Menu

الجامعةُ العربيّةُ من مؤسّسةٍ للتضامن العربيّ إلى إطارٍ للردّة والتطبيع وخيانة القضيّة الفلسطينيّة

عليان عليان

نشر هذا المقال في العدد 46 من مجلة الهدف الإلكترونية

دونَ الإيغالِ كثيرًا في خلفيّةِ تأسيسِ الجامعة العربيّةِ في منتصف الأربعيناتِ من القرن الماضي، نشيرُ إلى حقيقةٍ لا يختلفُ عليها اثنان، وهي أنّ فكرتها الأوليّة انطلقتْ من بريطانيا في خطاب أنتوني إيدن وزير خارجيّة بريطانيا آنذاك في 29 مايو/ أيار 1941، وفي تصريحه في مجلس العموم البريطاني، بأنّ حكومته، تنظرُ بعين العطف، إلى حركةٍ بين العرب ترمي إلى تحقيقِ وحدتهم الاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة.

وقد تمّتْ ترجمة هذا التوجّه البريطاني- الهادف إلى توظيف آليّة التوحيد العربيّة في خدمة الهيمنة البريطانيّة على العالم العربي – عبر تشكيل لجنةٍ تحضيريّةٍ من عددٍ من البلدان العربيّة عام 1944، توصّلت إلى صياغة بروتوكول الإسكندرية في العام نفسه، ومن ثم الميثاق في 19 مارس – آذار 1945، وليصبح عبد الرحمن عزام أوّل أمين عام للجامعة.

لكن جرت الرياحُ بما لا تشتهي السفن البريطانيّة، فبريطانيا خرجت مهشّمةً وضعيفةً بعد الحرب العالميّة الثانية، وجاءت ثورة 23 يوليو عام 1952 لتخرجها من مصر عبرَ اتّفاقيّة الجلاء عام 1954، ولتنهي سيطرةَ كلٍّ من فرنسا وبريطانيا على قناة السويس إثرَ قرار التأميم التاريخي، وما نجم عنه من عدوانٍ ثلاثيٍّ على مصر عام 1956، خرجت بعده بريطانيا دولةً عظمى من التاريخ، وبخاصةٍ بعد أن قبرت ثورة 23 يوليو ومعها جماهير الأمة العربية حلف بغداد الاستعماري في مهده.

ثورة (23) يوليو والجامعة العربية

وهكذا فإنّ متغيّر ثورة (23) يوليو المصريّة بقيادة  خالد الذكر جمال عبد الناصر أفشل المخطّط الاستعماريّ البريطانيّ بشأن الجامعة العربيّة، ومن ثم أصبحت الجامعة بمؤسّساتها واتّفاقاتها، والهيئات واللجان المتفرّعة عنها، تؤدي دورًا إيجابيًّا بالحدود الدنيا في التنسيق حيال القضايا المختلفة، التي تخصُّ الدول العربيّة، كقضايا مقاطعة (إسرائيل) وتعزيز التبادلات الثقافيّة، وتشجيع برامج الشباب والرياضة، والنهوض بدور المرأة، وإطلاق عمليّات محو الأميّة وعمليّات نسخ للأعمال الفكرية، وترجمة المصطلحات التقنية، ومكافحة الجريمة والمخدرات... إلخ. لكنّها في الجوهر، لم تحقّق وجودًا عسكريًّا عربيًّا مشتركًا، ولا تكامل اقتصادي، ولا سوق عربيّة، رغم توفر الإمكانات، جراء تردد وتذبذب وارتهان، بعض مكونات الجامعة الرجعية للولايات المتحدة، ومن ثَمَّ اقتصر دور مجلس الوحدة الاقتصاديّة، ومعاهدة الدفاع المشترك على قضايا شكليّة، ذات طابعٍ تنسيقيٍّ وخدماتيّ، وليس أكثر.

إنجازات الجامعة العربيّة في مراحلَ سابقة:

لكن يسجّلُ للجامعة العربيّة، في ستينات وسبعينات القرن الماضي، أنها شرعت مؤتمرات القمة العربية التي نجم عنها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

1- في مؤتمر القمّة العربيّة الثانية في الإسكندرية في سبتمبر (أيلول) 1964، تمّت المصادقة على تأسيس منظّمة التحرير الفلسطينيّة، كإطارٍ جامعٍ للشعب الفلسطيني بمختلف مكوناته السياسيّة.

2- في مؤتمر القمة العربيّة بالخرطوم بعد حرب 1967، صدر عنها قرارات وتوصيات تاريخيّة تحت عنوان اللاءات الثلاث "لا صلح – لا مفاوضات – لا اعتراف"، مفشلة توقعات العدو الصهيوني بأن تهرول العواصم العربية لـ تل أبيب لتوقيع صك الهزيمة والاستسلام.

3- ويسجّل لها موقفها، في حرب تشرين 1973، وما وفرته من سبل الدعم لكلّ من و سوريا ومصر أثناء الحرب وبعدها، والاعتراف بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة عضوًا كاملَ العضوية في الجامعة العربية في (9) سبتمبر (أيلول) 1976، ودعمها لاحقًا في الحصول على عضوٍ مراقبٍ في الأمم المتحدة.

4- ويسجل لها لجوؤها إلى مقاطعة النظام المصري وتجميد عضويته، إثر إقدام السادات على توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1978، ونقلها مقر الجامعة العربيّة إلى الجمهوريّة التونسيّة (1979- 1990).

الجامعة العربيّة والارتهان الكامل للولايات المتّحدة:

لكن الجامعة العربيّة عادت أدراجها، إلى مرحلة التأسيس ذات الخلفيّة الاستعماريّة، إثر عودة نظام كامب ديفيد برئاسة مبارك، إلى الجامعة وعودة مقر الجامعة إلى القاهرة عام 1990، في ضوء اختلال في موازين القوى العربيّة داخل الجامعة، لصالح القوى الرجعيّة جراء انهيار الاتحاد السوفييتي وظهور القطبيّة الأمريكيّة الواحدة والمهيمنة.

نعم عادت الجامعة أدراجها، بخلفية التأسيس الاستعمارية، لكن هذه المرة تحت إبط الولايات المتّحدة، التي سعت لملء الفراغ البريطاني بعد عام 1956 عبر مبدأ "أيزنهاور"، لكن ثورة 23 يوليو وبقية القوى القوميّة والتقدميّة العربيّة، حالت آنذاك، دون تمكين واشنطن من الجامعة العربيّة.

ويمكن التأريخ لمرحلة ارتداد الجامعة، عن دورها وميثاقها عام 1990، عندما وفرت القمة العربيّة في القاهرة، الغطاء السياسي للعدوان الثلاثيني على العراق، عبر إعمالها مبدأ الأغلبية، ولأوّل مرّةٍ بدل مبدأ الإجماع المعمول به منذ تأسيسها.

ومنذ تلك الفترة ، أصبحت الجامعة العربية، أداة مرتهنة بشكل كامل للولايات المتحدة الأمريكية، حيث سهلت مهمة حصار العراق على مدار (13) عاما وساهمت في تجويع وموت عشرات الآلاف من العراقيين، ودعمت عمليا العدوان الأنجلو أميركي الصهيوني على العراق واحتلاله عام 2003، ووفرت الغطاء السياسي للعدوان الأطلسي الإمبريالي على ليبيا وإسقاط نظام العقيد معمر القذافي، ووفرت الغطاء السياسي والمادي للمؤامرة الصهيو أميركية الغربية الرجعية على سورية، بعد أن جمدت مقعد سورية في الجامعة العربية في تشرين ثاني (نوفمبر) 2011، كما وفرت الغطاء السياسي للعدوان السعودي – الاماراتي على اليمن  المدعوم من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وبريطانيا ومن بقية الدول الغربية،  منذ 25 (مارس) آذار 2015.

يضاف إلى ما تقدم، أنها أدارت ظهرها لقرارات المقاطعة العربية (لإسرائيل) بعد توقيع معاهدات السلام مع العدو الصهيوني: كامب ديفيد 1977، أوسلو 1993، وادي عربة 1994.

الجامعة العربية والتطبيع وخيانة القضية الفلسطينية

ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد، بل انتقلت الجامعة العربية، من خانة التخلي عن قوانين المقاطعة عملياً، إلى خانة التطبيع، وفي هذا السياق نشير إلى ما يلي:

أولاً: لم تحدد الجامعة، ولا القمم العربية المنبثقة عنها ،موقفاً رافضاً للاتفاقات والمعاهدات الموقعة  من قبل أكثر من طرف عربي رسمي مع (إسرائيل)، ولم تعترض  على البنود الواردة فيها بشأن إلغاء المقاطعة معها، ولم تحدد موقفاً رافضاً أو معترضاً أو مديناً لاتفاق التطبيع الإبراهيمي الذي  وقعته الإمارات بتاريخ 13 آب ( أغسطس) 2020، الأمر الذي اعتبره جاريد كوشنر -مستشار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب- في تصريح له في العاشر من سبتمبر ( أيلول) 2020 تحولا مهما في  الشرق الأوسط ، لتكر المسبحة بعد ذلك بتوقيع اتفاقات تطبيع ابراهيمية بين الكيان الصهيوني مع كل من البحرين و السودان والمغرب.

وكانت الجامعةُ العربيّةُ قد رفضتْ طلبًا فلسطينيًّا بعقد اجتماع طارئ للجامعة لمناقشة الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، وسكتت عن خروج الإمارات عن قمة بيروت عام 2002، التي أعلن التي أعلن فيها الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز "مبادرة السلام العربية التي تنص على "الأرض مقابل السلام التطبيعي".

  كما أنّها في اجتماعها على مستوى وزراء الخارجية، قد أسقطت المشروع الذي تقدم به ممثل فلسطين لدى الجامعة "مهند العكلوك" الذي يدين اتفاق التطبيع الإبراهيمي بين كل من الإمارات و (إسرائيل)، وقال الدبلوماسي الفلسطيني في حينه، "أن بلاده فوجئت بعدم التزام بعض الدول العربية (التي لم يذكرها) بالنص المتوافق عليه، بل حاولت إضافة بنود تضفي الشرعية على اتفاق التطبيع بين أبو ظبي وتل أبيب".  

ثانيًا: لم تحدد الجامعة، ولا القمم العربية، موقفًا من افتتاح مكاتبَ تجاريّةٍ وممثّليّاتٍ إسرائيليّةٍ في بعض العواصم العربيّة مثل قطر وسلطنة عمان، ولا من مشاركة إسرائيليين في مؤتمرات تعقد في العديد من الدول العربيّة، التي لا تربطها معاهدات مع (إسرائيل).

ثالثًا: أنّها أرست أساسًا للتطبيع العربي والاسلامي الرسمي مع الكيان الصهيوني، عبر المبادرة  المنبثقة عن قمة بيروت العربية عام 2002 التي تحمل عنوان "الأرض مقابل التطبيع الكامل"، ووصلت البجاحة بها في مؤتمر قمة الرياض 2007، أن ترسل وزراء خارجية عرب (لإسرائيل) من الذين تربطهم معاهدات معها لإقناعها بها، وأن تسوق إعلانات مدفوعة الأجر لهذه المبادرة  في الصحف الإسرائيلية مزينةً بأعلام الدول العربية والإسلامية، ناهيك أن المبادرة التفت على حق العودة للاجئين الفلسطينيين من خلال نص ملتبس على نحو "حل عادل متفق عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين وفق القرار (194)" أي متفق عليه مع الكيان الصهيوني، ما يعني إخضاع هذا الحق للمساومة.

يضاف إلى ذلك أن "لجنة المتابعة العربية" التي شكلتها الجامعة العربية لمتابعة الشأن الفلسطيني، والتي ترأسها لفترة من الوقت وزير الخارجية القطري "حمد بن جاسم" عملت على تطويع الجانب الفلسطيني لتقديم المزيد من التنازلات، وفي الذاكرة كيف ضغطت اللجنة على الجانب الفلسطيني المتنفذ عام 2010، للعودة للمفاوضات المباشرة مع الكيان الصهيوني، بعد أن تخلى عنها احتجاجاً على العدوان الصهيوني على قطاع غزة 2010، وفي حينه احتضنت عمان محادثات التقريب غير المباشرة بين السلطة الفلسطينية وحكومة العدو الصهيوني.

 وفي الذاكرة أيضاً "مشروع حمد بن جاسم" التعديلي "لمبادرة السلام العربية"- سيئة الذكر- الذي تضمن تنازل عن أراضي في الضفة الغربية للكيان الصهيوني، من أجل إقناع (إسرائيل) بها.

رابعاً: شاركت الجامعة العربية بشخص أمينها العام السابق، عمرو موسى في مؤتمرات دافوس العولمية، إلى جانب ممثلين لدولة العدو، ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل شارك أمين الجامعة في ندوة عن مستقبل الشرق الأوسط، إلى جانب شمعون بيريز، في سياق حميمي وتطبيعي، في حين اندغم أمين عام الجامعة العربية الحالي أحمد أبو الغيط في نفس نهج  عمرو موسى  التطبيعي، وعمل كذلك على تغطية المؤامرة الإمبريالية الكونية الرجعية على سورية، مروجاً لمعلومات مضللة عن مناقلات ديمغرافية في بعض المحافظات السورية،  بهدف إشعال فتن طائفية تخدم  المشروع الإمبريالي التقسيمي لسورية.

كم سبق الجامعة العربية، أن دخلت في نسق تطبيعي غير مسبوق، بدخولها في اللعبة الانتخابية الإسرائيلية، عبر دعوتها العرب في مناطق 1948، للتصويت بكثافة لصالح الكتل العربية وللكتل غير اليمينية الإسرائيلية، ما يعني اعترافها بشرعية دولة العدو ومؤسساته.

خلاصةً: لقد تحولت الجامعة العربية من أداة للتضامن العربي، إلى أداة بيد الرجعيات العربية وتحديداً الرجعيات الخليجية " السعودية وقطر والإمارات"، توظفها كما تشاء في خدمة التطبيع مع العدو الصهيوني، وفي خدمة تصفية القضية الفلسطينية، وفي خدمة المشروع الصهيو أميركي في المنطقة، وفي حرف بوصلة التناقض ليصبح عملياً مع إيران وعموم محور المقاومة، مع ضرورة  الإشارة هنا، إلى أن ميزان القوى داخل الجامعة لم يسمح لدول عربية رافضة لنهج التطبيع أن تغير من نهج الجامعة.