الشيء من ناحية درجة تطور خصائصه: كمقداره، وحجمه وعدده، وسرعة حركته، وبهر لونه ... الخ، فالطاولة، مثلاً، يمكن أن تكون كبيرة أو صغيرة، والصوت يمكن أن يكون طويلاً أو قصيراً، شديداً أو خافتاً ... الخ.

إن التحديد الكمي للظواهر الاجتماعية لا يعبر عنه دائماً، بمثل المقادير الدقيقة التي يعبر بها عن ظواهر الطبيعة اللاعضوية، ولكن لكل ظاهرة، وكل عملية تتمتع هنا أيضاً لا بناحية نوعية فقط، بل وبناحية كمية أيضاً، مثال ذلك مستوى تطور إنتاجية العمل، والقوى المنتجة، ووتيرات تطور الإنتاج في البلدان الرأسمالية ومقارنتها مع البلدان التابعة ، وغير ذلك من نواحي الحياة الاجتماعية، وعدد الناس العاملين عملاً منتجاً ودرجة استثمار العمال من قبل الرأسماليين ... الخ.

فالكمية يمكن أن تنقص أو تزيد، دون أن يفقد الشيء حالته النوعية، فالكمية هي صفة تحدد الشيء من الخارج أكثر مما تحدده من الداخل، وتبدو للوهلة الأولى وكأنها منفصلة عن النوعية، فإذا تبدل الشيء كمياً فإنه لا يتحول إلى شيء آخر ما دام التبدل لم يتجاوز حداً معيناً.

إلا أن تأثير التبدلات الكمية على الشيء يتبدى، بوضوح، عند زيادة هذه التبدلات، فخلال سير التبدلات الكمية تبرز بروزاً واضحاً، اللحظة التي يؤدي فيها أصغر تبدل في الكمية إلى تبدل نوعي جذري، يؤدي إلى نشوء نوعية جديدة ( لحظة الغليان ... أو الثورة ).

- وحدة شكلي التطور: الشكل الارتقائي والشكل الثوري - القفزات

إن تحليل التبدلات الكمية والتبدلات الكيفية للأشياء يدل على أن هذين الشكلين من التبدلات عبارة عن شكلين مختلفين للحركة رغم أنهما مرتبطان ببعضهما، ولكل منهما خصائصه.

فالتبدلات الكمية عبارة عن شكل ارتقائي للتطور، أما التبدلات النوعية فهي على العكس، شكل ثوري له.

وبما أن التبدلات الكمية والكيفية مرتبط بعضها ببعض، لذا نستنتج أن التطور هو وحدة التبدلات الثورية والارتقائية، وهو أمر له أهميته المبدئية الكبيرة، ويشكل إحدى النواحي الهامة في نظرية التطور الديالكتيكية.

التطور الارتقائي هو التبدل الذي يطرأ، بسببه على الكائن تبدل كمي تدريجي، أما التطور الثوري فهو تبدل الكائن تبدلاً نوعياً جذرياً ، بمعنى وصوله الى حد القطع . التبدل الثوري عبارة عن قفزة، عن توقف التبدلات الكمية التدريجية عن انتقال من نوعية إلى أخرى، وكل تبدل نوعي يتم بشكل قفزة.

ورغم جميع الفوارق القائمة بين الحركة الارتقائية والحركة الثورية، بين الحركة المتواصلة والحركة القافزة، فإن كلتيهما تشترط الأخرى، وتشكل طرفاً في عملية تطور واحدة: فالتبدلات الكمية تحضر القفزات، تحضر انقطاع تدرج التبدلات الكمية، والقفزة تخلق شروط التبدلات الكمية التالية.

لهذا كان تطور الطبيعة، والمجتمع، والفكر الإنساني يحدث لا وفق خط متواصل لا انقطاع فيه، بل وفق خط تنقطع فيه التبدلات الكمية التدريجية بقفزات، وبالانتقال من القديم إلى الجديد، وبنشوء تشكيلات جديدة نوعياً.

إن أهمية هذا القانون الطرائقية تكمن في أنه أولاً، يشير إلى طريق التطور العام الشامل لجميع ظواهر العالم الموضوعي، كما تكمن ثانياً، في أن هذا العام يتطلب للقيام بالعمل بنجاح أعظم، أن نجد، ونلتقط، ونفهم، بشكل محسوس، أشكال الانتقال النوعية الخاصة التي تعود لكل حادثة على انفراد (وهنا يتجلى دور العامل الذاتي/الحزب في زيادة التراكمات الكمية (التوسع التنظيمي) بصورة واعية وثورية من أجل توفير ظروف التحول النوعي).

إن قانون انتقال التبدلات الكمية إلى كيفية، يعكس ناحية من نواحي التطور الهامة، ويكشف عن سير التحولات النوعية للأشياء.

إلا أن نظرية انتقال التبدلات الكمية لا تجيب على سؤال ما هو مصدر كل تطور، بما فيه انتقال التبدلات الكمية إلى كيفية.

يجيب على هذا السؤال قانون ديالكتيكي آخر، هو قانون وحدة وصراع المتناقضات، قانون التناقضات كمصدر للتطور.

- قانون وحدة وصراع المتناقضات:

 قانون وحدة وصراع المتناقضات، هو قانون التناقضات كمصدر للتطور. فالتناقضات هي نواة الديالكتيك الماركسي التي هي مفتاح فهم جميع نواحي وعوامل التطور.

وفي هذا السياق، يمكن أن نضع صيغة لهذا القانون على النحو الآتي:

1- أن كل ظاهرة أساسية (جوهرية) في الطبيعة والمجتمع والفكر تنطوي على جوانب وصفات ومميزات ومنظومات ثانوية (عناصر) متضادة تتفاعل أو تترابط فيما بينها ترابطاً ضرورياً، أي أنها تندرج في وحدة.

2- هناك علاقة تناقض جدلي بين الاضداد المندرجة في وحدة.

3- إن مصدر الحركة، أياً كانت، ولا سيما مصدر التطور هو نشوء التناقضات الداخلية الأساسية واستفحالها وحلها، ويعتبر حل التناقضات العامل الحاسم والسبب الرئيسي للتطور.

4- يجري في سياق التطور انتقال بعض الأضداد إلى بعضها الآخر انتقالاً جدلياً. ويجري تصادم الأضداد وتفاعلها وتداخلها.

5- في نتيجة صراع الأضداد وتحولها المتبادل وتناقلاتها المتبادلة، وفي حصيلة حل التناقضات تنشأ ظواهر أو عمليات أو مميزات جديدة لا ارتدادية، لم يكن لها وجود من قبل.

ويرتدي قانون وحدة وصراع الأضداد طابعاً عاماً متعدد الأغراض، ولفهم هذا القانون أهمية فائقة، منهجية وأيديولوجية كبيرة. فالتناقضات هي "نواة" الديالكتيك الماركسي وهي مفتاح فهم جميع نواحي وعوامل التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في مجتمعنا الفلسطيني ومجتمعاتنا العربية.

لهذا فقانون وحدة وصراع المتناقضات يحتل مثل هذا المكان الرئيسي في الديالكتيك الماركسي، وليتحدد دوره وأهميته في أنه يكشف عن الدوافع والمصادر الداخلية للتطور لهذا يعتبر هذا القانون المحك الذي يكشف مدى علمية وحيوية هذه النظرية أو تلك من نظريات التطور.

- الخطوط الرئيسية للديالكتيك الماركسي عن قانون وحدة وصراع المتناقضات:

1. الأشياء والظواهر لوحدة المتناقضات... صراع المتناقضات هو مصدر التطور:

إن كثيراً من الفلاسفة البرجوازيين، في زماننا هذا، يضطرون إلى الاعتراف بحقيقة التناقضات، ولكنهم يحاولون القول بأن التناقض والتناحر القائمين مثلاً في الحياة الاجتماعية للمجتمع الرأسمالي، هما خالدان، ولا حل لهما، وبأن جوهر العلاقات المتبادلة بين الطبقات كأنه مستقر في عدم إمكانية التغلب على التناقضات الاجتماعية.

وهناك آخرون، يرون المتناقضات، بل ويشيرون إلى أهميتها أيضاً، ولكنهم يعتبرون أن حلها ممكن فقط في ميدان الدين، (كما هو الحال عندنا بالنسبة لحركات الاسلام السياسي).

الديالكتيك الماركسي ينطلق من المعطيات العلمية الموضوعية، والتجربة التاريخية للإنسانية، ويؤكد على أن جميع الأشياء والظواهر ذات تناقضات داخلية، وأن كل شيء هو وحدة متناقضات، وإن كل أشياء العالم المحيط بنا، وظواهره تتمتع بناحية إيجابية، وأخرى سلبية، لها ماضيها ولها مستقبلها، وصراع هذه الاتجاهات المتناقضة التي تحتويها الأشياء وظواهر العالم الموضوعي، هو مصدر التطور، وهو القوة المحركة له.

لو أنه لم يكن هناك تناقضات داخلية في الأشياء والظواهر، لو أنه لم يكن صراع بين الاتجاهات المتناقضة، لبقيت الأشياء والظواهر غير متبدلة، ولما أمكن حدوث التطور، والتبدل النوعي، ولبقي كل شيء في حالة الجمود. لو لم تقم، مثلاً، الطبقات البورجوازية في المجتمعات الاوروبية بنضال ضد الطبقات الاقطاعية الارستقراطية التي انقضى زمانها، لما انحلت التناقضات القائمة بين الطرفين، ولما ظهر عصر النهضة، لهذا فالماركسية تبقى غريبة عن الأفكار الانتهازية القائلة بانسجام الطبقات المتعادية.

إن صراع المتناقضات هو عملية معقدة لنشوء وتطور وحل التناقضات، ولهذه العملية درجاتها ومراحلها، وطابعها الخاص في كل درجة من هذه الدرجات، وبتعبير آخر، إن التناقضات الحسية ذات امتداد يطول أو يقصر، فيه بداية واستمرار ونهاية. لكن التناقض لا يكون مصحوباً دائماً بحدة مباشرة، فهو عادة، يتمتع في المراحل الأولى، بطابع فارق فقط، وهو الشكل الأولي للتناقض، ثم يتحول الفارق في سير التطور، إلى تضاد، أي تناقض أكثر تطوراً، وذلك عندما تعمد كل ناحية من نواحي التناقض إلى نفي الناحية الأخرى بحدة.

إن نمو التناقض على أساس صراع المتضادات يؤدي، بالنتيجة، إلى الازدواجية المتعاظمة للوحدة (الشيء) وهو، في النهاية يبلغ درجة في تطور التناقض، لا تستطيع معها المتضادات البقاء في الوحدة، عندئذ يحين زمن حل التناقض. ليس من حل للتناقضات إلا في الصراع، وعن طريق الصراع. إن التناقضات لا تتهادن أو تعيش حالة من السلم والهدوء، لكنها تتصارع، وعملية التطور، هي عبارة عن عملية تعاظم المتناقضات والصراعات الطبقية والسياسية والفكرية التي تستمر في تراكماتها الكمية حتى تصل الى لحظة التحول النوعي لحل هذه التناقضات وبداية مرحلة جديدة من التطور.

إن حل التناقضات الأساسية، الجذرية إنما يعني القضاء على القديم، ونشوء الجديد، ثم أن مرحلة حل التناقضات هامة جداً في التطور، فعندما يستنفذ القديم ذاته، ويصبح لجاماً، عائقاً في طريق الجديد، فإن التناقض بين القديم والجديد ينبغي أن يحل عن طريق انعدام القديم وظفر الجديد.

إن نسبية وحدة المتضادات هي التعبير عن أن تواصل الشيء أمر مؤقت، وأن الشيء له بداية ونهاية، وبهذا تفسر الصيغة الديالكتيكية الشهيرة القائلة بأن التناقض يدفع إلى الأمام.

نستخلص من كل ما تقدم، صياغة جوهر قانون وحدة وصراع المتضادات كما يلي : إن وحدة وصراع المتضادات هي القانون الذي بموجبه تصبح الاتجاهات والنواحي المتناقضة داخلياً، والكائنة في حالة الصراع، ملازمة لجميع العمليات، والظواهر، والأشياء.

إن صراع المتضادات يعطي الدافع الداخلي للتطور، ويؤدي إلى نمو التناقضات، التي تجد حلها في فترة معينة، عن طريق القضاء على القديم، ونشوء الجديد.

2. التناقضات الداخلية والخارجية:

إن ما قيل عن التطور عن طريق نشوء التناقضات الداخلية في الأشياء، والتغلب عليها يعطينا صورة عن طابع الحركة، أو التطور. فالحركة أو التطور، هو حركة ذاتية للمادة، أو تطورها الذاتي، والكلام لا يجري هنا عن أن التطور في الحياة الاجتماعية، يتم بنفسه، وبدون تدخل الناس، وبدون نشاطهم الفعال، أو أن الطبيعة تستطيع أن تتحول لصالح الناس بدون تأثيرهم عليها.

إن الطبيعة نفسها تتطور حسب قوانينها الخاصة من الأشكال الدنيا إلى العليا، إن الطبيعة غير الحية خلقت، عن طريق الحركة الذاتية، الشيء المغاير لها، نقيضها، أي الطبيعة الحية، والأمر كذلك في المجتمع أيضاً ليست القوى الخارجية، بل القوانين الخاصة بتطور التشكيلات الاجتماعية هي التي تؤدي إلى نشوء قوى داخل المجتمع المعين، تدفعه إلى حتفه وتحوله إلى نقيضه. أما أسباب أو مصادر هذه الحركة الذاتية والتحول، فهي التناقضات الداخلية، وتطورها، وحلها، والقضاء عليها، على أساس صراع المتناقضات، إلا أن الديالكتيك لا ينفي الدور الهام، للتناقضات الخارجية، في سير عملية التطور.

فعلى الناس، لتأمين حياتهم أن يعملوا، والعمل هو تأثير الناس على الطبيعة بهدف إنتاج وسائل المعيشة الضرورية، إن عملية حل التناقضات بين المجتمع والطبيعة، هي، من حيث الجوهر، عملية لا نهائية، وتشكل أحد المصادر الهامة لتطور المجتمع، ولكن بين التناقضات الداخلية والخارجية يوجد اختلاف موضوعي، لا يمكن عدم أخذه بعين الاعتبار. إن التناقض الداخلي هو تناقض في جوهر الشيء بالذات، بحيث أن الشيء لا يمكن أن يوجد بدون هذين الضدين.

التناقض الخارجي هو تناقض بين الأشياء المختلفة، أو الجواهر المختلفة، فالنبات والشمس التي تعطيه الدفء، هما جوهران مختلفان، لكل منهما تناقضاته الداخلية، كما أن المجتمع والطبيعة هما عبارة عن تناقض جواهر مختلفة. إن الأضداد الخارجية، كالداخلية، مرتبطة فيما بينها، ولكن لا يوجد بينها مشروطية متبادلة وثيقة كما في التناقضات الداخلية، إن الطبيعة، أحد طرفي التناقض، يمكن أن توجد من دون المجتمع، كذلك الشمس يمكن أن توجد من دون النبات ... الخ.

إن التمييز بين التناقضات الداخلية والخارجية أمر هام، لأن دور كل منهما في التطور ليس واحداً، ومن الطبيعي أن هذا التمييز غير مطلق بل نسبي، إن التناقض الخارجي هو، على الغالب، تعبير عن وجود التناقضات الداخلية وشكل هذا الوجود وهكذا فالتناقض بين السلعة والنقد يسميه ماركس "تناقضاً خارجياً، وتعبر السلعة فيه عن التناقض الكامن فيها (أي الداخلي) بين القيمة الاستعمالية والقيمة".

بين التناقض الداخلي والخارجي توجد علاقة، التناقضات الداخلية لا توجد، ولا تعمل، خارج علاقتها مع التناقضات الخارجية، أما تأثير التناقضات الخارجية على تطور الشيء فلا يمكن فهمه بدون اعتبار تناقضاته الداخلية.

إن المادية الجدلية عندما لا تتجاهل قط أهمية التناقضات الخارجية تؤكد أن التناقضات الداخلية تلعب دوراً رئيسياً أولياً في التطور. أما التناقضات الخارجية فتلعب دوراً ثانوياً غير رئيسي. إن التناقضات الداخلية والخارجية توجد في عملية التطور في وحدة، في علاقة، ولكن من الخطأ الفادح تبديل الأولى، القائدة، بالثانية.

لذلك يناضل الديالكتيك ضد النظرية المنتشرة في الفلسفة البرجوازية والإصلاحية أو ما يعرف بالمواقف التوفيقية الليبرالية. إن جوهر هذه النظرية يكمن في نفي التناقضات الداخلية للتطور وفي الاعتراف بالأهمية الحاسمة للتناقضات الخارجية، وإن أنصار نظرية التوازن، عندما يطبقونها على المجتمع يعتبرون أن المصدر الرئيسي للتطور الاجتماعي لا تناقضات المجتمع الداخلية بل التناقضات بين المجتمع وعوامل خارجية، وهذا الفهم للقضية غير صحيح نظرياً، ويؤدي سياسياً إلى استنتاجات رجعية او هابطة.

3. خصائص التناقضات المختلفة:

إن تناقضات أسلوب الإنتاج في المجتمع الطبقي تنعكس في صراع الطبقات، ولصراع المتناقضات في هذا المجتمع شكل صراع اقتصادي وسياسي وأيديولوجي.

كما أن الصراع الأيديولوجي ينعكس في شكل صراع النظريات الفلسفية والاقتصادية والسياسية والحقوقية والدينية والأخلاقية ... الخ كما هو الحال في الصراعات بين قوى اليسار من جهة والقوى الليبرالية والاسلام السياسي من جهة ثانية.

وفي هذا الجانب يجب تمييز نوعين من التناقضات: التناحرية واللاتناحرية.

إن قضية التناقضات التناحرية واللاتناحرية قضية لها ابعاد سياسية واجتماعية واقتصادية خاصة، فالصراع مع العدو الصهيوني الإمبريالي يندرج تحت مفهوم التناقضات التناحرية التي لا يمكن حلها إلا بإلغاء وانهاء الوجود الصهيوني والامبريالي. فالتناقضات التناحرية هي عبارة عن تناقضات القوى السياسية والاجتماعية المتعادية، والمصالح والأهداف والميول المتضاربة، التي تنتج عن تناقض مصالحها الجذرية. وإن التغلب عليها يتم، كقاعدة، في النضال الثوري السياسي والكفاحي والطبقي الضاري.

ومثالنا الصارخ على التناقضات التناحرية يتجلى في الصراع بين شعبنا الفلسطيني/ العربي وبين دولة العدو الصهيوني والتحالف الإمبريالي، كما يتجلى ايضا، بين البرجوازية الكومبرادورية والطفيلية في البلدان العربية وبين الشرائح الفقيرة من العمال والفلاحين والمضطهدين، بين شعوب المستعمرات والدول الاستعمارية. وكذلك فإن التناقضات بين النظام الامبريالي وبلدان المحيط من أجل مزيد من السيطرة، ومناطق النفوذ والمواد الخام (النفط)، وأسواق البيع، هي تناقضات تناحرية، من هنا نرى أن التناقضات التناحرية متعددة الأشكال ونتيجة ذلك، فدرجة حدتها مختلفة.

ونظراً لوجود طبقات تدافع بجميع الوسائل عن القديم المهترئ، وتقاوم إقامة نظم اجتماعية جديدة تسودها العدالة الاجتماعية والديمقراطية، فإن النضال الطبقي الحاد والثورات الاجتماعية، هي وسيلة حل هذه التناقضات المتناحرة.

أما التناقضات اللامتناحرة فهي خلافاً للمتناحرة، تعبر عن تناقضات أضداد سياسية غير تناحرية، تعبر عن تناقضات تلك القوى الاجتماعية والسياسية والميول التي يجمع بينها جذرياً، كما يجب أن تكون عليه العلاقة في بلادنا بين الجبهة الشعبية وحركتي فتح وحماس وبقية القوى السياسية اليمينية.

على أي حال لا بد أن نشير إلى أنه مهما اختلفت التناقضات التناحرية واللا تناحرية فإنها تُحَل في النضال، وعن طريق نضال الجديد ضد القديم، عن طريق النضال التقدمي ضد الرجعي، المحافظ، الجامد، البيروقراطي، البالي، لأنه من الخطأ اتخاذ خصائص حل التناقضات اللاتناحرية على أنها خصائص مسالمة، وانسجام. فلحل هذه التناقضات لابد من شن نضال مستمر للتغلب عليها، للتغلب على كل ما هو مهترئ، بالٍ، وجامد، وكل ما يعيق تطور الجديد والتقدمي.

إن الفارق بين أشكال ونماذج التناقضات لا يكمن فقط في كون التناقضات المختلفة لها طبيعة مختلفة، وبالتالي أساليب وطرق مختلفة لحلها، بل المهم هو أن نميز بين التناقضات الرئيسية وغير الرئيسية، بين الأساسية وغير الأساسية في الشبكة المعقدة للتناقضات.

لذلك فمن المهم جداً - وخاصة في الحياة الاجتماعية، واستراتيجية وتكتيك نضال الطبقات والأحزاب الاجتماعية - عدم الخلط بين التناقضات الرئيسية وغير الرئيسية، الأساسية وغير الأساسية، بل رؤية الفارق بينها، وفرز تلك التناقضات التي تلعب، في المرحلة التاريخية المعينة، دوراً حاسماً، ثم تخطيط النشاط العملي حسب ذلك.

التناقضات الأساسية، هي التناقضات التي تحدد التناقضات النوعية وتنشأ عنها، مثال التناقض الرئيسي لأسلوب الإنتاج الرأسمالي هو التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج وبين طابع الحيازة الرأسمالية الخاصة، أنه يحدد جميع التناقضات الأخرى التي هي مشتقة من التناقض الأساسي. وهكذا فالتناقض بين تعاظم الإنتاج في المجتمع البرجوازي وبين قدرة الجماهير الشرائية المختلفة هو تناقض مشتق من التناقض الرئيسي، ويبرز كمظهر وتعبير عن التناقض الرئيسي للرأسمالية.

إن التناقض الأساسي للتطور الاجتماعي العالمي الحديث هو التناقض بين الامبريالية المعولمة والشعوب التابعة والمضطهدة.

إن تمييز التناقضات الرئيسية وغير الرئيسية، والمقدرة على رؤية سير تعاظم تناقضات جديدة، وتحول التناقضات الرئيسية إلى غير رئيسية والعكس بالعكس، كل ذلك يُمكِّن من السيطرة على الحلقة الحاسمة في الشروط الحسية المعينة.

اخيرا نود الاشارة الى التناقض بين المحتوى الجديد والشكل القديم الذي يستدعي صراعاً بينهما، هذا الصراع هو من أهم مظاهر مفعول قانون صراع المتضادات في الطبيعة والمجتمع والتفكير. وهذا الصراع لا يتوقف ما لم يستبدل الشكل القديم بآخر جديد، يتلاءم والمحتوى المتبدل.

مثلاً في المجتمع التناحري (كما هو حال الانظمة العربية في مرحلة الانتفاضات الثورية) تدافع الطبقات والأحزاب الحاكمة عن الأشكال الهرمة التي يهمها المحافظة عليها والدفاع عنها. ومهما استمرت مقاومة الشكل القديم الليبرالي او الديني/ الاسلام السياسي، لابد له، مع تطور المحتوى الثوري، من التخلي عن مكانه للشكل الجديد، لذلك كان الصراع بين الشكل القديم والمحتوى الجديد، مصدراً للتطور.

قانون نفي النفي:

إنه قانون تطور الطبيعة والتاريخ والفكر" إنجلز". مقولة النفي ليست مقولة حديثة، وإذا كانت قد ارتبطت بشكل خاص بفلسفة، فإنه يمكن العثور عليها في الفلسفات القديمة، وإذا كان هيغل أقام مقولتي النفي ونفي النفي في إطار المنطق، فإن ماركس قد أعاد بناءهما وربطهما بالوعي الاجتماعي وبالتحولات الاجتماعية، حيث تنتقل المقولات من "المضمون المجرد" إلى "المضمون المادي" لأن النفي لا يحيل الشيء إلى مجرد، بل إلى شيء له مضمون محدد، أي أن النفي له مضمون محدد ومشخص ومميز ونمطه يعتمد على طبيعة كل ظاهرة، فكل شيء له شكل نفيه الخاص به. ولقد عممت الماركسية مقولة نفي النفي على جميع الظواهر الطبيعية والاجتماعية. فقانون نفي النفي يجد تحققه في المملكة الحيوانية وفي عالم النبات وفي حقل الجيولوجيا، مثل ما يجد تحققه بين البشر وتطور المجتمعات عموما، وفي ظهور نمط الإنتاج الرأسمالي خصوصا، حيث تتزايد بشاعة الاستغلال الطبقي وتتزايد معها تراكمات الوعي بالظلم الطبقي والاضطهاد بما يمهد للثورات شرط توفر ونضوج العامل الذاتي / الحزب الماركسي الثوري.

- الأحكام الأساسية لهذا القانون:

1- في عملية التطور، ينشأ باستمرار شيء جديد لم يكن له وجود في الماضي، وهذه العملية تسمى النفي الجدلي للقديم.

2- في عملية النفي يبقى كل ما هو قيم وحيوي ويندرج في الجديد بشكل محول، ولا يتعرض للفناء إلا جزء معين من القديم هو الجزء الذي بات يعرقل التطور.

3- ينطوي التطور على ما يشبه العودة إلى المراحل المقطوعة وتكرارها (نفي إثبات نفي) ولكن على مستوى جديد أكثر رقياً، ولهذا يتسم التطور بطابع لولبي وليس دائري أو مستقيم.

4- في عملية التطور يوجد دائماً، وبصورة موضوعية، نزعات تقدمية وأخرى تقهقرية عند الانتقال من القديم إلى الجديد، ويتحدد النمط التقدمي أو التقهقري بحسب التغيرات الجارية في الظاهرة المعنية عموماً تبعاً للنزعة التي تكون لها الغلبة في هذه العملية التطورية المترابطة جدلياً.

إن تحليل قانون انتقال التبدلات الكمية إلى تبدلات كيفية، وقانون وحدة وصراع المتضادات يبين لنا أنه نتيجة لعمل هذين القانونين تتم عملية لا نهاية لها، عملية استبدال بعض الظواهر والأشياء بأخرى، في هذا الصراع المتواصل بين الجديد والقديم، بين المولود والفاني ، هذه الناحية من التطور، الناشئة إلى حد كبير عن قوانين الديالكتيك المذكورة أعلاه، تجد تعبيرها الأعمق في قانون نفي النفي.

إن مكان وأهمية هذا القانون في منظومة قوانين ومقولات الديالكتيك المادي، يتحدد في اعطائه أعم وأشمل مفهوم عن طابع التطور.

1. جوهر ودور النفي الديالكتيكي في عملية التطور:

إن التطور يتضمن في نفسه عاملاً قانونياً، إلزامياً، هو النفي فالتبدلات النوعية تعني نفي النوعية القديمة، ثم إن صراع المتضادات يتم بظفر متضاد على آخر، فالنفي بالتالي ليس عاملاً ثانوياً مرتبطاً بعملية التطور من الخارج، بل هو مشروط قانونياً بجوهر التطور ذاته.

وللنفي دور هام في جميع عمليات الطبيعة والمجتمع والتفكير، وهو يتبدى بأشكال مختلفة تبعاً لاختلاف العمليات، فتحول الأورانيوم إشعاعياً إلى راديوم هو مظهر "نفي" أحد العوامل الكيماوية، وتشكل عامل كيمياوي آخر منه، كما أن نفي البرعم بالزهرة، والزهرة بالثمرة هما العاملان الضروريان لنمو النبات.

وتاريخ المجتمع لا معنى له من دون نفي الأنظمة الاجتماعية القديمة من قبل الجديدة، المجتمع، من دون عامل النفي، يتحول إلى مستنقع راكد.

إلا أن الاعتراف بعامل النفي، في التطور، غير كافٍ، لابد من الفهم الصحيح لطبيعة النفي، لطابعه الديالكتيكي.

لا ينبغي فهم أحد عوامل التطور، وهي النفي، كنفي مطلق، أي كنفي لا يحتوي في ذاته أي شيء إيجابي، فلو أن الأمر كذلك لما أمكن التطور، لو أن نفي البرعم، في دورة نمو النبتة، كان نفياً فقط، لما حدث انتقال من البرعم إلى الزهرة. فهذا أيضاً نفي، ولكنه نفي تهديمي، ولا يخلق الشروط لنمو النبتة الطبيعي، مثل هذا النفي لا يشكل شرط التطور.

إن قانون نفي النفي الديالكتيكي هو قانون التطور، فهو لا يقصد أي نفي كان، بل يقصد النفي الذي يستخدم كمقدمة، كشرط للتطور، يقول إنجلز "النفي في الديالكتيك لا يعني قول "لا" ببساطة، أو التصريح عن شيء بأنه غير موجود أو القضاء عليه بأية وسيلة كانت، إن النفي المفهوم ديالكتيكياً والمعبر عنه تعبيراً صائباً هو هذه الـ "لا" التي تحتوي في الوقت ذاته على "نعم" أي وحدة النفي والإثبات.

وبالإضافة إلى أن النفي شرط التطور، فهو أيضاً تعبير عن مواصلة التطور وتواليه، بين ما يُنفي، وبين ما ينفي، هذه أهم ناحية في النفي. إن النفي الدياكتيكي لا ينبغي فهمه كانقطاع في التطور، كنفي للصلات بين القديم والجديد، إن الصلات بينهما قائمة بفعل أن الجديد لا يولد من لا شيء، بل من القديم فقط، والصلة تجد تعبيرها في أن الجديد يتمسك بكل ما هو إيجابي في القديم.