Menu

غسان السياسي وصانع القيم

بوابة الهدف الإخبارية

خاص بوابة الهدف

حين قام العدو بجريمة اغتيال الشهيد المفكر الأديب غسان كنفاني ، كان يبلغ من العمر 36 عامًا فقط، وعمر بدايته في الإنتاج الأدبي سنوات معدودة فقط، ولكن ما انتجه غسان خلال هذه الفترة كم هائل من الأعمال الأدبية، وما قدمه على المستوى الفكري للهوية الوطنية الفلسطينية ببعدها التقدمي التحرري كان مذهلًا بكل المقاييس.

إن العودة مجددًا للكتابة عن أدب غسان حاجة لا تنقضي، ولم تزل واجبة، ولكن في هذا النص لعل الانشغال الأساسي هو مقاربة ما قدمه غسان كنفاني في سياقات إنتاج القيم السياسية، والممارسة السياسية الفعلية، فلقد قام غسان بعملية تعريف ونحت لمفاهيم تكثف معاني الصراع بين العدو الصهيوني والشعب الفلسطيني وأجاد التعبير عميقًا عن هوية هذا الشعب وقضيته بأبعادها المختلفة، وخصوصا لجهة الإدراك العميق للبعد الإنساني في هذه القضية، والأهم من ذلك الوضوح الشديد والجدية والمصداقية التي اتسمت به مقاربته للواقع الفلسطيني والعربي، وقراءته للأحداث التاريخية في هذا الواقع والعوامل التي ساهمت في صناعة الاخفاقات.

لم يكن غسان صوتًا نقديًا فحسب، ولكن أيضًا قارئ استراتيجي سعى لتقديم إجابات تستند لعوامل القوة لدى الفلسطينيين، مؤمنًا بإمكانية انتصارهم وناسبًا هذه الامكانية لعوامل وقدرات وقيم يحملها الشعب الفلسطيني وأخرى سعى لاستحضارها والتنظير لها بقوة.

لم تكن النظرة للفلسطيني الفقير كمناضل أو للمخيم كموضع لإنتاج المقاتلين هو أمر مسلم به، وإذ نردد هذه المقولات اليوم بسهولة ويسر، فإن علينا أن ندرك ما أسهم به غسان في هذا الجانب، تنظيرًا وممارسةً.
في عشرات اللقاءات التلفزيونية والمواقف التي قدمها الشهيد غسان كناطق باسم الجبهة الشعبية، وضع خطوط أساسية لمرافعة الفلسطيني عن قضيته، وعن حقه في المقاومة والنضال، ووصف دقيق لموضع الفلسطينيين ضمن معادلة الصراع، وخيارهم في الكفاح ورفض الاستسلام، في زمن لم يكن فيه الاستسلام خيار منبوذ كما نظن، فما نقرأه عن تاريخ تلك الحقبة على مستوى المواقف هو نتاج لجهد حقيقي بذله أمثال غسان لمنع الاستسلام العربي.

استشهد غسان قتلًا بالسلاح، بالمتفجرات، كجزء من صراع أطلقه العدو الصهيوني لإنهاء الوجود الفلسطيني وفرض الاستسلام العربي، وأجاب عليه الشعب الفلسطيني بالقتال، الذي رفض غسان أي حديث عن مجرد الحوار حول وقفه دون استعادة شعبنا لحقوقه.

اليوم نقف أمام ذات الأسئلة التي واجهها الشهيد الراحل، إذ يلقي علينا العدو بثقله واهمًا بامكانية حسم الصراع لمصلحته، فيما تنتصب قامات الرجال في أزمة المخيمات لتحمل هوية الفلسطيني بعنصرها الأكثر محورية، الكفاح المسلح كطريق للتحرير والعودة، بنادق تتلقم بدم الشهداء وتضحياتهم، وتطلق رصاصها دفاعًا عن وجودنا.

إن محاولة الالتفاف على هذا الخيار الشعبي الوطني، والممارسة الكفاحية، وصفة انتحار، تفتح الباب أمام العدو ليفرض الموت وليس فقط الاستسلام كمصير مؤكد لكل فلسطيني يرفض العبودية. إن المعنى الأساسي لرفض الاستسلام والذل وحياة العبودية في المعازل التي يزج بها الغزاة الصهاينة شعبنا في الضفة، هو القتال والمواجهة بكل أشكالها وفي مقدمتها الكفاح الفدائي المسلح.

في ذكرى غسان ما زالت رصاصات الفدائي الفلسطيني تحييه حين تنطلق، وترد أفعال المناضلين جيلًا بعد جيل على جريمة الاغتيال، وسائر جرائم العدوان اليومية، يقف غسان مقاتلًا اليوم على تخوم جنين ومخيمها، ولا معنى لرثاء الشهيد العظيم دون الاصطفاف في خندقه.