Menu

خاصعودة إلى جورج لوكاش: اللا عقلانيّة الجديدة

بوابة الهدف - خاص بالهدف: ترجمة وتحرير أحمد مصطفى جابر*

بعد مرور أكثرَ من قرنٍ على اندلاع الأزمة الكبرى عام 1914-1945، التي مثّلتها الحربُ العالميّةُ الأولى والكساد العظيم والحرب العالمية الثانية؛ نشهد عودةً مفاجئةً للحرب والفاشية في جميع أنحاء العالم. ويتّسمُ الاقتصاد العالمي الرأسمالي - كليًّا الآن - بتعمّق الركود، واللا مساواة المتزايدة. كلّ هذا مصحوبٌ باحتمال قتل الكوكب في الأشكال المزدوجة للمحرقة النووية وزعزعة استقرار المناخ. في هذا السياق الخطير، كثيرًا ما يتمُّ التشكيكُ في فكرة العقل البشري. لذلك من الضروري أن نعالج مرّةً أخرى مسألةَ علاقة الإمبرياليّة أو الرأسماليّة الاحتكاريّة بتدمير العقل، وتداعيات ذلك على النضالات الطبقيّة والمعادية للإمبرياليّة.

عام 1953، نشر جورج لوكاش، الذي ألهم تاريخه ووعيه الطبقي عام 1923 التقليد الفلسفي الماركسي الغربي، عمله الرائد، تدمير العقل (تحطيم العقل في النسخة العربية المترجمة)، عن العلاقة الوثيقة بيناللاعقلانية الفلسفيّة والرأسماليّة والإمبرياليّة والفاشيّة. أثار عمل لوكاش عاصفةً ناريّةً بين منظّري اليسار الغربيين الذين يسعون إلى تكييف أنفسهم مع الإمبرياليّة الأمريكيّة الجديدة. وعام 1963، كتب جورج ليشثيم، وهو اشتراكيٌّ يعمل ضمن التقاليد العامة للماركسيّة الغربيّة، في حين كان يعارض بشدّةٍ الماركسيّة السوفيتيّة، مقالًا لمجلّة Encounter Magazine، التي موّلتها سرًّا وكالة المخابرات المركزية (CIA) حيث هاجم بشدة (تدمير العقل) وأعمال أخرى للوكاش. واتهم ليشثيم لوكاش بتوليد "كارثةٍ فكريّة" بتحليله للتحوّل التاريخي من العقل إلى غير المعقول في الفلسفة والأدب الأوروبيين، وعلاقة ذلك بصعود الفاشية والإمبريالية الجديدة تحت الهيمنة الأمريكية العالمية.

لم تكن هذه هي المرة الأولى بالطبع التي يتعرض فيها لوكاش لمثل هذه الإدانات الشديدة من قبل شخصيّاتٍ مرتبطةٍ بالماركسية الغربية. ثيودور أدورنو، أحد المنظرين المهيمنين في مدرسة فرانكفورت، هاجم لوكاش عام 1958 عندما كان الأخير لا يزال قيد الإقامة الجبرية لدعمه ثورة 1956 في المجر. وكتب أدورنو في مجلة Der Monat، وهي مجلةٌ أنشأها جيش الاحتلال الأمريكي ومولتها وكالة المخابرات المركزية، واتهم لوكاش بأنه "مختزل" و "غير دياليكتيكي"، وكتابته مثل "المفوض الثقافي"، وبأنه "مشلول منذ البداية؛ بسبب وعيه بعجزه ".

ومع ذلك، فإنّ هجوم عام 1963 على لوكاش من قبل ليشثيم في Encounter أخذ أهميّةً إضافيّةً بسبب إدانته المطلقة لـ "تدمير العقل". في هذا العمل، رسم لوكاش العلاقة بيناللاعقلانية الفلسفيّة - التي ظهرت لأوّل مرّة في القارة الأوروبيّة، ولا سيّما في ألمانيا، مع هزيمة ثورات 1848، التي أصبحت قوّةً مهيمنةً قرب نهاية القرن - مع صعود المرحلة الإمبرياليّة للرأسماليّة. بالنسبة للوكاش، فإنّاللاعقلانية، بما في ذلك اندماجها النهائي مع النازية، لم تكن تطوّرًا عرضيًّا، بل كانت نتاجًا للرأسماليّة نفسها. رد ليشثيم باتهام لوكاكس بارتكاب "جريمةٍ فكريّة" في إقامة علاقةٍ غير شرعيّةٍ بيناللاعقلانية الفلسفيّة (المرتبطة بمفكرين، مثل آرثر شوبنهاور وفريدريك نيتشه وهنري بيرجسون وجورج سوريل وأوزوالد شبنجلر ومارتن هايدجر وكارل شميت) وصعود أدولف هتلر.

بدأ لوكاش كتابه بشكلٍ استفزازيٍّ بالقول "إن الموضوع الذي يقدم نفسه لنا هو طريق ألمانيا إلى هتلر في مجال الفلسفة". لكن نقده كان في الواقع أوسع بكثير، حيث رأى أناللاعقلانية مرتبطةٌ بالمرحلة الإمبريالية للرأسمالية بشكلٍ عام. ومن ثَمَّ، فإنّ أكثر ما أثار غضب نقاد لوكاش في الغرب في أوائل الستينات هو اقتراحه بأنّ مشكلة تدمير العقل لم تختفِ مع الهزيمة التاريخية للفاشية، لكنها كانت مستمرّةً في تغذية الميول الرجعية، إذا كان ذلك سرًّا، في حقبة الحرب الباردة الجديدة التي هيمنت عليها الإمبريالية الأمريكية. اتهم ليشثيم بأن "كوابيس فرانز كافكا" استخدمها لوكاش دليلًا على "الطابع الشيطاني لعالم الرأسمالية الحديثة"، الذي تمثله الآن الولايات المتحدة. ومع ذلك، كان من المستحيل دحض حجة لوكاش في هذا الصدد. وهكذا كتب، بعباراتٍ لا تزال ذات مغزى حتى اليوم:

"على عكس ألمانيا، كان للولايات المتحدة دستورٌ ديمقراطيٌّ منذ البداية. وتمكّنت طبقتها الحاكمة، خاصّة خلال الحقبة الإمبريالية، من الحفاظ على الأشكال الديمقراطيّة بشكلٍ فعّالٍ لدرجة أنّها تمكّنت من خلال الوسائل القانونيّة الديمقراطيّة من تحقيق ديكتاتوريّة احتكار الرأسماليّة على الأقلّ بقوّة، مثل تلك التي أقامها هتلر بإجراءاتٍ استبداديّة. هذه الديمقراطيّة التي تعملُ بسلاسة، تم إنشاؤها من قبل الامتياز الرئاسي، وسلطة المحكمة العليا في المسائل الدستورية، والاحتكار المالي للصحافة، والراديو، وما إلى ذلك، وتكاليف الانتخابات، والتي منعت بنجاح الأحزاب الديمقراطية الحقيقية من الظهور إلى جانب حزبان من الرأسمالية الاحتكارية، وأخيرًا استخدام الوسائل الإرهابية (نظام الإعدام خارج نطاق القانون). ويمكن لهذه الديمقراطية، من حيث الجوهر، إدراك كل شيء سعى إليه هتلر دون الحاجة إلى قطع الديمقراطية رسميًّا. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك الأساس الاقتصادي الأوسع والأكثر صلابةً بشكلٍ لا يضاهى للرأسمالية الاحتكارية".

في هذه الظروف، أصر لوكاش على أنّ اللاعقلانية و"تراكم الازدراء الساخر للإنسانيّة" كانا "النتيجة الأيديولوجية الضرورية لهيكل الإمبريالية الأمريكية وتأثيرها المحتمل". كان هذا الادعاء الصادم بوجود استمراريّةٍ في علاقة الإمبريالية واللا العقلانية الممتدة على مدار قرنٍ كامل، من أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا، من خلال الفاشية، واستمرارًا في إمبراطورية الناتو الجديدة التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، قد رفض بقوّةٍ في ذلك الوقت من العديد من أولئك المرتبطين بالتقاليد الفلسفية الماركسية الغربية. كان هذا، إذًا، أكثر من أي شيءٍ آخر، هو الذي أدّى إلى التنصّل شبه الكامل من أعمال لوكاش اللاحقة (بعد كتابه عام 1923 History and Class Consciousness- التاريخ والوعي الطبقي) من قبل المفكرين اليساريين الذين يعملون جنبًا إلى جنبٍ مع الليبرالية الجديدة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ومع ذلك، فإن تدمير العقل لم يكن خاضعًا لنقدٍ منهجيٍّ من قبل أولئك الذين عارضوه؛ ما يعني مواجهة القضايا الحاسمة التي أثارها. وبدلًا من ذلك، تمَّ رفضُهُ بشكلٍ لاذعٍ من قبل اليسار الغربي؛ باعتباره يشكل "تحريفًا متعمّدًا للحقيقة" و "خطبة من 700 صفحة" و"خط ستاليني" كما لاحظ أحد المعلّقين مؤخّرًا، "يمكن تلخيص استقباله من خلال عددٍ قليلٍ من أحكام الإعدام" الصادرة ضدّه من قبل الماركسيين الغربيين البارزين.

ومع ذلك، لم يكن هناك إنكارٌ لحجم المشروع الذي يمثله " تدمير العقل" باعتباره نقدًا للتقاليد الرئيسية لللا العقلانية الغربية من قبل الفيلسوف الماركسي الأكثر احترامًا في العالم آنذاك. بدلًا من التعامل مع مختلف أنظمة الفكراللاعقلانية في منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين كما لو كانت ببساطةٍ قد سقطت من السماء، ربطها لوكاش بالتطوّرات التاريخيّة والماديّة التي نشأت منها. هنا، اعتمدت حجته في النهاية على لينين في (الإمبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية)، لذلك، تم تحديداللاعقلانية، كما في لينين، بشكلٍ أساسيٍّ بالظروف التاريخية المادية لعصر الرأسمالية الاحتكارية، وتقسيم العالم بأسره بين القوى العظمى، والصراعات الجيوسياسيّة على الهيمنة ومناطق النفوذ. تجلّى هذا في التنافس الاقتصادي الاستعماري بين الدول الرأسمالية المختلفة؛ ما أدى إلى تلوين السياق التاريخي بأكمله الذي ظهرت فيه المرحلة الإمبريالية الجديدة للرأسمالية.

لا يزال هذا الواقع المادي الأساسي قائمًا اليوم من نواحٍ عديدة، لكنه عُدّل بشكلٍ كبيرٍ في ظل الإمبريالية العالمية للولايات المتحدة لدرجة أنه يمكن القول بنشوء مرحلةٍ جديدةٍ من الإمبرياليّة المتأخرة، يعود تاريخها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، واندمجت على الفور في الحرب الباردة، واستمرّت، بعد فترةٍ وجيزة، في الحرب الباردة الجديدة اليوم. تتطابق الإمبريالية المتأخرة بهذا المعنى زمنيًّا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وظهور العصر النووي، وبداية عصر الأنثروبوسين في التاريخ الجيولوجي [الأنثروبوسين، هي حقبةٌ مقترحةٌ يعود تاريخها إلى بداية التأثير البشري الكبير على جيولوجيا الأرض والنظم، بما في ذلك، على سبيل المثال غير المحدود، تغير المناخ البشري المنشأ.] الذي ميّز ظهور الأزمة البيئيّة الكوكبيّة. توطيد رأس المال الاحتكاري العالمي (مؤخّرًا رأس المال الاحتكاري المالي)، والنضال من قبل الولايات المتّحدة - مدعومًا بالإمبريالية الجماعية لثالوث الولايات المتحدة / كندا، وأوروبا، واليابان - من أجل التفوق العالمي في عالم أحادي القطب كلّها تتوافق مع هذه المرحلة من الإمبريالية المتأخرة.

بالنسبة لليسار الغربي نفسه، تميّز تاريخ الإمبريالية المتأخرة في المقام الأول بهزيمة ثورات عام 1968، تلاها زوال مجتمعاتٍ على النمط السوفيتي بعد عام 1989، التي كان من نتائجها الرئيسيّة انهيار الديمقراطيّة الاجتماعيّة الغربيّة.. وضعت هذه الأحداث اليسار الغربي كلّه في موقفٍ ضعيف، تم تحديده في النهاية من خلال خضوعه العام لمعاييرَ واسعةٍ للمشروع الإمبريالي المتمركز في الولايات المتحدة ورفضه الاصطفاف مع النضال ضد الإمبريالية، ومن ثَمَّ ضمان عدم أهميّته الثورية.

من الضروري هنا أن ندرك أن ساحة المعركة الرئيسية للإمبراطورية الأمريكية على مدار الفترة بأكملها، التي يعود تاريخها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الجنوب العالمي. كانت الحروب والتدخلات العسكرية - التي حرضت عليها واشنطن بشكلٍ أساسي - متواصلةً تقريبًا؛ ردًّا على الثورات ونضالات التحرر الوطني، التي استوحي معظمها من الماركسية، التي حدثت خلال فترة الاستعمار الجديد / ما بعد الاستعمار. على الرغم من ظهور التنمية الاقتصادية في العقود الأخيرة في أجزاءٍ من العالم الثالث، إلّا أنّ شدّة استغلال / مصادرة الاقتصادات في محيط النظام كله، قد ازدادت في ظل احتكار تمويل رأس المال عن طريق المراجحة العالمية للعمالة. ودفع الديون، ما أدّى إلى زيادة الاستقطاب في النظام العالمي بين الدول الغنية والفقيرة.

في هذا المناخ الخطير والمدمّر للإمبريالية المتأخّرة، أصبحتاللاعقلانية تؤدي دورًا متزايدًا في عولمة الفكر. اتّخذ هذا في البداية شكلًا معتدلًا نسبيًّا لما بعد الحداثة التفكيكية وما بعد البنيوية، التي، في أعمال مفكرين مثل جان فرانسوا ليوتار وجاك دريدا، تخلصّت من جميع الروايات التاريخية الكبرى بينما تبنّت معاداة فلسفية للإنسانية تنبع أساسًا من هايدجر. في المقابل، فلسفات اليوم الجديدة من الجوهر - المرتبطة بما بعد الإنسانية، والمادية الحيوية الجديدة، ونظرية شبكة الممثلين، وعلم الوجود الموجه للكائنات - تشكّلاللاعقلانية الأعمق، ممثّلةً بشخصيّاتٍ يساريّةٍ مفترضةٍ مثل جيل دولوز، وفيليكس جواتاري، وبرونو لاتور، وجين بينيت، وتيموثي مورتون. يعتمد هؤلاء المفكّرون مباشرة على سلالةٍ فكريّةٍ لاعقلانيّة مناهضةٍ للحداثة تعود إلى معاداة الحداثة الرجعيّة لنيتشه وبرغسون وهايدجر. اتّخذ الفيلسوف الهيجلي اللاكاني سلافوي جيجيك جانبًا في نهاية المطاف مع التقليد المناهض للإنسانيّة النابع من اليسار الهايدجري، ما أوجد في عمله كرنفالًا مناللاعقلانية. كل هذه الميول المختلفة مقترنة بالشك والعدمية والنظرة المتشائمة لنهاية العالم.

في كتاب عن "النظام اللاعقلاني" في الفصل الأخير من رأس المال الاحتكاري (1966)، استكشف بول أ. باران وبول إم. عناصره التدميرية الأساسية للحياة الاجتماعية. ومن ثَمَّ أشاروا إلى "الصراع المتزايد باستمرارٍ بين الترشيد السريع التقدم لعمليات الإنتاج الفعلية والعنصرية غير المنقوصة [لاعقلانية] للنظام كله". كتب باران في رسالةٍ إلى سويزي أن "جوهر" البصيرة الماركسية "هو أن القوة الدافعة للثورة الطبقية كانت دائمًا" هوية المصالح المادية والاحتياجاتية لفئة" لذلك كان هدفاللاعقلانية في الثقافة البرجوازية هو فصل أي طبقةٍ ثوريةٍ محتملةٍ عن مجال النقد العقلاني، مع استبدال الغريزة والأسطورة والقيء المستمر للعقل، كما في كتاب فيودور دوستويفسكي تحت الأرض (في ملاحظات من تحت الأرض). كل هذا ارتبط ماديًّا وأيديولوجيا بالإمبرياليّة والهمجيّة والفاشيّة.

في مفهوم باران، اتّخذت التحليلات التي اتبعت العقل المنفصل عن الارتباط بالواقع المادي والطبقة شكلًا "فكريًّا" بحتًا. وتبع ذلك أن الدفاع عن العقل - ليس بمعنى فكري بحت، ولكن مرتبطٌ بالقوى الماديّة الحقيقيّة أدناه - كان جزءًا لا غنى عنه من النضال الاشتراكي. وهو الشكل الأكثر أهمية من أي وقتٍ مضى في العصر اللاالعقلاني للرأسمالية الاحتكارية والإمبريالية. ومن ثَمَّ، فإنّ فضح جدليةاللاعقلانية والإمبريالية السارية في عصرنا - حقبة لم يعد فيها تطور القوى المنتجة يعمل على إخفاء التدمير للنظام الرأسمالي العالمي الذي يهدد البشرية جمعاء - يجب أن يكون هدفًا أساسيًّا.

غير معقول في التاريخ:

كانت اللاعقلانية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تيّارًا معروفًا للفلسفة الأوروبيّة، مستوحاة من التركيز على الإرادة في الحياة / الرغبة في القوة، والغرائز، والحدس، والأساطير، ومبادئ الحياة الحيوية، وكذلك تشاؤم اجتماعي عميق - في مقابل تركيز التنوير السابق على المادية والعقل والعلم والتقدم. لقد اتخذت شكل حركة شديدة الرجعية كانت مناهضة للإنسانية، معادية للديمقراطية، معادية للعلم، معادية للمجتمع، ومعادية للدين، وكذلك في كثير من الأحيان عنصرية وكارهة للنساء. ومن بين الشخصيات البارزة في التحول اللاعقلاني في الفترة 1848-1932، شوبنهاور، وإدوارد فون هارتمان، ونيتشه، وسوريل، وسبنجلر، وبرغسون، وهايدجر، وشميت.

كانت هذهاللاعقلانية الفلسفية هي التعميم الفكري للتأثيرات التاريخية الأكبر التي تحدث داخل المجتمع المهيمن. ومن ثم، فإن الروابط السببية المباشرة مع الحركات الرجعيّة غالبًا ما تكون مفقودة. ومع ذلك، فإنّ الصلة الواسعة بين هذه الميول الفكرية والظهور النهائي للفاشية، وخاصّةً النازية، في أوروبا، لا يمكن إنكارها. أعرب سوريل عن إعجابه ببينيتو موسوليني. وكان هيدجر وشميت مفكرين وموظفين نازيين. لا أحد سوى هتلر استحوذ على روح غير المعقول التي كانت موجودة في الوقت الذي أعلن فيه: "إننا نقف في نهاية عصر العقل. ... عصر جديد من التفسير السحري للعالم آخذ في الظهور، وهو تفسير يعتمد على الإرادة وليس المعرفة. لا توجد حقيقة سواء بالمعنى الأخلاقي أو العلمي ".

من خلال مقاربة مشكلةاللاعقلانية من منظورٍ ماركسي، أرجع لوكاش في كتابه " تدمير العقل" جذوره التاريخية إلى هزيمة الثورات البرجوازية عام 1848، التي أعقبها ظهور المرحلة الإمبريالية للرأسمالية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر؛ ما أدى إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية. وجادل بأن "العقل نفسه لا يمكن أن يكون شيئًا محايدًا سياسيًّا، معلّقًا فوق التطورات الاجتماعية. إنه يعكس دائمًا العقلانيّة الملموسة - أواللاعقلانية - لوضعٍ اجتماعيٍّ واتجاهٍ متطوّر، ويلخصه من الناحية المفاهيمية، ومن ثَمَّ يعززه أو يمنعه". إن النقد الجوهري، القائم على التدقيق في الظروف التاريخية المتغيرة، هو الذي يشّكلُ جوهر الأسلوب الديالكتيكي الماركسي في تحليل تطور الفكر.

بالنسبة للوكاش، كان شوبنهاور هو منشئ "النسخة البرجوازية البحتة من اللاعقلانية". أعظم ما لديه، (العالم كإرادة وفكرة) نُشر عام 1819، وكان موجّهًا ضد الفلسفة الهيغلية. حاول شوبنهاور عبر مثاليته الذاتية للإرادة إلى معارضة الموضوعية المثالية للعقل لهيغل. وبذلك، ذهب إلى حد جدولة محاضراته في برلين في عشرينات القرن التاسع عشر مقابل محاضرات هيجل، ولكن دون جدوى؛ لأنّه لم يكن قادرًا على جذب الجمهور. فقط مع هزيمة ثورات 1848 في ألمانيا تحول المناخ العام في اتجاهه. في تلك المرحلة، حولت البرجوازية الألمانية ولاءها من هيغل ولودفيج فيورباخ إلى شوبنهاور، الذي حقّق في العقد الأخير من حياته إشادةً واسعةَ النطاق.

كانت عبقرية شوبنهاور، وفقًا للوكاش، رائدةً في طريقة "الدفاع غير المباشر"، التي أتقنها نيتشه لاحقًا. سعت اعتذارات سابقة للنظام البرجوازي إلى الدفاع عنها مباشرة، على الرغم من تناقضاتها المتعددة. في طريقة شوبنهاور الجديدة للدفاع غير المباشر، يمكن الكشف عن الجانب السيئ للرأسمالية (وحتى تناقضاتها). لم يُنسب هذا أبدًا إلى النظام الرأسمالي، بل إلى الأنانية، والغرائز، والإرادة، وإدراك الوجود البشري بمصطلحات تشاؤمية عميقة على أنه رذيلةٍ عمليّةٍ للانحلال الذاتي. ومفهوم شوبنهاور عن الإرادة، أو إرادة الحياة، الذي نسبه إلى الوجود كله، اتخذ شكل الأنانية الكونية. كتب لوكاش، عن طريق اختزال كل شيءٍ في النهاية إلى الإرادة النقية، فإن فلسفة شوبنهاور "تجسد الطبيعة بأكملها". إرادة شوبنهاور احتضنت أشياء إيمانويل كانط في ذاتها (نومينا - مصطلح فلسفي ويقصد به ويرادفه في الاستخدام الفلسفي الشيء في ذاته)، أبعد من الإدراك البشري. أعلن شوبنهاور، "الإرادة أن أتعرف على القوى الغامضة التي تظهر في جميع الأجسام الطبيعية على أنها متطابقة مع تلك التي في داخلي الإرادة، وتختلف عنها في الدرجة فقط".

ربّما تمَّ الكشف عن فكرة شوبنهاور عن الإرادة بأفضل من خلال ردّه على تصريح باروخ سبينوزا الشهير بأنّ الحجر المتساقط، إذا كان واعيًا، سيعتقد أن لديه إرادةً حرّةً وأن زخمه كان نتاجًا لإرادته - حجة مصممة لدحض مفهوم الإرادة الحرة. قلب شوبنهاور معنى سبينوزا وأعلن: "سيكون الحجر على حق. المسار هو نفسه بالنسبة للحجر مثل الدافع بالنسبة لي، وما يتجلى في حالة الحجر مثل التماسك والجاذبية والمثابرة في الحالة المفترضة، في الجوهر الباطني، هو نفسه الذي أدركه في نفسي على أنه الإرادة". بالنسبة لشوبنهاور، أنكرت "المادية البدائية" ببساطة جوهر تلك "القوى الحيوية" التي كانت متطابقة مع إرادة الحياة، التي لا يوجد بعدها "شيء".

كانت أواخر القرن التاسع عشر فترة مرتبطةً جزئيًّا بنمو الكانطية الجديدة في الفلسفة، بدءًا من كتاب فريدريش لانج تاريخ المادية ونقد أهميتها الحالية (1866)، الذي سعى إلى الإطاحة بجميع الميول المادية - ولا سيّما، مادية كارل ماركس التاريخية. ولكن الأكثر تأثيرًا وتوجّهًا إلى العصر الإمبريالي الجديد كانتاللاعقلانية نزعةً فلسفيّةً عامة. أتباع شوبنهاور الرائد (خارج نيتشه، الذي كان له تأثير كبير)، والشخصية المهيمنة فياللاعقلانية الفلسفية في أواخر القرن التاسع عشر، كان هارتمان، بمجلده الضخم، فلسفة اللاوعي (1869). كان هارتمان مفكّرًا انتقائيًّا أكثر من شوبنهاور، فقد أعلن أنه يجمع بين تفاؤل هيجل وتشاؤم شوبنهاور. لكن التشاؤم العميق واللا العقلانيّة في عمل هارتمان هو الذي أثار إعجاب معظم القراء في ذلك الوقت، ولا سيما من خلال مفهومه عن الانتحار الكوني.

من وجهة نظر هارتمان، كان هذا أفضل ما في العوالم الممكنة، لكن عدم الوجود كان أفضل من الوجود. ومن ثم، فقد اعتقد أنه في مرحلةٍ ما ستصبح الإرادة، أو "الروح غير الواعية" ملفوفةً جدًّا في الجنس البشري "في ذروة تطوّرها" بحيث تؤدي إلى انتحارٍ كوني، ما يؤدّي إلى "نهايةٍ زمنيّة" عمليّة العالم بأكمله، ما أدّى إلى "اليوم الأخير". عند هذه النقطة، فإنّ " النفي البشري للإرادة " من شأنه " القضاء على الإرادة الفعلية الكاملة للعالم دون بقايا، ويتسبّب في اختفاء الكون بأكمله بضربةٍ واحدةٍ عن طريق سحب الإرادة، التي تمنحها وحدها الوجود". لن تأخذ نهاية الإنسانية شكل "نهاية العالم" التقليدية، قادمة من الخارج، ولكنّها ستنشأ من انتحار الإرادة، الذي يمتدُّ إلى الكون كلّيًّا.

توفي نيتشه عام 1900. كان التاريخ مهمًّا، حيث يرى لوكاش أن نيتشه كان "مؤسساللاعقلانية في الفترة الإمبريالية"، التي كانت في ذلك الوقت فقط في بدايتها. بدأت المرحلة الإمبريالية أو الاحتكارية للرأسمالية في النظرية الماركسية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ولكن فيما يتعلق بحياة نيتشه وعمله، لم تظهر في هذا الصدد سوى "البراعم والبراعم الأولى لما سيأتي" في هذا الصدد. كانت عبقرية نيتشه غريزية هي التقاط الإحساس بما سيأتي وتطوير طريقةاللاعقلانية لعصر الإمبراطورية الجديد باعتباره "شكلًا أسطوريًّا" للتحليل، وأصبح أكثر غموضًا من خلال الاستخدام المتكرر للأقوال المأثورة. هذا هو ما يفسر الطبيعة الفاتنة لأسلوب نيتشه الأدبي، الذي كان في الوقت نفسه وسيلةً لإتقان الدفاعيات غير المباشرة. ويتم تقديم كل شيء لدى نيتشه بشكلٍ ضبابيٍّ، في حين نجد الاتجاه السياسي والاجتماعي الكامل لفلسفته ليس موضع شك، فإنه يؤدي أيضًا إلى مناقشاتٍ لا نهاية لها، ناشئة عن طابعها الأسطوري، ودعوة المقلدين، وتأسيس الشكل المهيمن، ما زالتاللاعقلانية مستمرة فيه حتى يومنا هذا.

في تلخيص الشخصية الرئيسية لفلسفة نيتشه، كتب لوكاش:

"فكلما كان المفهوم خياليًّا وكلما كانت أصوله ذاتية بحتة؛ كان أعلى و"أصح" في المقياس الأسطوري للقيم. إنّ الوجود، طالما أن مفهومه يحتوي حتى على أدنى آثار للعلاقة بواقعٍ مستقلٍّ عن وعينا، يجب أن يحلّ محلّه الصيرورة (تساوي الفكرة). ومع ذلك، فإن التحرر من هذه القيود والنظر إليه على أنه خيال بحت، نتاجًا لإرادة القوة، قد يكون، بالنسبة لنيتشه، فئة أعلى من الصيرورة، تعبيرًا عن الموضوعية الزائفة البديهية للأسطورة.. مع نيتشه، تكمن الوظيفة الخاصة لمثل هذا التعريف للصيرورة والوجود في دعم التاريخية الزائفة الحيوية لدفاعاته غير المباشرة وفي نفس الوقت رفضها ".

ومع ذلك، فبالنسبة لكل تألق - وحتى جاذبية - فلسفة نيتشه، لا يمكن إنكار طابعها النظامي الرجعي واللامعقولي. في نهاية كتابه العالم كإرادة وفكرة The World as Will and Idea، أعلن شوبنهاور أن إرادة الحياة هي كل شيء، ولا يوجد شيء بعدها. نيتشه، في مسرحية عن شوبنهاور، قال بشكل مشهور: " هذا العالم هو إرادة القوة - ولا شيء غير ذلك! وأنت نفسك هذه الإرادة للسلطة - ولا شيء غير ذلك! "

فيما وراء الخير والشر (1886)، كتب نيتشه، في معارضته للماركسية: "الحياة نفسها هي في الأساس استيلاء وإصابة وتغلب على ما هو أجنبي وأضعف، القمع، والصلابة، وفرض أشكال المرء الخاصة، والاندماج، وعلى الأقل، في أبسط صوره، الاستغلال. ... إذا كان جسدًا حيًّا وليس محتضرًا ... يجب أن يكون إرادةً متجسّدةً للسلطة، فسوف يسعى جاهدًا للنمو، الانتشار، الاستيلاء، وليصبح سائدًا - ليس من أي أخلاقٍ أو فجور، لكن لأنّه حيٌّ ولأنّ الحياة ببساطة إرادة السلطة. ولكن لا توجد نقطة يقاوم فيها الوعي العادي للأوروبيين التعليمات على هذا النحو: في كلّ مكانٍ يهتم الناس الآن، حتّى في ظلّ التنكر العلمي، بالظروف القادمة للمجتمع التي سيتم فيها إزالة "الجانب الاستغلالي" - الذي يبدو لي أنه إذا وعدوا بابتكار أسلوب حياة يستغني عن جميع الوظائف العضوية. لا ينتمي "الاستغلال" إلى مجتمعٍ فاسدٍ أو غير كاملٍ وبدائي: إنّه ينتمي إلى جوهرٍ ما يعيش وظيفةً عضويّةً أساسيّة، إنّها نتيجة إرادة السلطة، التي هي إرادة الحياة في النهاية".

هنا يخلط نيتشه التخصيص - الذي في النظرية السياسية الكلاسيكية وفي عمل مفكرين متنوعين مثل جون لوك وهيجل وماركس يعني عملية اكتساب الملكية (التي، بالنسبة لماركس، تنطوي في النهاية على الإنتاج) - مع الاستغلال الفعلي. علاوةً على ذلك، في استخدام نيتشه، لم يكن الاستغلال مختلفًا عن المصادرة (أي الاستيلاء دون معادل أو المعاملة بالمثل). وهكذا، في خفة اليد، يصبح الاستيلاء، الذي هو أساس الحياة، معادلًا للاستغلال / المصادرة، وهو أمرٌ غير ضروريٍّ للوجود، ومن ثَمَّ يتم إيقاف أي فكرةٍ عن مستقبلٍ متساوٍ أو إنساني. علاوةً على ذلك، أسس نيتشه وجهة نظره هنا في نهاية المطاف في الحتمية البيولوجية، التي، كما يخبرنا، تشكل "جوهر" "إرادة القوة". وبهذه الطريقة، تختلف ماهيته فيما يتعلق بالطبيعة البشرية عن جوهرية توماس هوبز فقط بقدر ما كان الأخير، في السياق التاريخي للقرن السابع عشر، مفكّرًا تقدميًّا وليس رجعيًّا.

تعرّضت كتابات نيتشه هجمات لا نهاية لها على الاشتراكية وحتى الديمقراطية. كتب أن "الاشتراكية كانت النتيجة المنطقية لاستبداد الأقل وأغبى". وبتطوير عن الداروينية، التي خصصها في شكلٍ مجرّدٍ كليشيه على غرار الداروينية الاجتماعية، جادل بأنه بدلًا من بقاء الأصلح، فقد تميز المجتمع الأوروبي ببقاءٍ غير لائق. في هذا الرأي، كانت الجماهير المتوسطة أو "حيوانات القطيع" تسيطر على المجتمع بقوة الأرقام من العناصر الأكثر "نبلًا"، لذا كانت الأرواح النبيلة هي التي تحتاج إلى الحماية بالقوة.

المجتمع الحديث، بالنسبة لنيتشه، يتدخل في التسلسل الهرمي الطبيعي للأجناس، ويشكل "عصرًا" يمزج الأجناس بشكلٍ عشوائيّ". دعا هذا إلى إعادة تأكيد "العرق الرئيسي"، الذي صوّره بعبارات "الآرية"، باعتباره مرتبطًا بـ "الوحش الجرماني الأشقر" ليكون موجودًا "في مركز كلّ عرقٍ نبيل". في المقابل، "المتحدرون من جميع العبوديّة الأوروبيّة وغير الأوروبيّة، ولا سيّما جميع السكان قبل الآريين - يمثلون انحطاط الجنس البشري."

متفاخرًا بهزيمة كومونة باريس، أشار نيتشه إليها على أنها "أكثر أشكال البنية الاجتماعية بدائية"؛ لأنّها تمثل مصالح القطيع. لقد كان قلقًا بشأن المصير المأساوي الذي ينتظر "السباق الرئيسي المنتصر، سباق الآريين" في العصر الديمقراطي والاشتراكي. وُصِفَت هذه "الإنسانية الآرية" الغزيرة بأنّها في الأصل شقراء و"نقيّة تمامًا وبدائيّة"، على عكس "السكان الأصليين ذوي البشرة الداكنة ذوي الشعر الداكن" في أوروبا وأماكن أخرى. في "إرادة القوة"، أعلن صراحة: "الغالبية العظمى من الرجال ليس لهم الحقّ في الحياة، ويخدمون فقط لإرباك المختارين من جنسنا. أنا لا أمنح غير المناسب حتى الآن هذا الحق. بل هناك شعوبٌ غير صالحة "- تفتقر إلى الحقّ في الوجود.

في مفهوم نيتشه عن "التكرار الأبدي"، ستختبر الأرواح "النبيلة" والعرق الرئيسي مرّةً أخرى انتصار الإرادة في التقلبات الدورية للتاريخ. ومع ذلك، فإنّ التكرار الأبدي يعني عدم وجود تقدّمٍ شامل، لذا كانت النتيجة التراكميّة "لا شيء (" اللامعنى ") إلى الأبد!" على الرغم من أن نيتشه كان يرغب في أن يحلّ محلّ العدميّة من خلال أوفرمان- سوبرمان تجسيدًا لإرادة القوة، إلا أن العدمية هي أن كل شيء عاد دائمًا إلى الأبد، حيث كان التقدم الحقيقي للأمام ممنوعًا.

كانت Vitalism [لمذهب الحيوي هو الاعتقاد بأن "الكائنات الحية تختلف اختلافًا جوهريًّا عن الكيانات غير الحيّة؛ لأنّها تحتوي على بعض العناصر غير المادية أو تكون محكومةً بمبادئ مختلفة عن الأشياء الجامدة"] أو Lebensphilosophie [كانت Lebensphilosophie حركة فلسفيّة مسيطرة للبلدان الناطقة بالألمانيّة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، التي تطوّرت من الرومانسيّة الألمانية. أكد Lebensphilosophie على معنى الحياة وقيمتها وهدفها باعتبارها المحور الأول للفلسفة.] حسب مفهوم لوكاش، الفلسفة المهيمنة في كل الفترة الإمبريالية في ألمانيا. ومع ذلك، كان للحيوية ممثلها الأول في هذه الفترة في عمل برجسون في فرنسا. استندت فلسفة برغسون على شكلين من أشكال الوعي: العقل والحدس. يرتبط العقل بالعالم الميكانيكي للعلم الطبيعي، والحدس بالميتافيزيقا، ومن ثَمَّ عالم الفلسفة. كان يعتقد أنه من خلال النظر إلى الداخل إلى العالم الحدسي، كان من الممكن حل مشاكل، مثل طبيعة الزمن والتطور بطرق تكمل - ولكنها تجاوزت - العلم والعقل. وهكذا، فقد تحدى، على حد تعبير لوكاش "الطابع العلمي للمعرفة العلمية العادية"، مما خلق "مواجهةً شديدةً للعقلانية والحدس غير العقلاني".

كان أهم مفهومين لدى برغسون هما مفهوم الوقت مدّةً ذاتية، والدافع الحيوي أو الدافع الحيوي. على أساسهما، اقترح نوعًا من الطريقة الثالثة في الفلسفة الموجودة خارج المادية الميكانيكية والمثالية / الغائية. قال:" الوقت هو اختراع أو لا شيء على الإطلاق "في اللحظة التي نواجه فيها "المدة، نرى أنها تعني الخلق". أعطتنا حياتنا أدلة لإلغاء قفل سر الوقت، أو القدرة على التحمل؛ لأن المدة لم تكن سمة "للمادة نفسها، بل سمة الحياة التي تعيد تأكيد مجرى المادة". والحيوية كانت الدافع الإبداعي للحياة، تضيء المادة، وهو ما يفسر التطور. على هذه الأسس الغامضة بشكلٍ أساسي، واصل بيرجسون تحدي نظرية تشارلز داروين للتطور كاختيار طبيعي ومفهوم ألبرت أينشتاين للزمكان لفشله في التقاط الأسس الذاتية والبديهية والإبداعية للوجود.

وُلِد بيرجسون عام 1859، وعام نشر كتاب داروين أصل الأنواع، لكنه لم يستطع أبدًا قبول نظرية داروين في الانتقاء الطبيعي، بحجة أن العلوم الطبيعية لم تكن كافية في هذا المجال، وأنه يجب أن يكون هناك دافع حيوي وخلاق، درع كوني حيوي يقوم عليه كل التطور. باستخدام الحجج التي يستخدمها الآن دعاة التصميم الذكي - على سبيل المثال، أن تطور العين لا يمكن تفسيره عن طريق الانتقاء الطبيعي - أرجع "التطور الإبداعي" إلى قوة حيوية مستقلة عن المادة والتنظيم.

تسببت هجمات برجسون على النظرية الداروينية في الانتقاء الطبيعي، وعلى العقل بشكل عام، في قيام إي راي لانكستر، ربيب داروين وتوماس هكسلي، وهو صديق مقرب لماركس، وعالم الأحياء البريطاني الرائد في عصره، بالتمرد على عرض بيرجسون. من "الحدس كدليل حقيقي والعقل كمرشد خاطئ." في تقييم مساهمة بيرجسون، كتب لانكستر، وهو مادي صارم: "إلى تلميذ الانحرافات والوحشية في عقل الإنسان، ستظل أعمال إم [أنسيور] بيرجسون دائمًا وثائق ذات قيمة"، على غرار الاهتمام بأن "الجامع" قد يأخذ نوعًا غريبًا من الخنفساء ". فيما بعد تجاوز علماء الأحياء الاشتراكيون الجدل بين الميكانيكيين والحيويين عبر الديالكتيك المادي، فيما يشكل مساهمة كبيرة في العلم.

كان بيرغسون غاضبًا من نظرية النسبية لأينشتاين، التي فسرت الزمن (أو الزمكان) من منظور الفيزياء، وتلقى الاعتراف العام تدريجيًّا. في مواجهة شهيرة في أبريل 1922، جادل بيرجسون في معارضة لأينشتاين أن الفكرة المادية للوقت التي أعلنها العقل كانت غير كافية، وأنه لا يمكن فهم الوقت بشكل كامل إلا عندما يتم الاقتراب منه بشكلٍ شخصيٍّ وبديهي من حيث المدة. أجاب أينشتاين، "إن زمن الفلاسفة [الذي يخلط بين الوقت النفسي والوقت المادي] غير موجود، ويبقى فقط وقت نفسي يختلف عن زمن الفيزيائيين". بالنسبة لأينشتاين، لم يكن لفكرة برجسون الحيوية ولا مدته أي معنى من حيث العلوم الفيزيائية.

من وجهة نظر لوكاش، لم يكن هناك شيء اسمه "فلسفة" بريئة ". كان هذا هو الحال بوضوح فيما يتعلق بهيدجر، على الرغم من جانبه المخلخل. في تحفة الكينونة والزمن التي كتبها هايدجر عام 1927، تم التقليل من أهمية مراعاة الكائنات الفردية في البحث عن "الأنطولوجيا الأساسية" للكائن الميتافيزيقي، اقترح أنه يمكن الاقتراب من الوجود على أساس التحليل الوجودي الذي يركز على الكيان، أو الوجود البشري، والذي، كما أوضح لاحقًا، يمكن اعتباره مسكنًا في أداء دور "راعي الوجود". ومن ثم، على الرغم من أن الوجود، بالنسبة لهايدجر، لا يمكن فهمه بشكل مباشر، إلا أنه يمكن الكشف عنه جزئيًّا ظاهريًّا ووجوديًّا من خلال تمحيص الوجود في سياق "صيرورته" مع العالم. جميع الفلسفات السابقة، من أفلاطون إلى العصر الحديث، اعتبرها هايدجر سطحية وميتافيزيقية ضيقة بقدر ما لم تركز على المشكلة الوجودية الأساسية للوجود. كانت إحدى نتائج فلسفة هايدجر هي نزع مركز الأنا الواعية (المتعالية)، وتحويل الفلسفة من مسائل علاقات الذات - الشيء الموضوعية إلى الأصالة وغير الأصالة الذاتية.

بالنظر إلى أن السعي وراء الوجود على هذا النحو هو الدافع الرئيسي لتحليل هايدجر الوجودي، فقد يعتقد المرء أنه لن يكون له علاقةٌ كبيرةٌ بالسياسة والأخلاق. ومع ذلك، فإن العناصر الرجعية وغير المنطقية والحيوية في فلسفة هايدجر، وإن لم تكن موجودة على السطح، فقد تسربت بطرقٍ مختلفة، وأظهرت الطبيعة الحقيقية لمنطقه غير العقلاني. لم يحدث هذا فقط في الفترة النازية الرسمية، ولكن أيضًا في أعماله اللاحقة بعد الحرب، ويمكن القول إنّه كان ضمنيًّا في موقفه الفلسفي بالكامل منذ البداية. وهكذا، في محاضراته المنشورة حول الكينونة والحقيقة، التي قدمت في جامعة فرايبورغ في شتاء 1933-1934، بعد وقتٍ قصيرٍ من انضمامه إلى الحزب النازي وبعد سنواتٍ قليلةٍ فقط من نشر كتاب " الوجود والزمان" أعلن هايدجر: "العدو هو كل شخصٍ يشكّل تهديدًا أساسيًّا للدازاين [وجود] الشعب وأفراده. يجب ألا يكون العدو خارجيًّا، والعدو الخارجي ليس دائمًا أخطر عدو. وقد يبدو الأمر كما لو لم يكن هناك عدو. إذن فإن المطلب الأساسي هو العثور على العدو، وتعريضه للضوء، أو حتى تكوين العدوّ أوّلًا، حتّى تحدّث عمليّة الوقوف ضد العدو، وحتى لا يفقد الدازاين ميزته. ... [التحدي هو] جلب العدو إلى العراء، وعدم إشاعة الأوهام حول العدو، والحفاظ على استعداده للهجوم، وتنمية الاستعداد المستمر وتكثيفه، والاستعداد للهجوم الذي يتطلع إلى الأمام بعيدًا؛ بهدف الإبادة الكاملة ".

أصبحت أدوار هايدجر بصفته موظّفًا في الحزب النازي ومنظرًا، وخلال سنوات عمله رئيس جامعة فرايبورغ، أبرز الداعمين الأكاديميين لهتلر معروفة الآن. ساعد في تأسيس( Gleichschaltung[قلايش شالتونج باللفظ الألماني:، أو التنسيق باللغة العربية، في المصطلح النازي هي عمليةٌ نازيةٌ أنشأ بها أدولف هتلر والحزب النازي على التوالي نظامًا للسيطرة والتنسيق الشموليين على جميع جوانب المجتمع الألماني والمجتمعات التي تحتلها ألمانيا النازية «من جوانب اقتصادية وجمعيات تجارية إلى وسائل الإعلام والثقافة والتعليم"] أو المواءمة داخل الأكاديمية الألمانية، وأدّى دورًا رائدًا في تطهير الجامعة من الزملاء والطلاب الذين فشلوا في الامتثال لإملاءات النظام النازي. كما عمل عن كثب مع المُنظِّر القانوني شميت، المؤلف الرئيسي لمبدأ الفوهرر سيئ السمعة، الذي يروج للأيديولوجية النازية، ويترأّس عمليات حرق الكتب الرمزية. لم تقدّم مقدّمة كتابه إلى الميتافيزيقيا عام 1935 تكريمًا للنازية فحسب، بل قدّمت أيضًا حجة لانتصار "الشعب التاريخي-الفولكية] ... ومن ثَمَّ تاريخ الغرب" تفعيل" طاقات روحية جديدة". و في محادثةٍ مع كارل لويث في هايدلبرغ عام 1936، وافق هايدجر "دون تحفظ" على الاقتراح القائل بأن "حزبه للاشتراكيّة القوميّة يكمن في جوهر فلسفته".

كثيرًا ما أشاد هايدجر بموسوليني وهتلر، وقدم نيتشه على أنه رائد لكل القادة الفاشيين. في كتاب هايدجر عن فريدريش شيلينج، تم حذف جملة طويلة من المحاضرة الأصلية في طبعة عام 1971 ولكن أعيد إدخالها لاحقًا بناءً على طلب هايدجر. جاء في البيان: "كما هو معروف، قام كلا الرجلين في أوروبا اللذان قاما، بالتشكيل السياسي القومي لسيارات فولكس، بتدشين حركة مضادة [Gegenbewegungen] (الطباق- نظرية موسيقية في الأساس) للعدمية وبالتحديد موسوليني وهتلر، تم تحديد كل منهما على طريقته الخاصة، بشكلٍ أساسيٍّ من قبل نيتشه، لا يزال هذا هو الحال دون أن يصبح المجال الميتافيزيقي الأصيل لنيتشه ملكًا له ". أوضح هايدجر أن نيتشه قد أظهر في محاضراته أن "الديمقراطية" أدّت إلى "شكلٍ منحطٍّ من العدميّة" ومن ثَمَّ طالب بحركة فولك أكثر أصالة. في دورةٍ عن المنطق عام 1934، أعلن هايدجر أن "الزنوج هم بشر لكن ليس لديهم تاريخ ... الطبيعة ليس لها تاريخ ... عندما تدور مروحة الطائرة، لا يحدث شيء". بالمقابل، عندما تأخذ نفس الطائرة هتلر إلى موسوليني، يحدث التاريخ ". أوضح أن "الثقافة الزائفة" للحضارة الغربية لن يحل محلها إلا "العالم الروحي" لفولك على أساس "أعمق حفظ لقوى التربة والدم".

في دفاتره السوداء سيئة السمعة (مذكرات فلسفيّة طلب هايدجر إدراجها في نهاية أعماله المجمعة)، قدّم أدلّةً متكرّرةً على معاداة السامية العميقة. وهكذا، أرجع أخطاء الحداثة والعقلانية الغربية إلى "اليهودية العالمية"، وهو مصطلح استخدم في كتاب هتلر كفاحي للإشارة إلى مؤامرة يهودية للسيطرة على العالم. كتب هايدجر في " بلاك نوتبوكس " أن "اليهودية العالمية لا يمكن فهمها في كل مكان [بسبب هيمنتها على الفكر العقلاني] ولا تحتاج إلى الانخراط في العمل العسكري مع الاستمرار في نشر نفوذها، بينما نحن [ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية] تُركنا للتضحية بأحسن دماء لأفضل أبناء شعبنا ". بعد نشر Black Notebooks، كما أشار الباحث في فكر هايددر Tom Rockmore، "يبدو واضحًا بشكلٍ متزايدٍ أن فلسفة هايدجر، وتحوله إلى الاشتراكية الوطنية، ومعاداة السامية ليست منفصلة أو معزولة بل مرتبطةٌ بشكلٍ لا ينفصل".

من الواضح أن هايدجر لم يبتعد أبدًا عن آرائه الرجعية المتطرفة، أو حتى أنه قصد أن ينأى بنفسه عنها، التي عززت مجهوده الفلسفي بأكمله. في كتابه الشهير " رسالة حول الإنسانية " '، الذي نُشر عام 1947، قدم هجومًا منهجيًّا على النزعة الإنسانية، مستهينًا بمفكري التنوير الألمان مثل يوهان فولفغانغ فون غوته وفريدريك شيلر. على عكس ما بعد الإنسانية اليوم، كان هايدجر مهتمًّا بشكلٍ أساسيٍّ بإنكار فكرة أن البشر كائنات مادية أو جسدية في الأساس، لها" منطق حيواني ". بالنسبة إلى هايدجر، تكمن الحقيقة في التحليل الوجودي للكينونة، تصور الوجود الإنساني الحقيقي على أنه يقترب من الوجود. في لغته المحجبة المعتادة، بشر هايدجر "بمصير" لم يأتِ بعد، على أساس تاريخية "أكثر بدائية" - أقرب إلى الدازاين "من النزعة الإنسانية". كانت الإنسانية، التي حددها مع العقلانية، معارضة في جميع الأوقات، "لأنها لا تضع الإنسانية عاليًا بما يكفي" في تعزيز الوجود التجريبي للكائنات المادية الفردية، على عكس الأنطولوجيا الأساسية للوجود، التي فيها الأنا الواعية غير مركزة. أشار هايدجر إلى ذلك بسبب اللغة التي رآها في مركز الدازاين (الوجود)، كانت هناك علاقة وثيقة بين الثقافتين اليونانية والألمانية القديمة (على طول ما كان يُصوَّر عمومًا على أنه الخط الآري) جعلت ألمانيا فريدة من نوعها في تعزيز الأصالة التاريخية للغرب.

في رسالته حول الإنسانية، اعترف هايدجر بقوة نقد ماركس للاغتراب قبل الشروع في انتقاد المادية الساذجة وتقليص نظرية ماركس في الاغتراب إلى قضية التكنولوجيا. كما ذكر لوكاش، لم يكن هناك شك فيما قاله هايدجر هنا، أي أنه رأى "الماركسية باعتبارها الخصم الرئيسي".

عودة اللا العقلانية:

حدد لوكاش نمو اللا العقلانية بالمرحلة الإمبريالية للرأسمالية. تم تصور هذا في المقام الأول اقتصاديًّا، على غرار لينين وروزا لوكسمبورغ، نظامًا احتكاريًّا رأسماليًّا يتميز بمصطلحات التنافس الإمبريالي المؤقت والحرب في الصراع على المستعمرات ومناطق النفوذ. لكن لينين، قبل كل شيء، حسب لوكاش، هو من ترجم المفهوم الاقتصادي للإمبريالية إلى "نظرية الوضع العالمي الملموس الذي خلقته الإمبريالية"، مع التركيز على السياسة الطبقية والاصطفافات بين الأمم. علاوةً على ذلك، أدرك لينين أنّ اتفاقيّات السلام في المرحلة الإمبرياليّة " لم تكن حتمًا أكثر من" هدنة "في فترات ما بين الحروب، ضمن صراعٍ جيوسياسيٍّ أكبر متأصّلٍ في الرأسمالية الاحتكاريّة. وهكذا تغلغلت الجوانب السياسيّة للإمبرياليّة في ثقافة الأمم بأكملها، وولدت ما أطلق عليه ريموند ويليامز في سياقٍ آخر "هياكل المشاعر". كان هذا هو ما أدى إلى واجهة الإمبريالية واللا عقلانية في تاريخ أوروبا من 1870-1945.

يمكن اعتبار الإمبريالية المتأخرة، التي بدأت عام 1945، مقسّمةً حتى الآن إلى ثلاث فترات:

(1) الحرب الباردة الفورية من عام 1945 إلى عام 1991، حيث سعت الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة للاقتصاد العالمي الرأسمالي إلى الهيمنة على جنوبٍ عالميٍّ منخرطٍ في ثورات مناهضة للاستعمار، في حين كانت في الوقت نفسه تخوض صراعًا عالميًّا ضد الاتحاد السوفيتي والصين.

(2) الفترة من 1991 إلى 2008، التي حاولت فيها واشنطن ترسيخ عالمٍ دائمٍ أحادي القطب في الفراغ الذي خلفه إخراج الاتحاد السوفيتي من المسرح العالمي، وانفتاح الصين على الاقتصاد العالمي.

(3) من عام 2008 (الأزمة المالية الكبرى) إلى الوقت الحاضر، التي تميّزت بعودة ظهور الصين وروسيا قوتين عظميين وتصنيف واشنطن رسميًّا لهذين البلدين عدوّين رئيسيين لها، ما أدى إلى حربٍ باردةٍ جديدة، تميزت بالصراع بين العالم أحادي القطب المتمركز حول الولايات المتحدة ونظام عالمي متعدد الأقطاب ناشئ.

خلال كل هذا الوقت، احتل اليسار الغربي موقعًا ضعيفًا داخل الرأسمالية الاحتكارية في الداخل بينما كان لديه مقاربة غامضة للإمبريالية في الخارج، مع الانغماس المرتبط بالصراع الطبقي. كما عانى من هزيمة كبرى في عام 1968. مع اندلاع الحرب الباردة الجديدة، ظهرت الحرب المختلطة للإمبريالية الجماعية للثالوث على الجنوب العالمي، بما في ذلك الاقتصادات الناشئة الرئيسية، إلى النور بالكامل.

في ظل هذه الظروف، أصبحتاللاعقلانية البرجوازية تحدد المناخ الفكري السائد للإمبريالية المتأخرة، ما يعكس التدمير المستمر للعقل. من المعترف به اليوم على نطاقٍ واسعٍ أنّ الفكر الرجعي الألماني، المرتبط بـ "علاقة نيتشه - هايدجر - كارل شميت"، جنبًا إلى جنبٍ مع إحياء المذهب البرجسوني، موجود في أعمال ما بعد الماركسيين وما بعد الحداثيين وما بعد الإنسانيّة من دريدا إلى دولوز إلى لاتور.. على حدِّ تعبير كيتي تشوكروف، يمكن رؤية "الانبهار بالسلبية والعدمية"، وهي سمةٌ من سمات الفلسفاتاللاعقلانية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، في أعمال دولوز "وغواتاري أو ديستوبيا التسارع وما بعد الإنسانية. نظريات الحاضر".

في نيتشه والفلسفة لدولوز، قيل لنا إنّ الطابع "المعادي للديالكتيك بحزم" لفكر نيتشه، ومفاهيمه عن "إرادة السلطة"، و"العودة الأبديّة"، وحلم أوفرمان- سوبرمان، مثّلت انتصارًا على ديالكتيك هيجل، الذي يؤدّي إلى "الهُويّة الخلّاقة للقوّة والإرادة" استكمالًا لإرادة السلطة.

هناك "رابط سري" يربط بين مختلف المفكرين المعارضين لفلسفة الدولة. هذا الرابط السري، كما يخبرنا دولوز، يشمل سبينوزا (أعيد تفسيره على أنه رجل حيوي)، نيتشه، وبرغسون، وجميعهم يُنظر إليهم على أنهم فلاسفة ذاتيين، ويمثّلون تقليدًا "بدويًّا" لا يعارض العقلانية الأوروبية بشكلٍ عام فحسب، بل الوقوف في مواجهة مباشرة مع هيجل وماركس. موقف بيرجسون في مناظرته مع أينشتاين دافع عنه دولوز في كتابه البرجسوني عام 1966 في محاولةٍ لتمييز الفكرة الذاتية والحدسية للوقت المنفصلة عن الفيزياء، وأيضًا عن الزمن التاريخي.

والانتكاساتاللاعقلانية والرجعية التي نراها ضمن ما لا يزال تحليلًا يساريًّا مفترضًا كثيرة. كما يلاحظ تشوكروف:" في الرأسمالية وانفصام الشخصية، يجد دولوز وغوتاري أن رأس المال وحشي، ولكن في الوقت نفسه أرضٌ مرغوبةٌ يمكن أن ينبع منها التخريب وإمكانيّاته التحرّريّة. [ومع ذلك،] قبول المعاصرة الرأسمالية الشريرة أمر لا مفرّ منه نظرًا لشرط استحالة حدوثها... يكمن جانب مهمّ جدًّا لمثل هذا الانحراف فيما يلي: لا يعمل التيار الرأسمالي الكامن وراء هذه النظريات التحرّرية والنقدية برنامجًا للخروج من الرأسمالية، بل تطرّفٌ لاستحالة هذا الخروج .

يمكن رؤية هذا الكشف عن استحالة الخروج في المواجهة الرئيسية بين دولوز وغوتاري مع ماركس. في بداية عملهم المؤثر عام 1972، Anti-Oedipus: Capitalism and Schizophrenia،(ضد أوديب: الرأسمالية والفصام) افترضوا علاقة "طبيعة صناعية" تؤدي إلى "مجالاتٍ مستقلةٍ نسبيًّا تسمى الإنتاج والتوزيع والاستهلاك". يزعمون أن هذه المجالات المنفصلة قد أوضحها ماركس على أنّها مجرّد نتاجٍ للتقسيم الرأسمالي للعمل والوعي الزائف الذي أنتجه. لكن من هناك، قفزوا إلى الاقتراح العابر للتاريخ:

"نحن لا نميّز بين الإنسان والطبيعة: يصبح الجوهر الإنساني للطبيعة والجوهر الطبيعي للإنسان [عبارة ماركس] واحدًا في الطبيعة في شكل إنتاج أو صناعة، تمامًا كما يحدث في حياة الإنسان نوعًا ... لم يعد يُنظر إلى الصناعة بعد ذلك من وجهة النظر الخارجية للمنفعة، بل من وجهة نظر هويتها الأساسية مع الطبيعة إنتاجًا للإنسان وبواسطة الإنسان... لا يشبه الإنسان والطبيعة مصطلحين متعارضين... بل هما نفس الواقع الأساسي، المنتج المنتج".

على هذا الأساس، يُنظر إلى الطبيعة والإنسانية على أنهما وحدةٌ مثاليّةٌ لا مفرّ منها - وهو ما أطلق عليه ماركس، المقتبس منه هنا، "الجوهر الإنساني للطبيعة والجوهر الطبيعي للإنسان". هذه هي النتيجة الحتمية للصناعة، ظاهرة مجردة عابرة للتاريخ، التي، بدلًا من تصوّرها على أنّها منفردة في ظل الرأسمالية، كما عند ماركس، هي الوسيلة المباشرة والفورية لتوحيد الطبيعة والإنسانية. وهكذا فإنّ مفهوم الاغتراب الكامل، أو الاغتراب الذاتي للإنسانيّة، باعتباره الواقع المادي المركزي للرأسماليّة (الذي قدّمه ماركس على أنه "عيب" مأساوي يجب تجاوزه)، قد تم إزالته في البداية. فالطبيعة والإنسانية، بالنسبة لدولوز وغوتاري، "حقيقة أساسية واحدة" أوجدتها الصناعة بشكلٍ تجريدي.

بعد القضاء بشكلٍ فعّال على ظاهرة الاغتراب التاريخية، ينتقل دولوز وغوتاري على الفور إلى توصيف الإنتاج على أنه "مبدأ جوهري" للآلات الراغبة، مما يؤدي إلى انفصام الشخصية الشامل، يُعرَّف " الفصام" بهذا المعنى على أنه "عالم آلات الرغبة الإنتاجية والإنجابية"، [التي تمثل] الإنتاج الأولي الشامل على أنه" الواقع الأساسي للإنسان والطبيعة " يحلُّ محلّه نظام عالمي من آلات الرغبة أو "اللاوعي الميكانيكي" ينتج واقعًا انفصاميًّا أكبر تكون الرأسمالية مجرد مظهر من مظاهره. يقع هذا الواقع الذي يرغب في انفصام الشخصية على مستوى الجوهر، ويحل محل الإنسانية نفسها. وهكذا نواجه عالمًا من الطاقة الليبيدية، وقوى الحياة الحيوية، والدوافع الآلية الراغبة التي لا مفر منها وتنتثر اللاعقلانية الرجعية لنيتشه على ممارسات ماركس الثورية.

يمكن رؤية انعكاس مماثل لدى جاك دريدا، الذي تم الكشف عنه مرةً أخرى فيما يتعلق بماركس، في كتاب دريدا الشهير أشباح ماركس. في هذا وأعمال أخرى، قدم دريدا منظور ما بعد البنيوي اليساري الهايدجري. وكان الرد الفوري والعام على أشباح ماركس، الذي كتب بعد فترة وجيزة من زوال الاتحاد السوفيتي، هو إعادة تأكيد ماركس. ومع ذلك، حدث هذا في شكل اعتذاراتٍ غير مباشرة شدّدت على "أشباح ماركس". هنا، ركز دريدا على السطر الافتتاحي الشهير للبيان الشيوعي الذي كتب فيه ماركس وإنجلز: "شبح يطارد أوروبا، شبح الشيوعية". وجادل بأن الماركسية لا تزال تطارد أوروبا، ولو بمعنى شبحي، حيث أدّت دورًا لا غنى عنه في الاستمرار في تحدي الكتلة الرأسمالية. ومع ذلك، فإنّ ماركس دريدا - أو ماركس الذي رغب دريدا في الاحتفاظ به - كان، على حد تعبير ريتشارد ولين، "ماركس هيدجراني"، فقير بسبب فكرة أن العدو الرئيسي الآن هو ببساطة الحداثة التقنية العلمية. هنا تستبعد "التحيزات الأنطولوجية للفلسفة المناهضة للإنسانية، وراثة هايدجر" كل جوهر نظرية ماركس، بما في ذلك القوى الاجتماعية الكامنة وراء الممارسة الثورية. في الواقع، أوضح دريدا أن "أطياف ماركس" لم يقتصر على ماركس نفسه "بل يومض ويتألق خلف الأسماء الصحيحة لماركس وفرويد وهايدجر". ومن ثم، يستمر ماركس في ملاحقته للرأسمالية ولكن بدون إظهار نفسه.

وهكذا أنتجت فلسفات الذات- الجوهر الجديدة كل أنواع النظريات التي تبدو راديكالية ولكنها في الواقع نظريات رجعية. يتضح هذا في معالجات ما بعد الإنسانية للأزمة البيئية، لا سيما في شكل ما يسمى "المادية الجديدة". الكثير من هذا مستمد من إعادة تخصيص دولوز المشكوك فيها لسبينوزا منظّرًا حيويًّا، في المقام الأول من خلال مفهوم الأخير للكوناتوس، والذي يتم تفسيره على أنه ينسب الدافع، والعقل، وحتى الفرح للأشياء نفسها، مثال سقوط الحجر أعلاه) لقد فتح هذا الطريق أمام تدفق واسع من الأعمال الحيوية الجديدة (ما يسمى بـ "المادية الجديدة") من قبل شخصيات مثل بينيت ومورتون، غالبًا باسم البيئة، والتي تكون النتيجة فيها روحانية عالمية. من وجهة النظر هذه، يتم التعامل مع كتلة من الفحم، وميكروب، ومجموعة أدورنو من الديناصورات البلاستيكية، وحجر، وما إلى ذلك، على أنها "تمتلك قوى حيوية"، وتضعها على مستوى وجودي مسطح مع الإنسانية. مثل شوبنهاور (في رده على سبينوزا)، يجادل بينيت بأن الحجر المتساقط، إذا كان واعيًا، سيكون محقًا في الاعتقاد بأنه قد تحرك وتحرك بمحض إرادته. والنتيجة هي هدم أي تمييز ذي مغزى بين الطبيعة البشرية وغير البشرية.

تتمثل الإستراتيجية الشائعة التي يمكن العثور عليها لدى Latour و Bennett و Morton في نفي نقد ماركس الشهير لولع السلع من خلال قلبه على رأسه ببساطة، وتقديم كل الأشياء / الأشياء عواملَ أو جهات فاعلة حيوية. هذا يرقى إلى عالمية فتشية السلع والتشييع (تجسيد العالم)، ومن ثَمَّ تضاؤل ​​أي فكرة عن الذات البشرية. إنه يشكل القضاء على المفهوم الكلاسيكي للنقد .

سعى رفض لاتور المعروف لـ "الحديث" إلى إنكار، بأسلوب يساري هيدجري، كل صلاحية لمفاهيم الطبيعة والإنسانية، وتقديمها على أنها ازدواجية زائفة أدخلتها حداثة التنوير. لقد جعل هذا الرفض لثنائية المجتمع والطبيعة قلب "إيكولوجيته السياسية"، التي استبدلت الفاعلين البشريين بتجمعات من "الفاعلين". ولكن بمجرد أن شعر متأخّرًا بالحاجة إلى النظر في حالة الطوارئ البيئية الكوكبية الفعلية التي يمثلها عصر الأنثروبوسين الجديد في التاريخ الجيولوجي، وجد لاتور نفسه خاليًا من جميع النقاط المرجعية - حتى أن البيئة كانت موضع تساؤل في فلسفته - وعاد إلى الغموض. مع مفاهيم مثل Gaia وما أسماه Earthbound (إعادة صياغة وتجسيد لمفهوم الأرض) والأهم من ذلك، نظرًا لطبيعة تدمير الكوكب، فقد واجه سؤالًا حول كيفية تصور ذلك من وجهة نظر النظام السياسي. وهكذا تحوّل إلى كتاب شميت The Nomos of the Earth المكتوب في ألمانيا النازية. حيث سعت أعمال شميت إلى تجذير القانون في الأرض (ليس بمعنى البيئة، بل بالأحرى الإقليمية)، معتبرًا هذا أساسًا لحالة الحرب الدائمة التي أسست القانون الدولي.

كان تقييم لوكاش لشميت في هذه الفترة أصعب بكثير من تقييم لاتور. جادل لوكاش بأن المنظّر القانوني النازي شميت قد تحوّل بسرعةٍ إلى المناخ الإمبراطوري الجديد بعد سقوط الرايخ الثالث. "لا يهمه - كارل شميت - سواءً كان هتلر أو أيزنهاور أو الإمبريالية الألمانية الناشئة حديثًا هي التي تؤسس الديكتاتورية المطلقة للرأسمالية الاحتكارية."

ومع ذلك، يخبرنا لاتور، بناءً على تحليله المبني على شميت، أن الإجابة تكمن في "حالة حربٍ جديدة" وأنهى كتابه 2015 Facing Gaia (ثماني محاضرات حول النظام المناخي الجديد لبرونو لاتور) بالإشادة بروح كريستوفر كولومبوس. على الرغم من انتقاداته لـ "الحديثين"، تحالف لاتور، على الأقل لبعض الوقت، مع الحداثيين المتطرفين الرأسماليين في معهد بريكثرو، طالبًا من الناس "حب وحوشك [فرانكنشتاين]]".

أدت اللاعقلانية الآن إلى الموضة مرة أخرى. إن المزيد من "الراديكالية لاستحالة ... الخروج" واضح حيث يواجه العالم في أواخر الإمبريالية شكلين من أشكال الإبادة: الحرب النووية وحالة الطوارئ البيئية على كوكب الأرض. في مؤتمر وكتاب يتناول معاداة السامية والنازية في دفاتر هايدجر السوداءيمثل جهدًا يائسًا لإنقاذ فلسفة هايدجر بطريقةٍ ما على الرغم من الكشف عن أن النازية كانت جزءًا لا يتجزأ من نظرته الكاملة، كان الفيلسوف الهيجلي اللاكاني جيجيك هو الذي أُعطي الكلمة الأخيرة، ولا شك بسبب سمعته مفكّرًا يساريًّا. سعى جيجك للدفاع عن أهمية هايدجر للفلسفة، على الرغم من نازيته، على أساس أهمية الأنطولوجيا الأساسية لـ "الاختلاف الأنطولوجي"، أو العلاقة بين الكائنات والكينونة، التي من خلالها جاء تحليل هايدجر للكينونة .وقد نشأ تفكيكه للأنا الواعية. هذا، إذًا، يُنظر إليه على أنه منفصلٌ عن خصوصيات مسار هايدجر السياسي. حتى لو لم يبتعد عن آرائه اليمينية المتطرفة، وفشل في التنصل من ماضيه النازي، كما قيل لنا، لا يزال هايدجر يستحق الثناء على الأنطولوجيا الأساسية لكيانه وزمانه وانتقاداته للحضارة العلمية والتكنولوجية، يُنظر إليه على أنه يمكن تمييزه عن تواطؤه مع الرايخ الثالث.

في عمل جيجك أقل من لا شيء: هيجل وظل المادية الجدلية، تم الإشادة بهيدجر بقوة أكبر. لم يتم تقديم هايدجر هنا فقط شخصيةً تعمل "ضد التيار" ضمن ممارسةٍ "قريبةٍ بشكلٍ غريبٍ من الشيوعية"، ولكن قيل لنا أيضًا أن هايدجر "في منتصف الثلاثينات" عندما كان عضوًا في الحزب النازي. يمكن أن يُنظر إلى الحزب على أنه "شيوعي المستقبل" - حتى لو لم يصل هو نفسه إلى تلك الوجهة. أعلن جيجك اعتذارًا أن نازية هايدجر "لم تكن خطأ بسيطًا، بل كانت" خطوةً صحيحةً في الاتجاه الخاطئ". وهكذا، "لا يمكن رفض هايدجر ببساطةٍ باعتباره فولكيش ألمانيًا، ردّ فعل". في حقبة النازية، كان هايدغر، كما يفترض جيجك، يفتح "الاحتمالات التي تشير ... نحو سياسةٍ تحرّريّةٍ راديكاليّة" من المؤكّد أنّ هذا كتب قبل نشر Black Notebooks - على الرغم من ظهور العديد من كتابات هايدجر النازية. لكن كما رأينا، فإن الدفاتر السوداء، مع معاداة السامية الخبيثة، لم تفعل شيئًا يذكر لتغيير دفاع جيجك العام عن فلسفة هايدجر.

يتّضح ولاء جيجيك لمشروع هايدجر المناهض للإنسانية في موقفه الحالي لما بعد الإنسانية حيث يجادل (بينما يشيد ببينيت) بأن الطبيعة والبيئة، جنبًا إلى جنبٍ مع الإنسانية، لم تعد مقولات ذات مغزى. حتى دفاع السكان الأصليين عن الأرض، في هذا المنظور، يجب التقليل من شأنه. في مقال ركز على مناقشة مفهوم ماركس عن الصدع الأيضي (نظرية ماركس عن الصدع الاستقلابي بين الإنسان والطبيعة أو بين المجتمعات البشرية والطبيعة نتيجة للمنطق المدمّر للرأسمالية)، ردَّ جيجيك على دعوة الرئيس الاشتراكي والبوليفي الأصلي إيفو موراليس للدفاع عن أمنا الأرض بملاحظة مفادها: "أحد الأشياء الجيدة في الرأسمالية هو أنه في ظلها، لم يعد هناك وجود لأمنا الأرض ". ما كان المقصود من هذا، كما هو الحال في كثير من كتابات جيجك، لم يكن واضحًا على الفور، لكنّه يتناسب مع تصريحاته الأخرى، مما يعكس ازدراءًا مشابهًا للمشاكل البيئيّة.

في الواقع، إن تجريد الطبيعة وتجريد البشرية من إنسانيتها مدمجان في نظرة جيجك العامة المناهضة للإنسانية، التي تتوافق مع مبدأ راديكالية استحالة الخروج. وهكذا، يعلن بطريقةٍ عدميّة: "إن قوة الثقافة البشرية ليست فقط لبناء كون مستقل ذاتي رمزي يتجاوز ما نختبره طبيعةً، لإنتاج أشياء طبيعية جديدة" غير طبيعية "تجسد المعرفة البشرية. نحن لا "نرمز إلى الطبيعة" فقط؛ نحن [أيضًا]، إذا جاز التعبير، نسحبها من الطبيعة ... الطريقة الوحيدة لمواجهة التحديات البيئية هي القبول الكامل بنزع الطابع الراديكالي عن الطبيعة". لكن هذا يعني أيضًا تجريد الإنسانية من الإنسانية بشكل جذري، لأنه، كما يقول أيضًا: "لا يوجد بشر إلا بقدر ما توجد طبيعة لا إنسانية لا يمكن اختراقها ".

وفقًا لمقاربة جيجك المتميزة والمثالية واللاعقلانية تجاه "المادية الديالكتيكية"، التي تهدف إلى "العودة من ماركس إلى هيجل وتفعيل" الانعكاس المادي "لماركس نفسه" عبر المثالية البحتة، فإن المذهب الطبيعي والمادي والنزعة الإنسانية النقدية مرفوضين، بشكلٍ عامٍ بما يتفق مع اليسار الهايدجري. وهكذا يفسح الواقع المادي الطريق للواقع المجرد. تؤدي مثل هذه الآراء إلى الانسحاب من أي تطبيقٍ عمليٍّ ذي مغزى، وتشاؤمٍ عميق، وديالكتيك اللاعقلانية. دون معالجةٍ جديّةٍ للأزمة البيئية العالميّة أو الصراع الطبقي ضد الرأسماليّة الضروري لتجنب عبور نقاط التحول الكوكبي، يعلن جيجيك بصراحة أنه "يجب أن نفترض أن الكارثة هي مصيرنا".

تتجلىاللاعقلانية هذه فيما يتعلق بالأزمة البيئية للرأسمالية أيضًا في استجابة جيجيك للتهديد الحالي المتزايد للصراع النووي بين الناتو وروسيا في سياق حرب أوكرانيا. في الواقع، نرى اليوم المزيد من التدمير للعقل؛ نتيجة الخلط بين معاداة الإنسانية الممزوجة بالحماسة القومية. يتضح هذا في إصرار جيجيك على أن يواصل الناتو دعم الحرب في أوكرانيا والابتعاد عن محادثات السلام، على الرغم من المخاطر المتزايدة للتبادل النووي الحراري العالمي الذي من شأنه أن يقضي على البشرية جمعاء، وذلك ببساطة من أجل "حفظ ماء الوجه". آخرون مثل نعوم تشومسكي، الذين أثاروا مسألة العلاقة بين التهديد الخارجي المتنامي العالمي، رفضهم جيجيك خطأ باعتبارهم من المؤيدين لروسيا بوتين. بدلًا من ذلك، دعا إلى وجود حلفٍ أطلسيٍّ أقوى وعالميٍّ قادرٍعلى محاربة كلٍّ من روسيا والصين. قيل لنا إن نفس "المنطق" الذي يحكم إصرار روسيا على عدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو وعدم وضع أسلحة نووية على الأراضي الأوكرانية، ما قد يمثل "أزمة وجودية للدولة الروسية" ... يفرض على أوكرانيا أيضًا، أنه يجب أن يكون لديها أسلحة [قدمها الغرب في حالتها] - وحتى أسلحة نووية - لتحقيق التكافؤ العسكري مع روسيا.

هنا نرى "الانتحار الكوني" لهارتمان على أنه المظهر الأسمى للعقل والإرادة يعاود الظهور فجأة في عصرنا. مرّةً أخرى،اللاعقلانية، المزروعة على أعلى المستويات الفكرية، التي سيطرت على نظرة الغرب في بداية الحرب العالمية الأولى، تخنق كل البدائل العقلانية. إن تقديم دعمٍ غيرِ نقديٍّ لأهداف الثالوث الإمبراطوري للولايات المتحدة / كندا وأوروبا واليابان، أو لدعم حلف شمال الأطلسي العالمي في السياق الإمبريالي المتأخر، هو التماهي مع الإرادةاللاعقلانية للسلطة في المركز الإمبراطوري للحزب. الاقتصاد العالمي، ما أدّى إما إلى العودة الأبدية للاستغلال / المصادرة، أو إلى انتحار هارتمان الكوني.

اليوم، يتطلب العقل التغلب على كل من الاستغلال والمصادرة، والميول الإدارية ذات الصلة في عصرنا. لا يمكن تحقيق ذلك إلا، كما أشار باران في الستينيات، على أساس "هوية المصالح المادية لطبقة [أو قوى اجتماعية قائمة على أساس طبقي] مع ... نقد العقل للا عقلانيّة القائمة". يكمن مصدر مثل هذه الهُويّة من "المصالح المادية مع الطبقة" حاليًّا بشكلٍ أساسيٍّ في الجنوب العالمي، ومع تلك الحركات ذات النطاق الثوريّ في كلّ مكانٍ التي تسعى إلى قلب النظام الرأسمالي – الاستعماري - الإمبريالي بأكمله من أجل الإنسانيّة والأرض.

*المصدر:  monthlyreviewarchives . جون بيلامي فوستر. ‏ - عالم اجتماع وصحفي أمريكي.

2023, Volume 74, Issue 09 (February)