Menu

غسّان كنفاني الذي وجدتُهُ ولم ألتقِ به

مروان عبد العال

نشر هذا المقال في العدد 52 من مجلة الهدف الإلكترونية

قبلَ وفاةِ الكاتب الجميل الرفيق أبو أحمد الزعتر عام 2005، القيادي في الجبهة الشعبيّة، وأحد أبطال الصمود في مخيّم تل الزعتر، كان قد اصطحبني في سيّارته، دون سابق إنذار، إلى منطقة الحازميّة ناحية "مارتقلا"، لا أعرفُ لماذا فعلها، وأنا لم يسبق لي أن طلبتُ منه ذلك؛ ليشيرَ إلى الطابق الأرضي من مبنى متواضع الحجم والطبقات، أوقف السيارة في أرض بور، وسط منطقةٍ جرى عليها تغييراتٌ كثيرة، مبنى قديم متهالك، مهشّم، ومثقل بسنوات الرصاص، وحديقة كئيبة لا لون لها، وقبل السؤال البديهي قال: هنا قال غسان كنفاني لزوجته آني كنفاني جملته الأخيرة: "اعمليلنا أكل طيب.. بعد شوي بنرجع"، ولم يرجع..

استغرقتُ التأمّل في المكان، وبعد صمتٍ رهيب، دقّت الساعة، تشير إلى الحادية عشرة والدقيقة الـ 45 من ظهر يوم السبت الثامن من تموز عام 1972 وحسب عقارب الوقت المتوقّفة فيما تبقّى من يد صبيّةٍ اسمها لميس نجم على سطح مبنى في الحازميّة. أمّا الساعةُ المعلّقةُ على الحائط، فكانت كأنّها ما زالت تخفقُ بذاك الزمن، قرّر أن يكون الوقتُ هو البطل الذي جسّده يومًا في رواية «ما تبقى لكم»، ورقاص الساعة الذي يسير مع النعش في جنازة، ليظل رمز الساعة تعبيرًا عن عداوة الزمن ومراوغة الأحلام. 

صرنا نستنطقُ أبطاله كما نستنطق دمه، عن العبوة التي تزن 5 كليوات من مادة "تي أن تي" وجسده المتناثر على مساحة خمسين مترًا والساعة المعلّقة على الشجرة، نحيب قلب آني كنفاني ودموع أم سعد تحتضن فايز وليلى، استعدنا صوت الانفجار والحريق الذي التهم سيارته «أوستن -1100» كل شيء يتردد صداه وجعًا ومرارة، مثل سماعنا لكل حادثة إطفاء شمعةٍ على يد القوى المعادية والظلاميّة، أو استباحة لقامةٍ ثقافيّةٍ بمخزونها الجمعي والوطني. ولعلّ هذا ما كان يغبط المرحوم الدكتور أنيس صايغ: إنّ غسان كنفاني أكثر سعادة منّا؛ لأنّه رحل من دون أن يرى الواقع المهزوم، حيث قال له فيها: «إنّ انفجار سيارة الأوستين حرك من هذا العالم وأبعدك عن المأساة التي نعيش وأخفى عن عينيك عيوب الحاضر وجرائمه وانهزاماته. فأغمضت عينيك على صورةٍ جميلةٍ من صور النضال والإيمان والثورة والقيم». لذا، لن تتوقف الساعة؛ لأنّ زمن المقاومة يتواصل مع أطفال غزة يلعبون أمام عيون بحرهم المحاصر لعبة «فدائي ومحتل» وفي حارات نابلس «عسكر وحرامية» وفي أزقة مخيّم جنين «مقاوم ومعتدي» وقد مضى زمنٌ طويلٌ لأكتشف أن المستهدف في صيف تموز، ليس غسان الذي كان، بل غسان الذي سوف يكون، الذي سيتوالد في أجيالٍ جديدة.

ومذّاك، ونحن نرسم مثله، نتبع أثره نقلّده ونسرد قصّته ونكتب عنه وفيه وله، وهو ينمو ويكبر ويتبرعم ويثمر.. ونحن معه. ففي عام 1985 منظمة الشبيبة الفلسطينية - التي كنت مسؤولها - أقامت أول ندوةٍ أدبيّةٍ نوعيّةٍ عن غسّان كنفاني في المخيّم، والمصادفة في المكان ذاته قرب الخزان على الشاطئ يوم جاء خبر استشهاده، وتحدث فيها عمداء من الجامعة اللبنانية وأسماء ثقافية لامعة، وسط اندهاشٍ على وجوه الحضور الكثيف، يومها لا أنسى عندما علّق أحد الحضور: "شكرًا للشبيبة، اليوم جعلتنا نتعرّف على غسان كنفاني".. هكذا وجدته ولم ألتقِ به، ولكن لم نفترق أبدًا، ومنذ ذلك التاريخ لم يمرَّ عامٌ دون أن أكتب أو أتحدّث عن غسان، ولسببٍ وجيهٍ أنّه جعلنا حبًّا وطواعية، ننتسبُ لدمه وفكره وحلمه وحزبه، والأجمل من ذلك، أنّه أدخلنا إلى قلب فلسطين، نحن الذين ولدنا خارجها وننتظر على بابها، وجعلنا نحبها دون أن نراها.