أظهر كتاب "سحب الجحيم" للكاتبين المناضلين قاسم بركات، وخليل خليل، إحدى صور الملاحم البطولية التي جسدتها المقاومة الغزاوية في أعقاب نكسة العام 1967، ومن الواضح أن كلا الباحثين قد صرفا جهداً كبيراً في إنجاز هذا العمل الرائع الذي يؤرخ لحقبةٍ مهمةٍ ومفصلية في كفاح شعبنا الطويل ضد المستعمر الصهيوني وممارساته الإجرامية.
والكتاب الذي يقع بـ300 صفحة، يعالج تجربة العمل الفدائي المسلح للمجموعات الأولى للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بين أعوام ( 1967 وحتى العام 1973 ) في المنطقة الوسطى لقطاع غزة، حيث حملت هذه التجربة في أحشائها بذور ثورة حقيقية، كان من الممكن أن تُسجل انتصاراً مدوياً ويدحر الاحتلال الصهيوني عن أرض القطاع، لولا سلسلة من العوامل المجافية التي واجهت المقاومة في ذلك الحين، وأدت في نهاية المطاف إلى تلاشي تلك التجربة رغم ما سجلته من بطولاتٍ عظيمة، لا تزال تتناقلها وتستذكرها ألسنة الناس المعاصرين لها، وقد أحسن الكاتبان أنهما وثّقا تلك التجربة بمعاركها وأبطالها وحكاياتها الإنسانية، رغم مرور زهاء 50 عاماً على أحداثها، ونقلا تلك الملاحم من حيزها الشفاهي إلى حيزها التاريخي الموثق قبل أن يطويها النسيان بفعل تقادم السنوات.
ففي تلك الحقبة القاسية، التي أعقبت هزيمة الجيوش العربية في حرب العام 1967، وما نجم عنها من خيباتٍ ومرارات شملت العالم العربي من المحيط إلى الخليج، أظهر الشعب الفلسطيني معجزة التحدي والبقاء، والتقط زمام قضيته بأيدي أبنائه مُفجّر ثورته الحديثة في الوطن المحتل وخارجه، فكانت بندقية الفدائي الفلسطيني تجوب مختلف الساحات والحدود والمطارات في العالم، غير أن أبرز ما ميز المقاومة الغزاوية، وبالأخص منها تلك التجربة التي يعالجها الكتاب، أنها كانت مقاومة محاصرة بالاحتلال من كل الجهات، وكانت مهمة إيصال السلاح والمقاتلين إلى القطاع وإمكانية اندلاع مقاومة مسلحة في تلك المساحة الصغيرة والمكتظة بالسكان والمحاصرة من كل حدٍ وصوب، تكاد تلامس المستحيل، ومع ذلك تمكن بضع عشرات من المقاتلين الذين تسلحوا بإرادتهم وحضانة شعبهم أن يصنعوا معجزةً حقيقيةً بهذه التجربة البطولية، ويخلقوا تحدياً كبيراً للاحتلال، واحتاج لسنواتٍ وجهود استخبارية وقتالية استثنائية لمواجهة هذه الظاهرة المسلحة والنوعية.
لقد كشف الكتاب عن طرق اختراق الحصار الصهيوني، وكيفية تهريب السلاح والمقاتلين وبعض القادة الذين تسللوا إلى القطاع بصعوبةٍ بالغة، حيث كانوا يضطرون إلى قطع مئات الكيلومترات إما مشياً على الأقدام في الصحاري أو عبر البحر، وهو ما أثمر في إدخال كميات كبيرة من السلاح، وبناء الخلايا الكفاحية التي سيقع على عاتقها فيما بعد مقارعة الوجود العسكري الصهيوني على أرض غزة.
والملفت للانتباه، سرعة تَشكّل تلك الخلايا وظهور قادة ميدانيين تمرسوا في ميدان المواجهة، ولم يكونوا قد تلقوا أيةِ دروس نظريةٍ أو خبراتٍ قتاليةٍ نوعية، واستطاعوا بإرادتهم ومصداقيتهم وإخلاصهم الوطني أن ينجحوا تلك التجربة التي جعلت قوات الاحتلال تعيش في رعبٍ حقيقيٍ في الليل والنهار.
كشفت صفحات الكتاب عن عشرات من أسماء القادة والمقاتلين الذين جسدوا بدمائهم تلك التجربة الكفاحية، وهذه الأسماء التي كانت معروفة في تلك المرحلة ويشار لها بالبنان؛ غير أنها مجهولة خارج القطاع، وسيفاجأ القارئ بهذه الأسماء وأفعالها البطولية، وهو ما يُسجل للباحثين الذين عملا بإصرار على انجاز هذا العمل، وإنصاف أولئك الأبطال الذين سقط الكثيرون منهم شهداء بعد معاركٍ طاحنة مع العدو، ووقع آخرون منهم في الأسر، ليجري إعدام بعضهم أو الحكم عليهم بسنواتٍ طويلة في السجن.
كما أظهر الكتاب الدور البارز الذي لعبته المرأة الفلسطينية في تلك المرحلة، وكشف عن أسماء عددٍ من النساء المكافحات اللواتي شاركن المقاتلين في هذه التجربة سواء باشتراكهن بالعمليات الفدائية، أو المساعدة في مهماتٍ أخرى كجمع المعلومات، ونقل السلاح، وإخفاء المقاتلين، وتعرضت جميعهن للاعتقال والتعذيب والتنكيل، فشكّلت أولئك المناضلات نماذجاً ثورياً للمرأة الفلسطينية الصلبة والمقاتلة.
وفي ضوء هذا التحدي والروح الثورية العارمة والمصممة على القتال أمعن العدو بإجراءاته وممارساته الإجرامية لوضع حدٍ لهذه الظاهرة والقضاء عليها، فقد اتبع وسائل الإعدام الميداني لعددٍ غير قليل من هؤلاء الأبطال بعد وقوعهم في الأسرِ وحتى بعد دخولهم للسجن، حيث كان يجري اقتيادهم من مراكز التحقيق إلى أماكن سكناهم وإعدامهم ميدانياً. كما وأمعن في التنكيل بأهالي المقاتلين وبالأهالي بشكلٍ عام، فكان يعتقل ويقتل ويهدم البيوت ويقتلع الأشجار بصورةٍ همجية تنم عن روحٍ عدوانية مُشبّعة بالإجرام والحقد.
لقد حظيت تلك التجربة الكفاحية المميزة بحاضنةٍ شعبيةٍ واسعة تنطوي على بسالة شعبنا ووفائه لإبنائه الذين كانوا يدافعون عنه، فكان المقاتلون يتمتعون بالرعاية والاهتمام والاحترام والتقدير والحماية من قبل أبناء المخيمات في المنطقة الوسطى، ولم يبخلوا بدمائهم وبيوتهم وإمكانياتهم البسيطة التي وضعوها في خدمة المقاومة.
وبالرغم مما تضمنته مادة الكتاب من معطياتٍ ومعلوماتٍ ثرية، والجهد الذي بذله الباحثان في عملية التوثيق والبحث، وإجراء المقابلات مع عددٍ من أصحاب التجربة وشهودها، إلا أنها لم تغطِ سوى المنطقة الوسطى في تلك الحقبة، مما يستدعي أن يستكمل الباحثان أو غيرهما العمل البحثي للتأريخ لتلك المرحلة لتشمل منطقتي الشمال والجنوب، بما فيها الفترة التي نشط أثنائها القائد الكبير محمد الأسود (جيفارا غزة)، فنحن شعبٌ يقاوم ويقاتل منذ أكثر من مئة عام، ويتعين علينا أن نسجل كل محطةٍ ومرحلة، ولا نغفل أي فعلٍ نضاليٍ مهما بدا بسيطاً لكي يظل ذخراً للأجيال القادمة، ولكي تصبح هذه الدراسات الموثقة مرجعاً للباحثين والمؤرخين، لأنه لا يحق لنا أن نتغاضى عن دماء شهدائنا وبطولاتهم، وما أنجزه الباحثان يُمثّل إضاءة على جزءٍ من تلك المرحلة، وقد يُشكّل حافزاً للآخرين ليحذوا حذوهما في توثيق وبحث محطات منسية في تاريخ شعبنا المكافح.
ولا يسعنا إلا أن نثمن جهود الباحثين، وندعوهما لمواصلة البحث وتوسيعه، ليشمل التجربة الكفاحية الغزاوية في تلك المرحلة، فقطاع غزة الذي يتصدر المقاومة الفلسطينية في الوقت الراهن، يُشكّل تحدياً حقيقياً لدولة الاحتلال، لم يبدأ من الصفر، وإنما ارتكز على ذلك الإرث الثوري، وكانت دماء شهداء تلك المرحلة ومقاتليها بمثابة بذور للثورة التي أزهرت وأثمرت أجيالاً من المناضلين، وساهمت في تتويج كفاح شعبنا بالتجربة الكفاحية الحالية.
وتظل المقاومة الغزاوية في مختلف محطاتها ومراحلها نموذجاً ملهماً، حيث دأبت على اجتراح المعجزات، وجعلت من غزة عصيةً على الغزاة. أما الصهاينة فقد ابتلعوا المنجل الغزاوي، ولم يهنأوا بانتصارهم عام 1967، وظلت غزة تقاوم إلى أن فرّ الغزاة مدحورين عنها عام 2005، وما يزالون عاجزين أمام غزة وأهلها، رغم حروبهم الطاحنة، وحصارهم التجويعي، وستظل غزة شوكةً في حلق المحتل إلى أن يتكلل كفاح شعبنا بانتصاره التاريخي والمدوي.
فكل التحية لرواد ومقاتلي تلك المرحلة، الذين عبدوا بدمائهم الزكية وعذاباتهم وبطولاتهم، طريق المقاومة.
وكل التحية لأبناء شعبنا في القطاع الحبيب، الذين صنعوا تاريخاً مجيداً، مُحوّلين القطاع إلى قلعةٍ حقيقية، وصداعاً مزمناً للعدو الذي ما فتئ يتذوق هزائمه المريرة على رمال غزة في كل مرحلةٍ وفي كل حين.