Menu

كل الاحتمالات مفتوحة..

الجبهة البيلاروسية: مناورة روسيّة أم حرب تفلت من عقالها؟

الرئيس البيلاروسي يفحص الجهوزية القتالية للجيش

خاص بوابة الهدف

تغذي التحركات العسكرية الروسية على الأراضي البيلاروسية التكهنات حول امكانية شن روسيا هجوم كبير يستهدف بشكلٍ مباشر العاصمة الأوكرانية كييف، في سعي لحسم الحرب بواسطة جهد عملياتي محوري تستخدم فيه روسيا ثلثي جنود الاحتياط الذين قامت باستدعائهم وتعبئتهم.

هذا التكهن لم يقتصر على المحللين أو المتابعين، ولكن تتبناه السلطات الأوكرانية في تصريحاتها الرسمية، ففي أكتوبر المنصرم صرح أوليكسي غروموف، نائب رئيس الأركان العامة الأوكرانية خلال إحاطة صحافية، بأنّ "التهديد باستئناف الهجوم على الجبهة الشمالية من قبل القوات المسلحة للاتحاد الروسي يتزايد".

لكن غروموف قال إنّ أي هجوم جديد قد يستهدف بشكلٍ أكبر غرب أوكرانيا "لقطع الشرايين اللوجستية الرئيسيّة لتزويد أوكرانيا بالأسلحة والمعدات العسكرية".

من جهتها، تقول بيلاروسيا إنّ قواتها المشتركة الجديدة مع روسيا ستضم ما يصل إلى 9000 جندي روسي، ونحو 170 دبابة سترسل إلى بيلاروسيا، لكنها شددت على أن أهدافها دفاعية فقط.

الرئيس الاوكراني فلاديمير زيلينسكي، صعّد من هذه التحذيرات، مصرحًا الأحد الماضي بأنّ أوكرانيا مستعدة لمختلف السيناريوهات المحتملة مع روسيا وحليفتها بيلاروسيا، وذلك عشية زيارة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بيلاروسيا، وسط حديثٍ عن هجوم محتمل جديد قد تشنّه موسكو، وتوقعات بأنه قد ينطلق من بيلاروسيا.

وتبدو الإشارات الصادرة عن المسؤولين في بيلاروسيا ضبابية، وتميل لإبقاء كل الاحتمالات مفتوحة، موفرة مادة اضافية لإرباك المحللين، أيضًا هناك مخاوف وأسباب تضييق حيز المناورة أمام القوات الأوكرانية، ففي تصريحاته الأخيرة لم ينف قائد أركان الجيش البيلاروسي امكانية انطلاق هجوم من بلاده نحو كييف، حيث قال رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة في بيلاروسيا فيكتور جوليفيتش، إنّ السلطات البيلاروسية تولي الاهتمام الأكبر للحدود مع أوكرانيا، مشيرًا إلى كونها "مصدر القلق الأكبر".

وأضاف جوليفيتش - في تصريحات أوردتها قناة روسيا اليوم، الأحد الماضي "نحن نولي اهتمامًا لكل حدود وطننا، لكن بطبيعة الحال، فإنّ حدودنا الجنوبية والحدود مع أوكرانيا، هي مصدر القلق الأكبر".

وأوضح أنّ كييف اتخذت إجراءات غير مسبوقة لقطع الصلة بين أوكرانيا وبيلاروسيا، مشددًا على عدم وجود شروط مسبقة لشن هجوم على أوكرانيا من مينسك.

فيما جاءت إشارات رئيس بيلاروسيا مختلفة، حيث صرّح ألكسندر لوكاشينكو داعيًا أوكرانيا، للعودة إلى حالة السلام التي فوتتها كييف، مشيرًا إلى أنه يمكن لأوكرانيا، الحفاظ على سلامتها إذا نفذت اتفاقات مينسك.

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، استبعد امكانية انتهاء الحرب قريبًا، في مؤتمره الصحافي السنوي لنهاية العام في نيويورك، الاثنين الماضي، قائلاً: "لست متفائلاً بإمكان عقد محادثات سلام في المستقبل القريب. أعتقد أن المواجهة العسكرية ستستمر".

ومن جانبٍ آخر، تقدّم العديد من التحليلات، تفسيرات أخرى وسيناريوهات عدة مرتبطة بالتحركات العسكرية الروسية الجارية على الأراضي البيلاروسية، والتي شملت ارسال قوات وإجراء تدريبات، أولها وربما أكثرها جديّة كون هذه الاجراءات وقائية لمواجهة مخاوف جديّة لدى كل من روسيا وبيلاروسيا بإمكانية تعرض بيلاروسيا لأعمال عدائية قد تبدأ بهجوم حدودي أوكراني وتمتد لاضطرابات تهدف للاستيلاء على السلطة في بيلاروسيا بدعم من حلف الناتو، وهو احتمال لا يمكن نفيه خصوصًا في ضوء ضلوع القوات الأوكرانية في العديد من الاعتداءات الحدودية على بيلاروسيا، وكذلك وجود مؤشرات عديدة على نوايا المعسكر الغربي بمد مساحة هذه الحرب، ليس آخرها التجنيد المتزايد والتعبئة العسكرية في بولندا، بما يشمل تجنيد آلاف من المرتزقة وارسالهم للقتال في أوكرانيا.

سيناريو آخر يرى وجود نوايا روسية لتحريك قواتها انطلاقًا من بيلاروسيا، بهدف قطع طريق تدفق الأسلحة الغربية والمرتزقة الذين يتم تجنيدهم من معظم أنحاء أوروبا إلى أوكرانيا، وتحديدًا من خلال هجوم روسي مباشر لا يستهدف كييف ولكن يستهدف لوفوف، المدينة الأوكرانية الواقعة على الحدود الأوكرانية مع بولندا والتي تشكل المركز الحقيقي للصلة بين حلف الناتو وأوكرانيا والمركز اللوجستي والاستخباري لحلف الناتو على الأراضي الأوكرانية، أو على الأقل التلويح بذلك لكبح جماح الحماسة الأمريكيّة والغربيّة عمومًا لمزيدٍ من الانخراط والتدخّل في الحرب الأوكرانية.

اتجاه القوات الروسية-إن حدث- إلى لوفوف/" ليفيف حسب التسمية الأوكرانيّة، يعني فعليًا تماسًا ساخنًا مع الحدود البولندية، وامكانية حدوث اشتباك مباشر مع حلف الناتو الذي سيجد نفسه مضطرًا للتخلي عن صلته المباشرة بالأراضي الأوكرانية، كما سيضطر للمفاضلة بين خيار السحب السريع لقواته وخبرائه ومراكزه من ذلك المحور أو المخاطرة بخوض مواجهة مباشرة مع القوات الروسية بكل ما يعنيه ذلك من خطر الانزلاق لحربٍ عالميّة.

هناك من بين المتابعين من يقرأ في تعمّد روسيا تظهير استعداداتها وتحركاتها على هذه الجبهة باعتباره مناورة روسية تهدف لإجبار أوكرانيا على سحب أجزاء من قواتها من الشرق والجنوب حيث جبهات القتال الرئيسيّة المشتعلة حاليًا، باتجاه الحدود البيلاروسية والعاصمة كييف ومناطق غرب أوكرانيا، بما يعنيه ذلك من تخفيف للضغط على القوات الروسية وزيادة لفرص القيام بهجوم رئيسي في الشرق أو الجنوب قد يكون هدفه مدينة أوديسا أحد أهم القواعد اللوجستيّة للقوات الأوكرانية في الجنوب، والميناء الرئيسي على البحر الأسود.

بعيدًا عن المفاضلة والترجيح بين هذه السيناريوهات، فإنّ هذه الحرب قد غادرت منذ شهور عدة كونها حربًا روسية أوكرانية، وباتت الأراضي الأوكرانيّة مسرحًا لصراعٍ دولي تنخرط فيه العديد من دول الناتو بشكلٍ مباشر، ويحشد لها الحلف الجنود والسلاح من مختلف أنحاء العالم، ويقدّم ضمنها الدعم والمواكبة الاستخبارية وحتى المشاركة العملياتيّة في الكثير من الجوانب.

جنود حلف الناتو الذين يقاتلون على مختلف جبهات هذه الحرب تحت مسميات جنود سابقون أو متطوعين أو غير ذلك، أو المدربين العسكريين والمستشارين ورجال الاستخبارات، هم جزء من حرب يخوضها حلف الناتو، بجانب الأسلحة والمنظومات القتالية الغربية المتدفقة لأوكرانيا، فيما تبدو روسيا أبعد من أي وقت مضى منذ بداية الحرب عن أفكار الحرب الخاطفة والهجمات الكبرى، وأقرب لإدارة صراع تستنزف فيه الغربيين على الأرض الأوكرانية، وتعكس قدرتها على ادارة صراع استراتيجي يتجاوز الأدوات العسكرية وتستثمر فيه جغرافيتها ومواردها الاقتصادية وعلاقاتها الدولية، حرب يبدو أنها أطول مما تخيّل حتى المعسكر الغربي الذي خطط لاستنزاف روسيا بإطالة أمد المواجهة.

السؤال اليوم هو لأي حدٍ يمكن للمعسكر الغربي احتمال هذه الاطالة، بعد أن أنفق في عامٍ واحد من هذه الحرب أكثر من ٢٠٠ مليار دولار من المساعدات المالية والعسكرية المباشرة لأوكرانيا، ناهيك عن أرقامٍ مماثلة تتصل بتوفير الخبراء والمساعدة الاستخبارية ونقل وتعزيز قوات حلف الناتو على الجبهة الشرقية، ذلك بجانب خسائره الاقتصادية وما تحملته الاقتصاديات الغربيّة نتيجة العقوبات على روسيا وفقدان موارد الطاقة والغاز الروسي زهيدة الكلفة.

ربما تكون أحلام مؤيدي روسيا حول انتصار عسكري سريع ماحق على القوات الأوكرانيّة قد تبخّرت بعد شهورٍ قليلة من بداية الحرب، ولا تبدو أحلام هذا المعسكر حول انتقام روسي من اخفاقات الخريف المنقضي واقعية أو قابلة للتحقيق قريبًا، ولكن المؤكّد أنّ المعنى الاستراتيجي لهذه الحرب ليس بتلك البساطة التي تشير لها كمحطةٍ لتقزيم روسيا وانتهاء دورها كلاعبٍ دولي، وربما على العكس من كل هذا قد تكون هذه الحرب مساحة لتغيير الكثير من المفاهيم حول الحروب وطبيعتها في القرن الحالي.