Menu

"60 مليون زهرة" تسرد همجية العدوان الإسرائيلي عام 2014

موقع قناة الميادين

كتب حسن حميد*

أعترفُ اعترافاً متأخراً علوقاً بالخجل لأنني لم أقرأ التجربة الروائية للكاتب والروائي والفنان التشكيلي مروان عبد العال، إلا قراءة منجمة، يفصل ما بين كتابة وأخرى، وقت طويل له بوابات لا يلبث الزمن، حتى لو كان متقطّعاً، أن يغلقها بإحكام.

واستباقاً لكلّ قول، أودّ الإشارة إلى أن شواغل كثيرة أخذت مروان عبد العال منّا شدّاً إلى أولوياتها، ومنها الشواغل السياسية، ومتطلبات العمل الفدائي، ونداءات المخيّمات، والأنشطة العامة والخاصة التي أخذته إليها، ومنها أيضاً شواغل وشيجة بالفن التشكيلي، فهو صاحب مدونة لونية بهّارة، هي أشبه بمرآة جادة في مبارزتها لمرآته الروائية، وذلك لأنّ الانتباهات العميقة تسري في عروق التجربتين الفنية والروائية معاً، وكأنّ الواحدة منهما تبارز الثانية من أجل النيافة والحضور.

وأعترفُ أيضاً أنني حين قرأت مدونة مروان عبد العال الروائية، تذكّرت الكثيرين من الأدباء والشعراء والفنانين الذين أرادوا المرور أمام مرآة السياسة فتورطوا بالتلبّث وقوفاً في حضرتها لأنها أغوتهم، وبذلك ضيّعوا وقتاً طويلاً في دروبها وغرفها وفضاءاتها المتعددة التي يغمر بعضها بعضاً، ذلك لأنها مرآة أشبه بالسراب النّداه بأنه بحيرة ماء، وهو لا يشبه الماء في شيء، وقد صدق مالرو الفرنسي حين قال: السياسة أشجار طعومها حامضة، وألوانها لا بهجة فيها ولا ألق.

 مروان عبد العال أخذته السياسة مبكراً، يوم كان شاباً من شبان مخيّم نهر البارد، وقد فتنته وهي تتحدّث عن المقاومة، فعشق جيفارا و جورج حبش ، وغسان كنفاني، وبابلو نيرودا، ومايكوفسكي، ونوح إبراهيم، وغوركي، فصار النضال إيقاع حياته، ولأنه عاشق للثقافة، اختار الانتماء إلى فصيل يقدّس الثقافة مثلما يقدّس زاهيات التاريخ والجغرافيا والاجتماع، فمضى في الدرب الذي يقرّبه من جورج حبش ورفاقه، فقرأ أدبياتهم، وعاين أفعالهم، ورصد سلوكياتهم، ومن بعد، مضى إليهم ليكون واحداً منهم، وهو يقول: هنا تُحمد، أو تقرأ فتستريح، بعدما خوّض طويلاً في المنتديات الثقافية وما فيها من أنشطة متعددة، وعايش حال الشباب وهمومهم وأحلامهم، وما يفكّرون فيه، وما يتلهّفون إليه من إجابات لأسئلة شيطانية، لعل في طالعها، لماذا نحن هنا في المخيّم،، ولماذا نحن بلا وطن!

مروان عبد العال، ومنذ تفتّح وعيه، وتكاثر معرفته، وتجلّي قناعتِه بأهمية الثقافة، أغرق نفسه بتجربة غسان كنفاني، فجعلها الميدان الذي جرى فيه، والدرب الذي تقفّاه، والمعنى الذي أضاء قلبه، والعشق الذي ساقه إلى الآداب والفنون لتظهير الحال الفلسطينية بكلّ ما فيها، تماماً مثلما فعل غسان كنفاني، ولكن بروح جديدة، وخصوصية جديدة، أهمّ ما فيها هو التوق إلى المضايفة، وهذا شأن الكثير من المبدعين الفلسطينيين الذين كتبوا الشعر والرواية والقصة والمسرحية وزاولوا الرسم في وقت واحد، ومنهم المعلمان جبرا إبراهيم جبرا، وغسان كنفاني.

-2-

هنا، وعبر الأسطر القادمات، سأقفُ عند التجربة الروائية لـ مروان عبد العال من خلال التمثيل بقراءة روايته "60 مليون زهرة". 

 بدءاً، أقول لقد افتتح مروان عبد العال مشروعه الروائي برواية "سفر أيوب" المطبوعة بدمشق في دار كنعان 2002، وهي تتحدّث عن النكبة الفلسطينية عام 1948، والخروج الفلسطيني ومعانيه ودلالاته، والصبر الفلسطيني العميم، وفضاء المخيّم ومستجداته من جهة، وأحزانه وأحلامه المتجددة من جهة أخرى.

-3-

تنفتح رواية "60 مليون زهرة" على مشهد في زقاق فلسطيني في مخيّم من مخيّمات غزة، فتبدي لنا عازف الأكورديون الشاب وهو يمشي حاملاً آلته الموسيقية، مغادراً بيت جده في الصّباح الباكر، فيمرّ بالأسواق، ومن بين البسطات المبعثرة والعربات المحطّمة، ونسمع هدير الطائرات، وأصوات القنابل السّاقطة، ونراه وهو يدوس المنشورات الملوّنة التي ألقتها الطائرات الإسرائيلية ليلاً، ونسمعه يهمهم لاعناً الحرب التي تبدي وجه الحياة القبيح لتصير الحياة لا حياة، فالكهرباء مقطوعة، ومجاري المياه في طيش لغوب، وغزارة الأمطار راعبة، والأسواق لا شيء فيها سوى الخواء، وصوت سيارات الإسعاف يصرخ مثل طفل مفجوع، وأصوات الانفجارات تتعالى من كلّ الجهات، أمّا الموحش والظاهر والبادي والمفزع فهو الجثثُ، ودمارُ البيوت، والأشجارُ المحطمة، وتجمّعُ الناس الحيارى ونفيرُهم إلى المدارس، والمساجد، والكنائس، والمشافي طلباً للنجاة، فالحرب التي يشنّها الإسرائيليون على غزة، قلبت حياة سكانِها رأساً على عقب، وفجأة يتوقّف عازف الأكورديون، أمام بيت ما زال واقفاً تجاوره شجرة واقفة، فيخرج الأكورديون من حقيبته التي يتدرع بها، ويبدأ العزف في حضرتهما، امرأة اسمها دليلة تطلّ من شباكها فتراه يعزف، يدهشها المشهد، فترفع كفّها إلى فمها وتغطيه كطفلة مذنبة، وتهمهم: كيف هذا؟ أتعزف أيها المجنون للبيت والشجرة وسط هذا الضباب والمطر؟! فيقول لها: إنني أحييهما بتحية الصّباح، إنهما واقفان بثبات، وناجيان من كلّ هذا الخراب، ويدور حول نفسه مثل مروحة ليريها كلّ هذا الخراب!

-4-

هذه الرواية "60 مليون زهرة"، رواية عن غزة، خلال الحرب التي شنّها الإسرائيليون عليها عام 2014، فتقدّم لنا مشهدية راعبة للحرب وما تفرّخه من خراب، وموت، وقتل، وتشريد، وفقدٍ لكلّ شيء، فقدٍ للناس والبيوت، والمشافي، والمدارس، ودور العبادة، والأسواق، والأفران، فقدٍ للطعام، والماء، والدواء، والكهرباء، وفقدٍ للفرح، ثم ما يستوجبه هذا الفقد من حضور للأسئلة والخوف، والمطاردة، والمحاصرة، والدم، والمقابر، مثلما تقدّم الرواية لنا صور المقاومين وهم يتصدّون للقوات الإسرائيلية بمطلق الشجاعة والإيمان والصبر.

رواية "60 مليون زهرة" هي حالٌ مطابقة تماماً لما يحدث الآن في غزة 2023، وبكلّ ما تحتشد به من آلام ومواجع وأذيات داميات، وبكلّ ما فيها أيضاً من همجية وبربرية إسرائيليتين تدمّران كلّ شيء يساعد على الحياة، همجية تريد اعتقال الحياة، وبربرية تريد تدمير الحياة! رواية " 60 مليون زهرة" تقوم على ما يرويه رواة عديدون، يستنطقهم مروان عبد العال صمتاً كلّه كلام، بسبب الحرب، وهم: عازف الأكورديون الذي يجول من مكان إلى مكان، فيروي ما يرى عزفاً، ويواقف كلّ ما يمرّ به عزفاً، ويسمع زعيق الطائرات فيشتمها عزفاً، ثم يصمت، ليروي الجندي المجهول الذي يأتي إليه الناس، كما تأتي إليه الأخبار والأزهار، يروي بصمته سيرةَ الحرب، وسيرته، وكيف فاجأته طائرة فدمّرت المكان الذي تحصّن فيه، مثلما يروي سيرة رفاقه أيضاً، ثم يصمت، ليروي من بعده زارعو الورد فيتحدثون عن ما حلّ بحقول الورد التي داستها جنازير الدبابات مرّات ومرّات، فيجهرون بأحزانهم ودموعهم، مثلما يجهرون بأحلامهم التي انتشلوها خطفاً من بين جنازير الدبابات، وتصارخ الجنود الإسرائيليين فرحاً "أنهم يمشون في دروب تحفّ بها الورود".

 لقد كان أهل الورد وزارعوه يحلمون ببيع "60 مليون زهرة"، لكن البربرية الإسرائيلية محت أحلامهم وطوتها، فمن رواة الرواية "دليلة" المرأة التي تروي سيرتها مع شمشون، فتبدي لنا ثنائيات القوة والجمال، والبادي والمضمر، والهزيمة والظفر في مرآة حافلة بالغبش سمّتها الحياة الملعونة.

ومن رواة الرواية أيضاً، المقابر التي انتقل إليها أهل القرى والمدن والمخيّمات، إنها المكان البرزخ الدنيوي ما بين الحياة والموت، المكان الذي هو محطة وداع ودموع وأحزان وآهات وتلويح وتفجع ومناداة على المغادرين، بكلّ هؤلاء الرواة، وعبر صمتهم، نعرف ما حدث لغزة، وما يحدث لها، مثلما نعرف النور والعتمة.

 -5- 

في رواية " 60 مليون زهرة" نحن أمام مشهدية أليمة، مشهدية لها جراحها البالغة، وقصصها الخاصة، وأحزانها الجديدة، إنها مشهدية انتزاع البشر من بيوتهم انتزاعاً، وتغييبهم عن المكان بالقوة الباطشة، مشهدية لها علوق بالمسرح، مسرح تنتظم فيه صورتان، صورة للجلاد وممارساته العمياء، وصورة للضحية المتحفزة للدفع عن نفسها، وقد وعت ما ينتظرها من شرور، أمّا المتفرجون فهم الذين يحثون الجلاد على المزيد من القسوة والبطش والمطاردة والمحاصرة، كي يضحكوا قهقهة كلما أضاء جرحٌ جديد ظهر الضحية، أليس هذا ما كان يحدث في مسارح الإغريق والرومان، حين كان الناس يأتون المسارح الملحقة بالسجون، وفي مقدمتهم السيد الكبير وأعوانه ومحظياته، وقادة جنده، ليروا مبارزة ما بين وحش جائع، وسجين امتصّت السياط عافيته، وأهل الفرجة يطالبون الوحش بالإجهاز على الضحية.

 -6-

رواية "60 مليون زهرة" تُرينا، وقد أزاحت ستارة حرب 2014 على غزة، مقطعاً سردياً قصيراً مما عاشه وعاناه أهل غزة وهم يقابلون المحتل الإسرائيلي منذ 75 سنة، وذلك يتجلى عبر ثنائية راعبة في كلّ شيء، يكتبها ويبدي صورها اثنان.. الفلسطيني من جهة، والإسرائيلي من جهة أخرى، الإسرائيلي الذي يدفع بثقافة الموت أينما حلّ، والفلسطيني الذي يتفلت منها كلما استطاع. إنها الصورة بوجهيها، صورة التدمير، وصورة العمران، صورة عمرها 75 سنة، وهي ما زالت ماثلة عياناً، وصوت دليلة الصّارخ ما زال ينادي: لقد أعطيتكم سّر شمشون، أما آن الوقت كي تربطوه إلى حجر الطاحون.. ليجرّه! 

*كاتب فلسطيني مقيم في سوريا