Menu

أحمد جابر...

ابو علي حسن

الإنسان المجبول بعشق الوطن، ابتلعه الوطن لأنه عشق أحمد؛ فأخذه خليلًا إلى جانبه إلى الأبد.. ترافقا معًا منذ زمن.. يوم أن كان "الوطن" عملاقًا زمنًا ومكانًا، طولًا وعرضًا لم تتسع الدنيا لمكانته، بيد أن أحمد الصغير كان طفلًا يرنو بعيدًا إلى جانب أبيه الفدائي نحو ذلك الوطن؛ وطن شاهده في بندقية أبيه الفدائي مقاتلًا، وراحلًا من مكان إلى مكان. وفي ريعان الشباب تأمل أحمد مذهولا مكانة هذا الوطن الذي ضحى من أجله الملايين وأتعب الملايين من الناس في التودد والاقتراب منه؛ كان الوطن قديسًا يحج إليه الأحرار من أصقاع العالم، حينها سكن الحلم في صدر أحمد، وأصبح الحلم أكبر من الوطن واقعًا؛ رسمه في مخيلته مكتمل الأوصاف وجمال الكون... فالوطن له نكهته ورائحته وجاذ بيته وسحره؛ فصار سحر الوطن يسلب لب أحمد. وكبر أحمد العربي وسار يمشي على حد السيف كي يصل إلى الوطن، ويلحق به ليراه واقعا؛ فكتب عنه تفصيلًا، ورؤيً، وفكرهً، وتحليلًا، وحذاري من الاختلاف أو الاعتداء على الوطن بوجود أحمد؛ فكل عفاريت الدنيا تركب رأسه؛ فمركز التفكير عنده هو الوطن، ولا وسطيه، ولا أنصاف حلول أو مواقف عند فكرة الوطن والهوية والكفاح؛ إما أن تكون معه بالمطلق، وإما أنت لست منه بالمطلق.

لقد عاند كثر من مثقفي مرحلة الهبوط، وسخر منهم، وحط من قيمتهم؛ فالو طن عنده دائمًا على حق، كلما اقتربت منه فأنت على حق، وكلما تلعثمت في مواقفك منه؛ فأنت لست منه ولست على حق؛ تلك كانت عقيدة أحمد الفدائي في زمن الرده؛ عقيدة استلهمت التاريخ والجغرافيا والتراث، واستلهمت تحولات فلسطين على مدى التاريخ؛ فتشكلت عقيدته الفدائية ورؤيته الأقرب إلى فلسطين؛ فآثر أن يميط اللثام عن ذلك الغول الصهيوني الذي افترس الوطن في غفلة، لكنه عجز عن ابتلاعه؛ فكتب وجادل وبرهن، وأثبت حقا نستأهله ويستأهل الدفاع عنه، وعادى كيانات وأنظمة طردت الوطن من قداسته، وكي لا يكون هناك متسعا من المخاتلة والنفاق والالتواء؛ جسد عقيدته الفدائية بأقصى تطرفها؛ فأزاح من عقله وتفكيره وسطية المواقف والرؤى بكل وضوح وشفافية الثوري...

قلت له ذات يوم "وأنت راحلا اُترك مجالًا لخط الرجعة إلى المكان، فلا تتسرع؛ فابتسم ابتسامة تني برفض الوسطية".. وغادر، وأمعن في النقد الثوري وأمعن في العناد الفدائي، وتحول إلى طريدًا، وباحثًا عن أرض تقبل قدماه وتتسع لفكرته ومواقفه وعناده، ولكن هيهات أن يجد أرضا بها العبيد؛ فمات قهرًا ومات كمدًا، وذهب إلى جوف مكان ليس مكان وطنه، لكنه توحد مع وطنه الذي أحب، وسخَرَّ قلمه في سبيله، وترك وصاياه؛ حروفًا وكلماتً وأفكارًا تقول: أن الوطن قد ابتلعني وتساوت روحي بروحه..

أحمد شهيد الغربة.. ابن الفكرة وشهيدها؛ شهيد الشقاء وعذابات الثوريين، هو خالد بما كتب، وبما آمن، وبما أحب...