(قراؤنا الأعزاء بدأنا من يوم السبت 11/2/2023، نشر وعلى أجزاء متلاحقة، آخر إصدار/كتاب؛ للمفكر والباحث العربي الفلسطيني غازي الصوراني، الموسوم بعنوان: التحالف الصهيوني: اليميني العلماني واليميني الديني المتطرف في حكومة نتنياهو وأثره على القضية الفلسطينية. هذا الكتاب الهام والصادر في يناير من العام الحالي بعدد 228 صفحة، بحجم ورق من القطع المتوسط؛ نضعه بين أيدي قرائنا آملين أن تتم الاستفادة المرجوة منه في موضوعه المحدد وعلاقته المباشرة؛ بشعار/دعوة/مبادرة/ضرورة: "اعرف عدوك" وضرورة مواجهة تجسيداته العملية إلى جانب ما يسمى: راويته التاريخية.
نوجه شكرنا الكبير وتحياتنا العالية إلى الباحث والمفكر القدير غازي الصوراني، على جهده الفكري والمعرفي المتواصل، وعلى خصه بوابة الهدف بنشر كتابه على أجزاء عبر موقعها الإلكتروني).
مجابهة الوجود الاستعماري الاستيطاني الصهيوني:
في هذا الجانب أشير إلى المحاولات الدؤوبة للعدو الصهيوني التي تتبنى منطق تهجير وتفتيت أو إبادة الوجود الديمغرافي لشعبنا الفلسطيني، بكل أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وذلك انطلاقا من أن الوجود الصهيوني في بلادنا هو في جوهره وحقيقته تجسيد لمفهوم ومنظور الاستعمار الاستيطاني الذي يتبنى منطق الإحلال والإبادة، ما يعني أن دولة العدو الصهيوني تتماهى تماماً مع ممارسات الاستعمار الاستيطاني الأمريكي والأسترالي في إبادتهم للسكان الأصليين وإن اختلفت بعض الأساليب، خاصة فيما يتعلق بإقرار الولايات المتحدة وأستراليا -منتصف القرن العشرين- التزامهم بالديمقراطية وتطبيق مفهوم المواطنة للجميع دون تمييز، مقابل دولة العدو الصهيوني التي رفضت منذ تأسيسها – إلى يومنا هذا- تطبيق مفهوم المواطنة على جميع مواطنيها، وحرصت على مواصلة عنصريتها وتطبيق الديمقراطية فقط بصورة كاملة لليهود فقط.
وهنا لا بد لي من إعادة توثيق التعريف الموضوعي لنموذج الاستعمار الاستيطاني الذي يستند إلى مصادره الأرض تحت شعار "الأرض أولاً والأرض أخيراً" دون اي تفكير بالمغادرة أو الرحيل، فالمستعمر الصهيوني المستوطن يعلن بوقاحة عنصرية أنه جاء ليبقى، رغم إدراكه أن الصراع بيننا وبينه صراعٌ وجودي.
وفي هذا السياق، أشير إلى أننا لا نحتاج إلى كثير من العناء، كي نلاحظ النغمة العنصرية الاستعلائية الكولونيالية التي يتسم بها كثير من كتابات الصهيونيين الأوائل، خاصة كتاب هيرتسل "البلاد القديمة الجديدة " المملوء بالتعابير التي تشير إلى "بدائية السكان الأصليين وهمجيتهم في مقابل تفوق الأوروبيين وحضارتهم".
أمّا في كتابه "دولة لليهود" (1894)، فإنه يتبنّى بوضوح نبرة وخطاب أوروبا القرن التاسع عشر الكولونيالية، والتي تُقَسِّم العالم إلى أمم متحضرة وإلى أمم بربرية، ويضع هرتسل المشروع الصهيوني بوضوح كجزء من المشروع الأوروبي الحضاري الكولونيالي، ويكتب: "بالنسبة إلى أوروبا، سنمثل جزءاً من السد أمام آسيا، سنخدم في الخط الأمامي لندافع عن الحضارة ضد البربرية، وسنبقى كدولة مستقلة متحالفين مع أوروبا التي ستضمن في المقابل وجودنا".
هنا لابد من التأكيد على أن تقصي جذور الصهيونية في أوروبا نفسها، تكشف لنا بوضوح، وجود صهيونية غير يهودية متأصلة في التراث الأوروبي الرأسمالي، وهي سابقة للصهيونية اليهودية من ناحية نشوئها، حيث نلاحظ أن ثمة صهيونية أوروبية أخذت معالمها تتضح بعد نشوء المسألة الشرقية وصعود نجم حاكم مصر محمد علي واحتلال جيشه بقيادة إبنه ابراهيم لسوريا 1820 – 1840، الأمر الذي شكل تهديداً لقدرة أوروبا الاستعمارية على التوغل في الإمبراطورية العثمانية.
لذا نشأت الحاجة لدى الدول الاستعمارية الأوروبية، وخصوصاً فرنسا وبريطانيا، إلى إيجاد موطئ قدم ثابت في فلسطين باعتبارها رأس حربة في المنطقة، والتقت هذه الحاجة الاستعمارية مع إمكان توظيف أسطورة إحياء دولة يهودية في فلسطين، عبر نابليون أولاً بداية القرن التاسع عشر وبلفور ثانياً.
وبهذا المعنى يمكن القول أن "الكولونيالية الاستعمارية البريطانية والفرنسية، كانت صهيونية قبل نشوء الحركة الصهيونية". وهناك كثير من الأدبيات التي تقرأ نشوء الحركة الصهيونية في الأساس كاستمرار للمشروع الاستعماري من وجهة نظر المصالح الاقتصادية التي يخدمها المشروع، وتظهر فيه الصهيونية أيضاً أداة في أيدي القوى الاستعمارية الكبرى"[1].
وبالتالي، فان هذا الاستعمار الاستيطاني لا ينتهي في الزمان أو المكان، فهو استعمار لا رجعة عنه، لا يمكنه ولا يريد التراجع ولا تغيير طبيعته التوسعية، ويحرص بقوة الاستبداد والإرهاب والقوانين العنصرية على عدم استخدام أهل البلاد الأصليين لهويتهم في معاملاتهم الرسمية، كما هو الحال مع أبناء شعبنا في الارض المحتلة 1948 واستخدام صفة "العرب" بدلاً من الفلسطينيين، وتفكيك هويتهم إلى هويات درزية وبدوية وطائفية، في محاولة يائسة لا مستقبل لها، تسعى إلى "تثبيت" ما يسمى بهوية "الشعب اليهودي"، التي تفتقر بصورة مطلقة لكافة العوامل أو العناصر التاريخية والمجتمعية المكونة لأي أمة من الأمم أو لأي شعب من الشعوب، وبالتالي فانني على قناعة تامة بأن "هوية دولة إسرائيل" المرتبطة بمفهوم "الشعب" أو "الأمة اليهودية" ستظل هوية مزيفة، مضطربة غير قادرة على إثبات وجودها بصورة علمية أو موضوعية أو تاريخية كجزء من نسيج المنطقة العربية، ولا يمكن تكريس هذه الهوية إلا بدواعي القوة الإكراهية الغاشمة المستندة إلى دعم القوى الإمبريالية والعربية الرجعية، فإسرائيل ستظل "كياناً غريباً مرفوضاً في المنطقة العربية من ناحية، وستظل الحركة الصهيونية عاجزة عن الحديث عن "أمة" يهودية بالمعنى الموضوعي أو العلمي، كما هو الحال بالنسبة لاستحالة الحديث عن "أمة إسلامية أو أمة مسيحية أو بوذية" من ناحية ثانية، ما يعني أن هذه "الدولة" لا تعدو كونها مجتمعاً عسكرياً استعمارياً اغتصابياً استيطانياً ، يضم أجناساً متباينة روسية وبولندية وأوكرانية وأوروبية وآسيوية وعربية وأفريقية، كل منها له ثقافته وتراثه المختلف عن الآخر، وجدوا في الفرصة التي أتاحتها الرأسمالية العالمية لهم بالذهاب إلى فلسطين واستيطانها بذريعة توراتية تحت عنوان "العودة إلى أرض الميعاد" مخرجاً لهم من أزماتهم أو مدخلاً لتحقيق مصالحهم، إذ أنه بدون تشجيع ودعم رأس المال الأوروبي عموماً والبريطاني خصوصاً لما كان من الممكن أن تتقدم الحركة الصهيونية خطوة واحدة إلى الأمام، ما يؤكد على أن التقدم الاقتصادي والعسكري الذي أحرزته دولة العدو الإسرائيلي لم يكن ممكناً دون الدعم المتواصل حتى اللحظة من القوى الإمبريالية والبرجوازية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وعملاؤها في الأنظمة العربية منذ ما قبل نكبة 1948 إلى يومنا هذا.
هنا بالضبط، أؤكد بكل ثقة، على أن نجاح الاستعمار الاستيطاني في أمريكا وأستراليا في إبادة أهل البلاد الأصليين، يستحيل تكراره في فلسطين، مهما تبدى من استفحال ضخامة قوة العدو الصهيوني بكل أبعادها (العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية)، ذلك إن شعبنا الفلسطيني امتلك هويته الوطنية ووجوده القومي المتميز في إطاره العربي السوري آنذاك، إلى جانب أن فلسطين ليست معزولة عن محيطها العربي القومي – مهما تبدى من مظاهر الهزيمة والتطبيع والانحطاط الرسمي الراهن -، في مقابل أن دولة الكيان الصهيوني معزولة موضوعيا عن محيطها، إلى جانب كونها قاعدة استعمارية/إمبريالية في بلادنا لا مستقبل لها إلا ضمن استمرار حالة الانحطاط العربي الرسمي والانقسام الفلسطيني الراهنة.
وفي كل الأحوال، فإن الصراع مع العدو الصهيوني الإمبريالي، صراع مفتوح لن تختزله لحظات انكفاء عابرة، تتجسد راهنا في خضوع واستسلام أنظمة الكمبرادور العربية للإمبريالية الأمريكية وحليفها الصهيوني من ناحية ، إلى جانب أوضاع الضعف والتفكك التي سادت على الصعيد الفلسطيني، سواء على صعيد ممثلنا الشرعي والوحيد م.ت.ف، أو استمرار الانقسام الكارثي الذي أدى إلى تفكيك الهوية وتفكيك المجتمع وتفكيك الوطنية الفلسطينية وتفكيك النظام السياسي، وكل هذه المظاهر أدت إلى ذلك التراجع الفلسطيني من خلال تراجع القوى الوطنية الفلسطينية بمختلف رؤاها وبرامجها، الأمر الذي يعني أن استنهاض قوى حركة التحرر العربية التقدمية وخروجها من أزماتها، شرط رئيسي صوب استعادة دورها في النضال السياسي والكفاحي والديمقراطي، من أجل توفير كل أسس الصمود والمقاومة في فلسطين، ومن أجل مواصلة النضال ضد أنظمة الاستبداد والتبعية والتخلف وتصفية التحالف البورجوازي الكومبرادوري – البيروقراطي، لتحقيق انتقال مقاليد القيادة إلى "الطبقات" والشرائح الاجتماعية الكادحة الأكثر جذرية، القادرة وحدها على توفير عناصر ومقومات القوة الاقتصادية والعسكرية القادرة على هزيمة الكيان الصهيوني وإزالته من بلادنا.
وهذا يعني بوضوح، أن المهمة العاجلة أمام الحركات الوطنية عموما وحركات اليسار الماركسي خصوصا، في فلسطين وكافة بلدان الوطن العربي، أن تعيد النظر في الرؤية الإستراتيجية التحررية الديمقراطية، الوطنية والقومية ببعديها السياسي والمجتمعي، انطلاقاً من إعادة احياء وتجدد الوعي بطبيعة الدولة الصهيونية، ودورها ووظيفتها كمشروع إمبريالي لا يستهدف فلسطين فحسب، بل يستهدف –بنفس الدرجة- ضمان السيطرة الإمبريالية على مقدرات الوطن العربي واحتجاز تطوره، وتكريس تبعية وتخلف وإفقار بلدانه وشعوبه، وبالتالي فإن الصراع مع المشروع الصهيوني هو صراع مع النظام الرأسمالي الإمبريالي من أجل تغيير وتجاوز النظام العربي الكومبرادوري الراهن كمهمة إستراتيجية على طريق النضال من أجل تحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية وتواصله ضد الوجود الأمريكي، وضد الدولة الصهيونية وإزالتها وإقامة فلسطين الديمقراطية لكل سكانها.
ولذلك لا بد أن نكرس في أوساط كافة القوى الوطنية التقدمية في مغرب ومشرق الوطن العربي، كل الجهود النظرية الوثائقية، ومجمل أشكال النضال الكفاحي والسياسي والاجتماعي والديمقراطي من منظور طبقي، من أجل تحقيق هذا الهدف، الذي بدون تحقيقه لا يمكن أن تحقق شعوب أمتنا العربية أي تطور سياسي أو اقتصادي أو تنموي او اجتماعي أو تكنولوجي أو عسكري من ناحية، ولا يمكن لها أيضاً أن تحقق أي مكانة أو دور في مواجهة تحديات الرأسمالية المعولمة وحليفها الصهيوني من ناحية ثانية.
في هذا السياق، من المهم أن نأخذ بعين الاعتبار التقدم الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري، الكبير الذي حققته دولة العدو الصهيوني في السنوات الأخيرة حتى صارت ضمن أهم 20 دولة رأسمالية متطورة، إذ استمرت في النمو والزيادة في الناتج المحلي الإجمالي وحصة الفرد منه التي تصل إلى 44 ألف دولار، ونسبة الانفاق على البحث والتطوير العلمي التي وصلت إلى حوالي 5.5% من الناتج الإجمالي (أي ما يعادل 22 مليار دولار سنوياً)، علماً بان الناتج الإجمالي لعام 2021 بلغ حوالي 400 مليار دولار، ويتوقع صندوق النقد الدولي وصوله إلى 480 مليار دولار نهاية عام 2022.
ما تقدم يعني أن دولة العدو الصهيوني باتت اليوم، منخرطة على نحو فاعل في النظام الاقتصادي والامبريالي المعولم (30% من صادراتها إلى الولايات المتحدة، و 28% إلى الصين)، ما يعني أن هناك إمكانية توجه الحكومات الإسرائيلية اليمينية والقوى اليمينية المتشددة صوب المزيد من الصلف والغطرسة والعدوان والتنكر لحقوق شعبنا في ظل استمرار العولمة الأحادية الامريكية الراهنة، حيث يبدو أن التعددية القطبية -بالمعنى الفعال- لن تتحقق في الأعوام القليلة القادمة، إلى جانب استمرار ضعف الأمم المتحدة في ممارسة دورها المطلوب في حماية حق تقرير المصير للشعوب، وتزايد خضوع معظم الأنظمة العربية للشروط الأمريكية الصهيونية، ومن ثم ، لن يكون من السهل توفر إمكانيات حقيقية في المدى المنظور للضغط على دولة العدو الصهيوني لكي تستجيب لقرارات الشرعية الدولية بالنسبة لحقوق شعبنا في الحرية والاستقلال والعودة.
في هذا السياق، أشير إلى أنه بالرغم من كل المآسي والخبرات المريرة المتراكمة منذ قيام الكيان والدولة الصهيونية، والدور النشط والفاعل الذي قامت به الرجعيات العربية منذ 1948 وحتى قبلها ابان ثورة 36 ، في شل مقاومة الشعب الفلسطيني وضرب ثورته، حتى بلغت في المرحلة الراهنة، قمة التسليم والخضوع عبر اعتراف العديد من البلدان بالكيان الصهيوني وتنكرها لحقوق شعبنا الفلسطيني التاريخية والشرعية في وطنه فلسطين، فلا مناص من تفعيل الحالة الثورية الفلسطينية لمزيد من المقاومة بكل اشكالها، خاصة وأن القوى اليمينية الرجعية الفلسطينية والعربية العميلة ، لازالت تزرع الأوهام حول فرص السلام المهدورة مع دولة العدو الصهيوني، رغم رفضها المطلق الاعتراف بأي حق من الحقوق الدولية المشروعة لشعبنا ناهيكم عن الاعتراف بحقوقه التاريخية، بل وصل الأمر بالمواقف العنصرية المتطرفة للتيارات الدينية الصهيونية رفضها الإقرار بأية حقوق سياسية لأبناء شعبنا في الأراضي المحتلة 1967 باعتبارها اراضٍ إسرائيلية لا يجوز التنازل عنها بل يجب العمل على مصادرتها وضمها – خاصة المنطقة (ج)- للكيان الصهيوني، حسب برامج التيارات الصهيونية الدينية المتطرفة عموماً ورموزها "بن غفير" و "سموتريتش[2]" خصوصاً، قبل وبعد فوزهما[3] في الانتخابات الأخيرة في نوفمبر 2022 ومشاركتها في حكومة "نتنياهو" التي تم الإعلان عنها في 22 / ديسمبر / 2022.
إن كل ما تقدم، يؤكد بوضوح على أن بعض مظاهر البلبلة والغموض بالنسبة للمشروع الوطني الفلسطيني، وقصور الرؤية المستقبلية، وبالأخص افتقاد الإستراتيجية الواضحة للصراع العربي الإسرائيلي على امتداد الوطن العربي، مرده إلى قصور أيضا في الرؤية التاريخية للجذور الاقتصادية/ الرأسمالية البعيدة لولادة وتطور الحركة الصهيونية في التاريخ الأوروبي الحديث، ووقوف الكم الغالب من المعالجات السياسية عند جذورها السياسية الأقرب منذ أواخر القرن التاسع عشر، وصدور كتاب هرتزل "دولة اليهود" عام 1894 في المرحلة الامبريالية، إلى جانب ضعف المتابعة الجدية -من كافة القوى الوطنية- لاستيعاب قرارات المؤتمر الصهيوني الأول 1897، وقرارات المؤتمرات الصهيونية اللاحقة إلى يومنا هذا، بكل تفاصيلها في شراء الأراضي وإقامة الجامعات والمؤسسات العسكرية، والتعاونيات والمصانع والتقدم التكنولوجي الهائل.. إلخ، المتواصلة منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا.
وبالتالي فإن المعالجة الواعية لهذه القضية بأبعادها الحقيقية، تتطلب ما هو أشمل بكثير من بعدها السياسي، فلا بد من تتبع المراحل التي مرت بها الحركة الصهيونية في تطورها وصعودها، ذلك التطور السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي والتكنولوجي والمجتمعي والثقافي، الذي تخلقت بداخله وتطورت ظاهرة الصهيونية بكل مسمياتها العلمانية أو القومية او الدينية وصولاً إلى مرحلتها العنصرية الدينية المتشددة اليوم، وذلك لكي نستوعب دروس وعبر تلك المراحل التطورية وأسباب تقاعس القيادات الفلسطينية وعجزها (قبل نكبة 1948) عن إقامة مشاريع اقتصادية أو صناعية أو جامعات أو تكنولوجيا كما هو الحال لدى الحركة الصهيونية، وذلك بسبب تخلف تلك القيادة وطابعها الاقطاعي ومواقفها الطبقية النقيضة لمصالح الجماهير الشعبية من الفلاحين الفقراء والعمال.
إن تحليلنا للظاهرة الصهيونية ونشاطها ودورها في اغتصاب وطننا، لابد أن ينطلق من أن "القضية الصهيونية لا تعالج الا على الاساس المادي التاريخي : قضية في إطار أعم وأشمل بكثير ، باعتبارها تياراً وحركة عرقية عنصرية تشكلت كفصيل ضمن التيارات والحركات الأوسع التي ضمت كل التيارات والحركات الشوفينية والعرقية، وحركات الردة، والثورة المضادة، وامتدادتها الكولونيالية الاستيطانية، في مجرى حركة التاريخ الاوروبي الحديث ، في صعوده وهبوطه، وفي التحولات الكبرى التي طرأت عليه، وعلى مواقع الطبقات والقوى الاجتماعية والسياسية والفكرية التي تصارعت ، وتبادلت النفوذ والسلطة والمراكز على مسرح هذا التاريـخ، وصولاً إلى المرحلة الراهنة التي تتفاعل فيها الشراكة والتحالف الوثيق بين الإمبريالية وصنيعتها دولة الكيان الصهيوني في إطار قواها السياسية الصهيونية العلمانية والدينية المتطرفة.
" وبذلك تمتاز الصهيونية لا بكونها تبنّت مصطلحات دينية مثل شعب الله المختار أو أرض الميعاد وحوّلتها إلى أفكار قومية فحسب، بل بكونها قامت "بتبنّي المزج العضوي بين المقدس والقومي والمطلق والنسبي""، وليس مستغرباً في هذه الحال أن يرى البعض أن الصهيونية ما هي في الأساس إلاّ محاولة جديدة لتفسير الأسطورة الدينية اليهودية وهي ليست عملية استبدال جذرية للأسطورة، فجلّ ما فعلته الصهيونية أنها أسبغت على الأسطورة الدينية مفاهيم قومية أوروبية.
وعلى الرغم من حدة القطع والصراع بين اليهودية كدين وبين المشروع القومي الصهيوني، فإنه لم يتم الفصل بين الأمة والدين، أو بين الدين والدولة، ففي الحالة الصهيونية، لم يكن الدين على هامش المشروع القومي، وإنما الصهيونية "استقت رموزها القومية وأفكارها ذاتها من التراث الديني، ثم أفرغت هذه الرموز والأفكار من محتواها الروحي والأخلاقي ونقلتها من مجالها الديني، حيث تجد شرعيتها الوحيدة، إلى المجال السياسي ".
نستخلص ممّا سبق، أن هناك علاقة معقدة بين اليهودية والصهيونية، فمن ناحية يمكن رؤية العلاقة أنها علاقة قطع وبتر مع الدين اليهودي وبالتالي تبدو الصهيونية أول وهلة حركة علمانية تماماً، ومن ناحية أُخرى يمكن وصف العلاقة بأنها علاقة استمرار (وإن يكن هناك تحول) بحيث يكون من المتعذر فصل السياسي عن الديني، والصهيونية عن اليهودية، والنسبي عن المطلق، والأرضي عن السماوي.
على أي حال، كان هذا المدخل ضرورياً لفهم حقيقتين أساسيتين في تركيب دولة العدو الإسرائيلي: علمانيتها، وإن كانت محدودة من جهة، وصبغتها الدينية اليهودية، وإن كانت محدودة أيضاً من جهة أُخرى"[4].
هنا.. من المهم الاشارة إلى أن العامل الديني التوراتي، لم يكن منطلقاً وحيداً لسياسات الحركة الصهيونية وقادتها الذين أدركوا منذ البدء أن الظاهرة الدينية ليست معياراً لقوة الدولة الحديثة، وفي هذا الصدد يمكن العودة إلى كتابات المفكرين والقادة الصهاينة الذين أكدوا على أهمية فصل الدين عن الدولة مثل "موشي هس" "ليوبنسكر" "تيودور هرتزل" "وايزمن" "بن جوريون" ما يعني دوراً رئيسياً للعلمانيين الصهاينة في تأسيس الدولة.
فقد كان هرتزل يردد "ان الدين لا يهمني، بل أن ما يهمني هو الأسطورة الجبارة للعودة، التوراة ضرورة للفقراء، وقد اعترف –كما يؤكد عبد الوهاب المسيري- بأنه فكر ملياً بتحويل اليهود بشكل جماعي إلى الكاثوليكية كحل لأوضاعهم في مجتمع مسيحي أوروبي ينبذهم " ما يؤكد على كذب أسطورة "أرض الميعاد وهيكل سليمان".
بالطبع كارل ماركس كان له رأي آخر، حيث دعا إلى إدماج اليهود في أوطانهم، لكنه رأى أن دين اليهود هو التجارة وأن إِله اليهود هو المال.. وإذا كنا نتطلع إلى تحرير الإنسانية يجب تحريرها من التجارة والمال، أي تحريرها من اليهودية وتحرير اليهودي من يهوديته".
لكن مصالح بريطانيا وأوروبا والتوسع الرأسمالي إلى جانب ضعف وتخلف القوى السياسية والمجتمعية العربية، أفسح المجال واسعاً أمام المشروع الصهيوني الاستعماري –لإنشاء مؤسساته العلمية والصناعية والعسكرية- وولادة الكيان الصهيوني 1948 والنكبة.
ومع استمرار الضعف والتراجع العربي والفلسطيني، ظهر مجدداً شعار "الدولة اليهودية" عبر خطاب شارون في العقبة 4/6/2003 الذي طالب فيه بالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، وأيده في ذلك الرئيس الأمريكي بوش بقوله "ان أمريكا ملتزمة بقوة أمن "إسرائيل" كدولة يهودية مفعمة بالحيوية"، وهكذا أصبحت يهودية "إسرائيل" مسألة دولية منذ ذلك التاريخ، وصولاً إلى ظهور مصطلح " "الصهيونية الدينية" المتطرفة، باعتبارها الاسم الجديد الذي تبناه حزب "الاتحاد الوطني- تكوما" قبل أعوام قليلة، وعلى أعتاب انتخابات الكنيست الـ 24 التي جرت في آذار 2021 تم اختيار "الصهيونية الدينية" اسماً للقائمة التي تضم ثلاثة أحزاب من التيار الديني- القومي هي: حزب "الصهيونية الدينية" برئاسة بتسلئيل سموتريتش، وحزب "عوتسما يهوديت" ("قوة يهودية") برئاسة إيتمار بن غفير (من أتباع الحاخام مئير كهانا، زعيم حركة "كاخ" المحظورة)، وحزب "نوعام" برئاسة آفي ماعوز.
إلا أن أكثر ما تجدر الإشارة إليه، هو أن الاتجاه السياسي الذي يوجه هذا المعسكر السياسي الأيديولوجي الديني، يضعه حاخامو المستوطنات وفي مقدمتهم دوف ليئور وشلومو أفنير. فهؤلاء الحاخامون هم من يحددون السياسة الحقيقية ويؤثِّرون في الجمهور اليهودي من وراء الكواليس، وأحياناً بشكل علني، ومواقفهم السياسية واضحة ومنهجية وحاسمة. كما أن هؤلاء الحاخامين غير منغلقين أمام ما يحدث في العالم، لكنهم يؤمنون بنظرية المراحل، وبحسب الوعد الإلهي فإن "أرض إسرائيل" جميعها تابعة إلى "شعب إسرائيل" وحده"[5].
في هذا الجانب، يمكن الإشارة إلى ثلاث مراحل أساسية بعد هزيمة حزيران 1967 أدت بالذات إلى بروز أقصى اليمين الجديد[6]:
المرحلة الأولى: مرحلة أوسلو- التسوية والتي استمرت حتى فشل مفاوضات كامب ديفيد واندلاع الانتفاضة الثانية، فيما تعمق الصراع حول كيفية مواجهة مشاريع التسوية والانسحاب، المترتبة على أوسلو، بين اليمين العقائدي والبراغماتي، والتي وصلت ذروتها باغتيال إسحق رابين، وانتهت بإعلان حكومة ايهود باراك بأنه لا يوجد شريك فلسطيني ما شكل لحظة اعتراف أن لا طريق سوى طريق اليمين.
المرحلة الثانية: هي مرحلة انشقاق اليمين في إثر خطة الانفصال في 2005، ما بين يمين براغماتي يخضع الأيديولوجي للأمني، وينظم الاستيطان وفق متطلبات أمنية ونفعية وليس فقط عقائدية، ويمثله حزب كديما، وأقصى يمين عقائدي يتمترس في الأيديولوجي، ويرفض أي مساومة وانسحاب من أرض مسيطر عليها ويمثله متمردو الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو واليمين الاستيطاني الديني.
المرحلة الثالثة: هي مرحلة نجاح أقصى اليمين في الوصول إلى سدة الحكم في 2009، وفيها بدأت عملية منظمة لوضع الأساس لحسم الصراع على أساس ضم ما يمكن ضمه من أرض إسرائيل وترسيخ الفوقية القومية اليهودية.
تتميز المرحلة الثالثة بتحول الليكود إلى حزب شعبوي، وبتطور طقوس الولاء والطاعة حول بنيامين نتنياهو، كما ينعكس في صعود قوة الصهيونية الدينية الاستيطانية وتحولها نحو مزيد من التطرف بعد هيمنة تيار الحردلية بزعامة بتسلئيل سموتريتش، هذا التيار يدمج بين التزمت الحريدي الديني والتطرف القومي الاستيطاني، وبتحول الحريدية التي كانت إجمالا خارج المشروع الصهيوني إلى تيار يميني – قومي، وبعودة الكهانية إلى قلب المشهد السياسي من خلال حزب "عوتسما يهوديت" بزعامة إيتمار بن غفير، في إطار التحالف بين "بن غفير" و "سموتريتش" في حكومة نتنياهو التي تشكلت في أواخر ديسمبر 2022.
ويتوازى هذا الصعود لحركات التطرف الديني الصهيوني مع ظهور عشرات الجمعيات اليمينية والاستيطانية الجديدة التي تعمل على وضع السياسات ومتابعة تطبيقها.
إن عملية صعود أقصى اليمين بتياراته وتنويعاته المختلفة تتميز بصيرورتين أساسيتين مترابطتين هما: أولا، تطبيع التطرف والفاشية، وثانيا، يمننة (من يمين) المجتمع الإسرائيلي، ويحوصل في هذ الإطار تبييض بن غفير وخطابه وسلوكه عملية تطبيع التطرف، فيما يعكس التوافق الإسرائيلي حول المشاريع الاستيطانية عملية يمننة المجتمع والحقل السياسي[7]".
[1] رائف زريق – إسرائيل خلفية أيديولوجية وتاريخية – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – 18/6/2020
[2] جاءت خطة سموتريتش بناء على ما ألمح إليه لاحقا مبنية على هدى يهوشع بن نون وتعامله مع السكان المحليين بعد أن عبر نهر الأردن واحتل أرض كنعان تنفيذاً للإرادة الإلهية وتحقيقاً للوعد، وبحسب الأسطورة أرسل يهوشع بن نون لسكان البلاد ثلاث رسائل فيها ثلاثة خيارات أوضحها موسى بن ميمون (الرمبام): إذا لم يهرب سكان البلاد يجب أن تفرض عليهم قيود، أن يكونوا مهانين ومحتقرين وأن لا يرفعوا رأسا في إسرائيل. وإن عارضوا ذلك “لا نترك منهم نفسا”.
بالطبع يستحيل أن تحقق الصهيونية الدينية مشروعها بضربة واحدة، ناهيك عن أن ذلك مرتبط بالدينامية الداخلية والدولة العميقة والمقاومة الفلسطينية والوحدة الوطنية، والعلاقات العربية والدولية، ولكن هذه هي وجهتها ورؤيتها الفكرية التي تدفع نحو تحققها. (هنيدة غانم – صعود أقصى اليمين الإسرائيلي – مدار – 10/11/2022.)
[3] يعكس فوز تحالف “الصهيونية الدينية” (بن غفير – سموتريتش) بـ14 مقعدا صيرورة تديين الصهيونية وانفلات شحنتها المسيانية من عقالها، ويحوصل صيرورة نمو بذور التطرف التي حملتها الصهيونية الأم برحمها عبر انبنائها على علمنة الدين في ظل تحولات السياق الذي تنشط فيه، حيث ظلت الأساطير الدينية والتوراتية على حالها وتغير الشرط السوسيولوجي والتاريخي وأصبحت نقطة النهاية التي تضعها الصهيونية الدينية متداخلة مع السيرورة الربانية الخلاصية وتمازجت فكرة الشعب المختار بفكرة الأمة القومية وبالفوقية اليهودية… وتعكس خطة بتسلئيل سموتريتش، زعيم “الصهيونية الدينية” – الحردلية- التي تحمل عنوان “خطة الحسم” المنظومة القيمية الموجهة للصهيونية الدينية التي تضفر السياسة بالأسطورة. سك سموتريتش خطته من سياسات يهوشع بن نون تجاه سكان البلاد بعد أن احتل البلاد ومن الخيارات التي وضعها أمامهم. تنطلق خطة سموتريتش من الاعتقاد بأنه لا يوجد بين النهر والبحر مكان إلا لدولة واحدة هي “دولة إسرائيل التي تستند شرعيتها على الحق الإلهي وعلى اتفاق شعوب العالم في لحظة تاريخية نادرة للمساعدة من أجل تحقيق الرؤيا وإعادة البلاد لشعب إسرائيل”. وتضع أمام الفلسطينيين ثلاثة خيارات: أن يتركوا البلاد، أن يعيشوا في البلاد كرعايا (‘גר תושב ‘) ويكونون بحسب الشرائع اليهودية- بطبيعة الحال- أقل مكانة من اليهود، أو أن يقاوموا وحينها سيعرف الجيش ماذا عليه أن يفعل. (هنيدة غانم – صعود أقصى اليمين الإسرائيلي – مدار – 10/11/2022).
يقول بن غوريون: (إني أعتبر “يشوع” هو بطل التوراة، إنه لم يكن مجرد قائد عسكري، بل كان المرشد؛ لأنه توصل غلى توحيد قبائل إسرائيل)؛ بل لأنه هو الذي قتل الفلسطينيين وأبادهم. (د.نعمان السامرائي – اليهود وعبادة القوة والتحالف مع الأقوياء.)
[4] رائف زريق – إسرائيل خلفية أيديولوجية وتاريخية – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – 18/6/2020
[5] أنطوان شلحت – حول أبرز أسباب تحوّل تحالف الصهيونية الدينية إلى القوة الثالثة- مدار – 5/12/2022
[6] هنيدة غانم – صعود أقصى اليمين الإسرائيلي – مدار – 10/11/2022.
[7] المصدر السابق.- هنيدة غانم .