Menu

استلابُ الذّاتِ الفلسطينيّةِ في مشروعِ غسّان كنفاني

خالد فارس

يُطْلِعُنا غسّان كنفاني في رواياته على الذّات الفلسطينيّة في لحظاتِ استلابها وما بعد استلابها؛ لِنَجِدَها ذاتًا في أتون الاستغلال بأشكاله وأنواعه كافةً. ينطلقُ كنفاني من الذّات الفلسطينيّة المُسْتَلَبَة، كأنّها مقدّمةٌ لما بعدها من تشرّد، مخيّم، اعتقال، حصار، مطاردة، جنسيّة، إقامة، وظيفة، وطن بديل ... التي كلّها تقع في سياقات الاستغلال الاجتماعي على الفلسطيني.

والاستلابُ مسألةٌ تعني في الاجتماع السياسي والثقافي أنّ الذات الإنسانيّة، جوهرها، الذي يمثّل وضعها الطبيعي، قد فقدته، وبدأت تكتسب ذاتًا مُغايرة، مصدرها قوى خارجة عنها، طارئة عرضيّة، مفروضة عليها، تُملي عليها ما هي الذات الفلسطينيّة المطلوبة للمرحلة الجديدة. الوطن هو مكانُ ذات الإنسان الطبيعيّة زمانها؛ لكي تنمو وتزدهر بحرّيّةٍ وتقدّم؛ سرقة وطن هو سيرورة فصل الذّات عن بيئتها نحو الشّتات والضّياع.

وكلّما وقعت هذه الذّات في زمان الاستلاب ومكانه؛ أي إنّها اكتسبت عناصر ذاتٍ أخرى، قَصْرًا، بفعل قوى أكبر وأقوى منها، ستبدأُ هذهِ الذّات في الدّخول في معادلاتٍ تُناقِض طبيعتها، وَتُطَوِّعُها تدريجيًّا بوسائل المال، والإعلام، والسلطة.

تدخلُ الذّات الفلسطينيّة في مرحلة دون الوعي؛ لكي تختلط عليها الأزمنة والأمكنة، ففي رواية ما تبقى لكم يقول كنفاني في التوضيح عن شخصيات الرواية، وكأنّه يحاكي أو يستشرف حال الفلسطيني "لا يتحرّكون في خطوطٍ متوازيةٍ أو متعاكسة، ولكن في خطوطٍ متقاطعةٍ تلتحمُ أحيانًا. وهذا الالتحامُ يشملُ الزمان والمكان بحيث لا يبدو هناك أي فارقٍ محدّدٍ بين الأمكنة المتباعدة أو بين الأزمنة المتباينة، وأحيانًا بين الأزمنة والأمكنة في وقتٍ واحد. "لقد ذهلني هذا التعبير الذي يجسّده في مشاهد تصويريّة، والحديث عن ضياع يافا، التي صار بعدها زمانٌ جديدٌ يتداخل مع كلّ شيء، زمان القضيّة التي ستتجّمدُ فيها الذات الفلسطينيّة، أمام أزمنةٍ ممكنةٍ أو ضروريّة، فتجد نفسها في لحظات انتظار، وهي مُستلبة ستدخل في زمان الانتظار الذي سيمتدُّ في المدى البعيد "ووقف أبي أمام الباب، كان غاضبًا، وكان يرتجفُ شأنه كلّما حار في غضبه، وصاح بصوته المبحوح: "لا تتحدثوا عن الزواج قبل انتهاء القضية"" (ما تبقى لكم، صفحة 189، الأعمال الكاملة).

فالقضيّةُ أزمنةٌ متداخلة، يصعب ملاحقته في "عالم مختلط ". ولكن في هذا العالم يتسلّلُ الوعي من حالةٍ دون الوعي، من عالمٍ يسعى كنفاني فيه إلى "تعيين لحظات التقاطع والتمازج والانتقال، التي تحدثُ عادةً دون تمهيد" (ما تبقى لكم)، بذا نسمع من كنفاني لغة التحوّل النوعي في الحياة؛ بسبب تراكمات من تداخل الأزمنة والأمكنة، فيحدث الانتقال. إنّها لغةٌ جدليّةٌ مع الواقع، أن تكون هناك ذاتٌ قد استُلبتْ، ثمّ استغلالًا يضعُها في أزمنةٍ وأمكنةٍ مختلطةٍ تثيرُ تناقضاتٍ حادّةً فيها، ثمّ يخرجُ منها الجديد.

عندما يفقدُ الإنسانُ ذاته الطبيعيّة، يدخلُ في دون الوعي، وهي المرحلة التي يصبحُ فيها جاهزًا للاستغلال. هذا ما فعله كارل ماركس في مشروعه الكبير، عندما انطلق من الاستلاب إلى الاستغلال، وأن الاستلاب هو سببُ الاستغلال. فبعد أن كتب ماركس كتاب المسألة اليهوديّة، وهي أوّلُ مرّة يشيرُ فيها إلى الاستلاب، والمخطوطات الفلسفيّة التي نَظَمَ فيها إطار عملٍ للاستلاب لأوّل مرّة أيضًا، ذهب ليشرح الاستغلال الذي يقعُ على الإنسان في رأس المال وغيره.

تُجَسَّدُ أعمال غسان كنفاني هذا الاتجاه، أو هذا النمط والحس الإنساني، ويُجسَّد الانتماءُ إلى مدرسةٍ فلسفيّةٍ تؤمنُ باستعادة الذّات الإنسانيّة طبيعتها، وأن تحافظ على جوهرها. وتجسّد أيضًا سيرورات التاريخ، السّياسي منه بوجهٍ خاص، الذي منه يتمُّ بناء العَيْني؛ لكي يصل إلى العام الاجتماعي المشترك في أزمنة النكبة والنكسة. فلا يمكنُ لمشروع تحرّر وتقدّم أن ينطلق قبل أن يفهم الذات التي استُلبت، والمحاولات التي جرت لتغيير جوهرها، وواقعها الطبيعي الذي منه تنتج حياتها السياسية والثقافية والاقتصادية. هذا لا يعني أنّها لم تكن تحت الاستغلال في حقب الاستعمار البريطاني، أو العثماني وهو "احتلال" مختلف، ما قبل الإمبريالي الغربي حضر ضمن تمدد الخلافة الإسلامية في أرجاء الوطن العربي أو لم تكن غايته الاحتلال كما البريطاني، بل التقدّم والتطوّر من خلال سيطرة عائلة إقطاع سياسي ديني (عائلة آل عثمان)، بل كانت الذات الفلسطينية في حالة استلاب أيضًا خلال الحقبة البريطانيّة وقبلها العثمانيّة. ولكن هناك محطّة الاحتلال الإسرائيلي، الذي عندما جاء أراد أن يفرض غير الذّات الفلسطينيّة، نفي الذات؛ إنّه لا يوجد ذات فلسطينيّة أصلًا؛ لكي يبرّر سرقة الأرض وتهجير الشعب.

أراد كنفاني أن يغرس الذات في التاريخ، ويُأَصّل لها، ويرصد عوالمها المتداخلة، "الصعوبة الكامنة في ملاحقة عالمٍ مختلطٍ بهذا الشكل..." (رواية ما تبقى لكم. التوضيح). ثم ينطلق في استكشاف آليات استغلال ما بعد الاستلاب، وهو بذلك يواجه المشروع الصهيوني فلسفيًّا وتاريخيًّا بأدوات الثقافة الأدبيّة. الصهيوني الذي يُنكر الذات الفلسطينيّة الطبيعيّة (أرض بلا شعب وشعب بلا أرض). فيقول لهم كنفاني، إنّنا سنعلن ولادة ذاتٍ فلسطينيّةٍ مُستلبة، ونحن نعي ذلك جيّدًا، ونعي أزمنتها وأمكنتها، وندرك تمامًا أنّها ستقعُ في براثن الاستغلال الحديث.

وعن أم سعد يقول كنفاني "لقد علّمتني أم سعد كثيرًا، وأكاد أقول: إنّ كلّ حرفٍ جاء في السّطور التالية إنّما هو مقتنصٌ من بين شفتيها التين ظلّتا فلسطينيتين رغم كلّ شيء."، وهنا كنفاني يلجأ إلى ذاتٍ فلسطينيّةٍ "أصيلة"، يتعلّمُ من كينونتها. ولكنّها ليست وحدها، إنّما شعبٌ له تجسيدٌ طبقيٌّ في النكبة والنكسة فأم سعد ليست امرأةً واحدة، ولولا أنّها ظلّت جسدًا وعقلًا وكدحًا، في قلب الجماهير وفي محور همومها... فقد كان صوتها دائمًا بالنسبة لي هو صوتُ تلك الطبقة الفلسطينيّة التي دفعت ثمنًا غاليًا ثمن الهزيمة". ثم يأتي الاستغلال بعد الاستلاب "التي تقف الآن تحت سقف البؤس الواطئ.. وتدفع، وتظل تدفع أكثر من الجميع". بعد أن تمّ استلاب ذات أم سعد، وفقدتها بسبب الهزيمة، أصبحت تحت وطأة الاستغلال. تسلسل منهجي جدلي، لا يَحْرقُ المراحل ولا يتجاوزها عُنوةً أو إرادويًّا، بل يأخذها في منطق التاريخ العيني ليصل إلى العام الاجتماعي، طبقة النكبة والنكسة في تنوع واقعها وذاتها.

سنجد في كل لحظةٍ أن غسان يحاول استعادة لحظات الاستلاب؛ لكي يثبت أن هناك زمانًا ومكانًا قبل الاستلاب، وأنّه حمل في ذلك الزمان كل ما فيه من سلبيّاتٍ وإيجابيّات. لم يقل كنفاني أن ما قبل الاحتلال الصّهيونيّ الذات الفلسطينيّة صافيّة الوجود، ونقيّة، إنّما أراد أن يقول: إنّ استلاب شيء يعني أنّه موجود شعبًا وأرضًا، وإلا لما أمكن استلاب شيء غير موجود. هذا التجذير الوجودي للشعب الفلسطيني، صدم المشروع الصهيوني؛ لأنّه تواجه معه في عقر داره، في أيديولوجيته التي تتخفّى في أقنعةٍ يصعبُ على العام الاجتماعي إدراكه.

ولو شاءت الأقدارُ أن يكون غسان هنا، بيننا، فإنّني أستشرف بأنّه سيكتب عن تداعيات أوسلو التي قَسَّمَتْ الذات الفلسطينيّة إلى ذات النّكبة وأخرى للنّكسة وما بينهما من الضفّة وغزّة والشّتات، وشتات الشّتات، ويرفض قطعيًّا خيانة "أم سعد" التي جسّدت طبقة الفلسطينيّين. لكنّه أيضًا سيرى في واقع أوسلو العيني حالة تجسيد عينية للزمان والمكان الفلسطيني، وربما يكتب عن استلاب ما بعد الاستلاب الأول واستغلال يقوم على الاستلاب الثاني، كم نحن في حاجةٍ إلى مشروعٍ أدبي يشرح لنا الاستلاب الثاني الذي يمزّق الذات الفلسطينيّة إربًا؟

فكتابات كنفاني هي استنهاض، وليس بُكاء على الأطلال، وهي الواقع أيضًا، والمُضي قُدُمًا بأدواتٍ تُراكِمُ معرفة ونِضال وتَحرر. وأنا أكلم نفسي، أقول، ربما سيكتب لنا عن الفلسطيني في عصر الفضاء المعلوماتي، والذكاء الصناعي وربما يقول لنا إنه الغباء الصناعي؛ لأنه يتصرف نيابة عن الإنسان، وهذه لن يقبلها كنفاني الذي يعد أن الإنسان في ذاته هو الأصل، وأن الغباء الصناعي هو استلاب لها. وربما يقول لنا إن هناك غباء صناعيًّا خاصًّا بالفلسطيني؛ لأنّه سيؤدّي دورًا في استلاب ثالث، استلاب ديجيتال. فهو الرقم الصعب الذي بعد كل هذا التدمير، والتفتيت والحصار والشتات والفقر والاضطهاد، تعتقد قوى الاستلاب العالمي أنّه لا بدّ من مواصلة تذويب الذات الفلسطينيّة التي جسّدتها أم سعد والمخيّم والشّتات والأوطان البديلة.

لماذا يجب الحديث عن غسان كنفاني دائمًا؟

يثير التنوع الذي سعى له كنفاني سؤال المجتمع. إنْ كانت النكسة والنكبة تعبر عن طبقة، فهذا لا يعني أنه لا يوجد تنوّع ولا يعني أن الطبقة عند غسان هي مجرّد نمطٍ ساكنٍ أحادي الوعي والأحاسيس. رَمَزَ بتصوير جمالي أدبي، وأنه إذا كان للطبقة اتجاه مسيطر نافذ في الواقع العيني، فهذا لا يعني أن الحق معها "وأحيانًا ينحرف الماعز الأكبر في القطيع وراء قشرة برتقالة فيتبعه القطيع بأكمله، وقد يجتاز سياجًا فيشتبك الرعاة بالمزارعين ويموت ناس ...." (من رواية العاشق صفحة 429 الأعمال الكاملة). فالقيادة التي تسعى إلى قشرة برتقالة، فإنّ مآلاتها ستكون "القطيع" بما في ذلك من أخطار الانقسامات التي تمر فيها محطّات حروب أهلية.

من مهمّات القيادة النافذة البحث عن الحَقّ في التَنَوّع، في وحدة الناس باختلافهم عن بعضهم البعض، هذه هي الطبقة الفلسطينيّة في تنوّعها، فهي لا تتوحّد إلّا في تنوّعها. استلاب الذّات الفلسطينيّة الجمعيّة بتحويلها إلى "قطيع"، هو الذي يمنعُ قيام وحدة التنوّع. استلاب داخلي، استكمالًا لاستلاب الاحتلال، وهو تحويل الجماهير إلى قطيع أو رعاع، ظاهرة عامة عربيّة، بدأت منذ وعد بلفور، أخطرها عندما تحدث في أوساط الشعب الفلسطيني.

إنّ "رأس الولي" في رواية "الأعمى والأطرش" ما هي إلا "فِطْر" تَوَهَّمَ الناس أنه وَلِي يحمل سماتٍ خارقةً على الواقع، بذا علينا أن نعاين الواقع؛ لأنّه دون المعاينة لهذا الواقع، سندخل في التجريد الميتافيزيقي، وهو أخطر أنواع الاستلاب للذات؛ لأنّه يحتكر الحقيقة التي هي أحاديّة مركزيّة ترفض التنوّع. لا نريد استلاب "قشرة البرتقال" ولا "رأس الولي"، كلاهما يدمر طبقة النكبة والنكسة المتنوعة، وينسخها في قالب "ذِهْنَوي" أخطأ في معاينة "رأس الولي وقشرة البرتقال"، أحدهما تمدّد في مُلخّص وَلي وآخر خرج عن طريق الصف الاجتماعي نحو قِشْرَة. فتتحول بهما الجماهير إلى "قطيع" أو فردانية تنتفع من هيمنة أوهام الخلاص الفردي. وهذه واحدة من استخلاصات الحِكَم في مشروع غسان كنفاني.

إنّ الفلسفة بالتعريف، هي حب الحكمة. أن تحب الحكمة يعني أن تحب غسان كنفاني.