Menu

حواراتُ أفلاطون: حوارُ سقراط مع يوثيفرو ما المقدّسُ والفضيلة؟

خالد فارس

سقراط

جَسَّدَ سُقراط مرحلةً مهمّةً في تاريخ اليونان القديمة، لكنَّهُ ما زالَ حاضرًا اليوم شاهرًا سيفَ فلسفتِهِ علينا في الابستيمولوجيا (المعرفة) والميتافيزيقي (ما هو سر أو جوهر الوجود الكلي والجزئي؟) والأخلاقيّة (ما هو الخير والشر: الصالح والشر العام والجزئي؟). سنقرأ اليوم حوارًا أفلاطونيًّا ذا صلةٍ بفلسفة الأخلاق، عنوانُهُ يوثيفرو، هو أحدُ أوائل حوارات أفلاطون، ويعتقد أنه يعود إلى ما بين عامي 399-395 قبل الميلاد، وهذا يوثيفرو هو داعيةٌ أو خبيرٌ دينيٌّ، ويهدفُ الحوار إلى تعريف ماهية الفضيلة والتقوى والقداسة.

ما سعى له سقراط في الحوار المذكور، وغيره من حوارات، هو وعيُ الضرورة التاريخيّة التي تناط بالفلاسفة في المجتمع: تعريف المعنى الدقيق للأخلاق ومرادفات أو تضاد الكلمة. وللمعنى سياقاتٌ تاريخيّة، فمثلًا أضدادُ كلمة "صالح" في اللغة العربيّة، تستدعي كلمات، مثل: فاجر، فاسق، خائن، فاسد، داعر، خليع، رَجس، طالح، كريه، مستهجن، ماجن، ممجوج، مُلحد... قد يكون مصدر مرادفات وأضداد أي كلمة إما التجربة العينية الإنسانية التي يشار لها بأنها سُنَنْ وسيرة الأولين أو فعل فلسفي تعريفي.

لقد تعدّدت الآلهة في اليونان القديمة، ما أثّر على طريقة تعريف الفضيلة، والأخلاق عمومًا؛ لأنَّ تعريف الأخلاق يتطلّب إجماع الآلهة، وهذا أمرٌ صعبٌ وشاقٌّ وشكّلَ معضلةً تاريخيّةً كبيرةً في ذلك الوقت، حيث كلّ إلهٍ يعدُّ نفسه هو الصحيح، وهذا له دلالة على المعاناة التي واجهها سقراط، وثم تم اتهامه بأنه يفسد الشباب وتم الحكم عليه بالقتل-الإعدام عن طريق شرب السم.

وجد تعريف الأخلاق ومصطلحاته سهولة منظورة في الأديان التوحيدية بسبب أن هناك إله واحد، وبالتالي فأن التعريفات تتخذ طابع مركزي غير قابل للنقاش. ولكن لتعدد الآلهة في اليونان ميزة في الممارسة الفكرية والفلسفية، ألا وهو الحوار، حيث أن الحوار ضرورة تاريخية لكي تتفق الآلهة على تعريف للخير والشر، وبالتالي تُأَسّس لثقافة الإجماع. لم تكن المسألة بهذه السهولة، ولكن الثقافة العامة كان عليها أن تمارس أو تسعى إلى ديمقراطية الإجماع، لهذه الأسباب وأسباب أخرى بالطبع. ما في الأديان التوحيدية، لا يهم الإجماع من خلال الحوار، بل يهم السمع والطاعة للفكرة المركزية.

يلتقي سقراط ويوثيفرو أمام المحكمة، حيث أن الأول يَحْضُر لمحاكمته في تهمة افساد الشباب، والثاني لأنه يريد أن يُحاكِم والده، بِنَفْسِهِ، حيث تبدأ القصة، بأن والد يوثيفرو كان لديه عامِل يعمل في الحقل، دخل في عراك مع خادم، قَتَلَ أحدُهُم الآخر. قرر والد يوثيفرو أن يضع القاتل في حفرة وقَيَّدَهُ بسلاسل وتركه بضعة أيام حتى يأتي عراف أو الشخص المُتَدّين من أثينا ليقرر ماذا جرى بالضبط، وأثناء وجوده في الحفرة مات.

يدعي يوثيفرو أن ما قام به والده بوضع الشخص في الحفرة هو جريمة قتل، لهذا يريد أن يحاكم والده بتهمة القتل. واجهه سقراط بالسؤال الفلسفي التالي: ماهي الفضيلة أو التقوى؟ وما هو الإلحاد أو الفجور (عكس التقوى)؟  هَدَفَ الحوار إلى مَعْرِفَةْ ما الذي يجعل الشيء الصالح صالح، أو الفضيلة فضيلة؟

أجاب يوثيفرو أن الفضيلة والتقوى هي ما يقوم به هو، محاكمة والده، واستخدم يوثيفرو أسلوب الأمثلة وتجربة السابقين وسيرتهم عن الفضيلة، أجابه سقراط هذا ليس سؤالي، لم أسأل عن أمثلة، سؤالي ما هو طبيعة التقوى والفضيلة بذاتها؟ أجاب يوثيفرو الفضيلة هي الشيء الذي يُحبه الله، لاحقاً، قال الآلهة.

قبل الخوض في الإشكال المرتبط بهذه الإجابة، لا بد من التعليق على منهج سقراط في الحوار، من خلال حبكات ديالكتيكية. يُعْتَبَرْ سُقراط عميد الديالكتيك، فهو العُمْدَة الذي دشن هذه الممارسة. والديالكتيك عند سقراط (يطلق عليه في اليوناني elenchus)، حيث يبدأ سقراط من طرح سؤال معرفي، وعند الحصول على جواب، يتبعه بسؤال آخر من وحي الإجابة التي حصل عليها، تستمر العملية حتى يصل سقراط إلى نهايات مغلقة تُبْطل الإجابة التي تَقَدَّمَ بها الطرف الآخر، وذلك عن طريق إثبات التناقض الذي تَحمله بِداخلها، وهذا النوع من الجدل، يضع المسائل الفلسفية في طرق مسدودة، طريق غير نافذ، ولكن تكمن أهمية الجدل في الحوار ذاته، لأن الأسئلة ليست غير مهمة، بل هي في جوهر وصلب الموضوع.

الجدل السقراطي ارتهن إلى الثقافوية المُفْرِطَة التي يحملها سُقراط.  أما الجدل الحديث، وعلى رأسه الجدل الثوري الماركسي، الذي ترعرع في عصر العلوم، ينطلق من البحث النظري والعملي في آن، يسعى إلى الوصول الى نتائج عملية (إنجازات عينية تراكمية وحقيقية)، لا يفصل بين النظري والعملي. لنا في كتابات مهدي عامل تحت عنوان النظرية في الممارسة اليومية، دعوة إلى عدم فصل الديالكتيك إلى نظري وعملي، بل إلى تجسيد الرابط العضوي في الممارسة اليومية، بمعنى أن المبدأ والنظري لا يجب أن يعيق تحقيق النتائج. وفكرة الحزب الثوري، لا تعني التمترس وراء أيديولوجيا محضة نظرية، على طريقة سُقراط، بل هو حزب الإبداع والذكاء والحكمة التاريخية، والوحدة الاجتماعية، التي هي أساس بناء العام الاجتماعي.

بالعودة الى النص في الحوار، رد سُقراط على يوثيفرو، بسؤال كبير ومهم، بحاجة إلى انتباه! هو السؤال العُمْدَة في الأخلاق: هل الفضيلة مقدسة فَيُحِبُّها الله لأنها مقدسة؟ أم أنها مقدسة لأن الله يُحبها؟

يعنى ذلك في الفلسفة، ماذا يشرح ماذا أو ما يسميه الفلاسفة أولية الشرح؟ هل أن هذه المعايير أو الأفعال من الأعمال الصالحة والفضيلة هو الذي يشرح لنا لماذا يُحِبُّها الله؟ أم أن لأن الله يُحِبُّها هو الذي يشرح لنا لماذا هي من الأعمال الصالحة والفضيلة؟    

يفتح هذا السؤال مفهوم السابق واللاحق، وماهية الوجود الأولي الذي يُؤَسّس ويمنح ما يليه الشرح. هل لون العشب الأخضر هو الذي يشرح لنا الجملة "العشب لونه أخضر"؟ أم أن الجملة هي التي تشرح لنا لماذا العشب أخضر؟ 

بالطبع العشب لونه أخضر هو الوجود السابق، وهو الذي يشرح لنا الجملة، وليس العكس. ذات الموضوع يرتبط بالسؤال: ما هو السبب الأصلي للفضيلة الذي يشرح لنا لماذا هي مقدسة؟ هل لأن معاييرها ومبادئها مقدسة تشرح لنا لماذا الله يحبها، بمعنى أن السابق هو المعايير والمبادئ، الموجودة مُسَبَّقاً، على حب الله لها، أم العكس؟ بلغة أخرى ماذا يأتي أولا في الشرح؟

وقع الاختيار على الجواب الأول، لأنها مقدسة فإن الله يُحبها، أن الأعمال الصالحة هي التي تشرح لماذا يحبها الله. يستمر سقراط في تحديه الديالكتيكي، ويوجه سؤال آخر: أنت يا يوثيفرو لم تقل لي لماذا هي مقدسة، ما هو سِرُّها وجَوهَرُها، لكي يحبها الله. وفي هذه اللحظة يحدث الانسداد الديالكتيكي، ويعترض يوثيفرو، ويقول لسقراط، يا رَجَلْ، في كل مرة نتناقش نصل إلى طريق مسدود، وندور في حلقة مفرغة، أنا مشوش لا أستطيع الاستمرار في النقاش.

أين تكمن المشكلة؟

بالنسبة لسقراط، يطرح ذلك مشكلة فلسفية، وهو أن معايير القداسة بذاتها هي السابق وهي التي تشرح حب الله لها، إذا هي مستقلة عن الله، وهي موجودة بذاتها، وعلى المجتمع اكتشافها والحوار من أجلها والاتفاق عليها. بلغة العصر هذه هي روح العصر كونها جزء من العام الاجتماعي. القول أن الله يحبها لا يشرح شيء، وبالتالي الذي يشرح هذه المعايير هو المعايير ذاتها في الواقع وتأثيرها على الواقع، ولكن ما زال سقراط بحاجة إلى معرفة ما هي الأسباب التي تجعلها مقدسة، لذلك فإن الله يُحِبُّها؟ 

ماذا عن الجواب الثاني، لأن الله يحبها، إذاً هي مقدسة. لا يتطرق الحوار المذكور إلى هذا الجواب، مطلقاً. ربما لسبب أن هناك تعدد آلهة، وبالتالي كان من الصعب التوصل الى توافق عن أي إله يتم الحديث، ولكن في عصر الديانات التوحيدية التي ما زالت قائمة اليوم، يصبح السؤال ملحاً ومهماً، بسبب أن الإجابات تنبع من مركزية واحدة، وحدانية الله. ومهم أيضا من الناحية الفلسفية، حيث ما زال فلاسفة العصر يطرحونه للنقاش.

في حالة القول أن هذه الأفعال مقدسة وفضيلة لأن الله يُحِبُّها، هذا يؤدي الى أنه لا يوجد سبب أو شرح لماذا اختار الله هذه الأفعال وجمعها في سلة واحدة ومنحها التقديس، واتخذت طابع الأمر الإلهي.

بغياب السببية في العقل الإنساني والحوار الفلسفي، يكون الحوار قد اتخذ سمة الاعتباط الفكري، لأنه لا يستند على جوهر أو معرفة الحقيقة السببية، لماذا هذه الأعمال مقدسة؟ وهذا بدوره يؤثر على مفهوم الأخلاق في المجتمع، ويجعله بلا قاعدة سببية ويقوم على تصورات اعتباطية يفردها داعية هنا وشيخ هناك وإعلام وسيط يروج لها، لغاية في نفس يعقوب، ولا يستطيع الشعب مواجهتها لأن نقاشها سيقود إلى أسئلة تتحدى المقدس، وهي في حقيقتها تحاول تحدي ما هو سندها الوجودي.

يضرب بعض الفلاسفة مثال، ماذا لو طلب الله منك (سواء عن طريق حلم أو رؤية أو أي شيء يجعلك تعتقد أن الله تواصل معك) أن تقوم بذبح ابنك، لتضحي به في سبيل الله. ما عليك إلا السمع والطاعة، لأنه الشيء الوحيد الصحيح الذي يجب عليك عمله، مقارنة بأي عمل آخر، لأنه أمر الله؟

ولكن هكذا تفكير سوف يفقدك القدرة على فهم الأسباب والعلل، وسوف تتجه نحو معايير اعتباطية لا علاقة لها بالتعليل الجدلي والحوار النقدي.

الخلاصة، أنه في حالة عدم الإمكانية المضي قدما في الجواب الأول ولا الثاني، إذا الفضيلة والمقدس ليس ما أحبه الله لأنه فضيلة وليس هو فضيلة لأن الله أحبه. سيبقى سؤال ما هي الفضيلة والمقدس؟ هو إذا روح العصر، هو العام الاجتماعي الذي يتناتج من جدل المجتمع وينبع من إنتاج المجتمع، وفقاً للغايات الإستراتيجية، في واقع متغير متحرك متدفق بلا توقف.