Menu

النضال الوطني والدور النقدي: لماذا لا يصبح الحزب رائعًا؟

بوابة الهدف الإخبارية

بوابة الهدف الإخبارية

هناك قيمة مؤكدة للتفكير والخطاب النقدي في أي تجمع بشري كان، ويكتسب النقد مكانة أكثر رسوخًا في الأحزاب الثورية، ورغم أن واقعنا الفلسطيني لم يخلو من أشكال التسلط والهيمنة والإقصاء، بل وحتى الاضطهاد لأصحاب الأفكار النقدية، إلا أن التجربة التاريخية تؤكد أن ممارسة النقد إجمالًا حظيت بكثير من التوقير والاحترام للأفكار أو من يمارسها، وسواء في فترات المد الوطني والثوري أو حالات التراجع والهزيمة، غالبًا ما كان الخطاب الذي يطالب بالإصلاح أو التغيير الجذري حاضرًا وبقوة، سواء على مستوى المشهد الفلسطيني العام أو على مستوى البنى الفرعية الحزبية والمؤسسية للحركة الوطنية.

وفي إطار هذا التاريخ من الممارسة النقدية الفلسطينية، حضرت فكرة مهيمنة تفترض وجوب أن تكون هذه البنى الوطنية في حالة ممتازة لتمارس دورها الوطني، وهذا إجمالًا أيدته أدبيات الأحزاب والفصائل الفلسطينية وقوى وتشكيلات العمل الوطني، التي اعتبرت أن جودة الوضع الحزبي وسلامة ركائزه الفكرية والتنظيمية والسياسية هي ضرورة محورية في قدرة هذه القوى على القيام بدورها الوطني والمجتمعي.

لماذا لا يصبح الحزب رائعًا؟ لماذا لم تنصلح م. ت. ف؟

وعلى أهمية هذه الروحية النقدية التي اكتست بها الممارسة والبنى الثورية والوطنية الفلسطينية، وبعيدًا عن كون كثير من الممارسات التي تلبس العباءة النقدية والإصلاحية هي في الواقع تعبيرات عن عزوف عن الممارسة الوطنية وفي كثير من الحالات خطاب هزيمة، يرغب بتعميم استسلام من استبطن الهزيمة بحجة فساد الواقع.

هناك اشكالية في فهم مهمات النقد والإصلاح وعلاقتها بالمهمات الوطنية والاجتماعية للحزب أو الفصيل أو المؤسسة، كبداية من البديهي القول: أن حالة الطهارة الكاملة أو النجاعة والكفاءة المطلقة للبنى المؤسسية هي هدف يجب مواصلة السعي لتحقيقه، وليس واقع متحقق في حالة معظم حالات حركات التحرر الوطني، وحتى معظم القوى التي نهضت بمهمات عظمى في تاريخ شعوبها وتاريخ العالم، ولكن المعضلة الأهم تكون في تجاهل أن أي منظومة مهما بلغت كفاءتها وجودة حالتها، تكتسب قدراتها بالأساس من انخراطها في العمل لأجل أهدافها العليا، وبقدر أكبر يمكن القول: أنه في حالة التجارب الحزبية الفلسطينية، أن ما تكفل بنهوض أي من القوى الفلسطينية هو انغماس كادرها وبنيتها في المهمات الوطنية والمجتمعية الكبرى، وأن محطات النهوض والانتفاض الوطني والجماهيري، غالبًا ما حملت الأحزاب والقوى لوضع أفضل على كافة المستويات، وأكثر من ذلك، أن الاشتباك الدامي مع العدو الصهيوني قد شكل على الدوام العامل الأساسي في تطوير بنية الحركة الوطنية الفلسطينية بكافة قطاعاتها وتياراتها، وأن الانكفاء نحو الداخل في أي من هذه البنى وتخيل وجود مهمات داخلية سامية على الانغماس في المهمات الوطنية، كان محض خيال زائف يقدس الحزب أو الفصيل ويعلو به عن المهمة الوطنية، أو تجاهل لقيمة الوقائع السياسية وقدرة الجماهير وفعلها النضالي على خلق بيئة دافعة لتطور العمل الوطني وبناه.

في محطات بارزة يمكن الإشارة لما أحدثته انتفاضة ١٩٨٧ من تحولات هائلة على مستوى الفصائل الفلسطينية، بل وقدرة هذه الانتفاضة على إنتاج ديناميات تنظيمية جديدة استطاعت تنظيم معظم أبناء الشعب الفلسطيني وبناء شبكات ممتدة وعميقة، مارست كل أشكال العمل المنظم في الاشتباك الواسع مع العدو الصهيوني، وكذلك دور انتفاضة الأقصى ٢٠٠٠، كرافعة انقاذية للفصائل الفلسطينية التي مزقتها أدوات التقويض بعد أوسلو وعصفت ببناها التنظيمية وهددت وجودها، خصوصًا أن هذه الانتفاضة لم تنقل فقط البنى الفصائلية لموضع مختلف، بل نقلت المشهد الفلسطيني بأكمله لمعادلات مختلفة، ويمكن القول: أنها ساهمت في تشكيل واقع الإقليم والصراع مع العدو الفلسطيني اليوم ومستقبلًا.

اليوم يقف شعبنا في محطة اشتباك رئيسي ومصيري مع العدو الصهيوني، وتبدو الأطروحات المهووسة عن الإصلاح البنيوي مضحكة بعض الشيء، فبينما استطاعت شريحة من أبناء الحركة الوطنية تنظيم ذاتهم في أتون الملاحقة الأمنية واستعادة مساحات الاشتباك مع العدو الصهيوني، دون انتظار لإصلاح النظام السياسي الفلسطيني وإنهاء الانقسام أو حتى استعادة البنى التنظيمية لقدرتها، وهذا لا يعني أن هذه المهمات غير ذات قيمة، ولكن يعني وجوب النظر لما أحدثته الممارسة النضالية لشعبنا من تغييرات كبرى تخلق واقع مختلف ساهمت في انجاز هذه المهمات الإصلاحية والبنيوية، أكثر من معظم ما تم الخوض فيه طيلة سنوات من طقوس الغرق في الذات.

النهوض الوطني، أو الإصلاح المؤسسي، أو تطوير البنى التنظيمية، جميعها مهمات تتعلق بتغيير الواقع لا الدوران حول بعضها، أو الانغماس في ممارسات جلد الذات وتقويض الرهان على دور الشعب كمعلم أول، وتجاهل وقائع الأخطار المحدقة بشعبنا وقضيتنا والمهام التي لا تقبل التأجيل، وفي مقدمتها واجبات القوى الوطنية في التصدي للعدوان المتصاعد، وحقيقة أن ممارستها لهذا الدور هو أداة إصلاحية ناجعة ورافعة نهوض موثوقة، أكدت التجربة الوطنية دورها.