Menu

مداخلة في إطار الاحتفال بالذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني

التحرر الوطني في عالم متغير

د. مفيد قطيش

د. مفيد قطيش

في ظل الأزمة البنيوية للرأسمالية المعولمة  تبرز الضرورة لأن تصوغ الشعوب أساليب وطرق انتقالها من هذا الواقع المأزوم، إلى الإشتراكية، آخذين بعين الاعتبار أن مسار أفول الرأسمالية سيكون أكثر دموية من مسار ولادتها وتطورها.
وبسبب التطور المتفاوت في المسار التاريخي للشعوب في إطار التشكيلة الرأسمالية فإن أساليب الانتقال هذه ستختلف من بلد إلى آخر رغم تشابه القوانين. وقد تبين أن الطريق المناسب لنا كبلدان تسودها علاقات الإنتاج الرأسمالية التبعية هو طريق التحرر الوطني. أما البديل عنه فهو الاستمرار في طريق الرأسمالية التبعية  وما ينجم عنها.
والحديث عن التحرر الوطني ليس مستجداً  بل هو متابعة لما وصلت إليه هذه العملية التي فجرّتها شعوبنا للتخلص من عوائق تقدمها وفي مقدمتها التبعية البنيوية للإمبريالية. وقد وصلت هذه العملية إلى أزمة شخصها حزبنا في مؤتمره الثاني وطور التشخيص الشهيد مهدي عامل بأنها أزمة القيادة البرجوازية لهذه الحركة وأزمة بديلها الثوري. 
ونحن نكرر مع مهدي عامل: إذا كان من الطبيعي أن تصل البرجوازية بالتحرر الوطني إلى الأزمة فليس من المنطقي وليس من طبيعة البديل الثوري أن يكون في أزمة. نختصر القول أن أزمة البديل الثوري ناجمة عن عدم تملكه لنظرية التحرر الوطني وهو ما انعكس في خطه السياسي وممارسته الفصل بين التحرر القومي والتحرر الاجتماعي.
لحل هذه الأزمة – ازمة البديل – فإننا نسعى وندعو لتملك هذه  النظرية. فغني عن التذكير أن لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. وهي النظرية الماركسية-ال لينين ية المتميزة بتميز بنيتنا الاجتماعية، من أجل صياغة برنامج نضالي لإنجازها وصياغة خط سياسي وممارسة سياسية ثورية واستبدال قيادتها بقيادة بروليتارية. وهو ما يستدعي إنتاج معرفة هذا الواقع لتحويله واستعادة تملكه واسترداده من السيطرة الإمبريالية.

تقوم السيطرة الإمبريالية على المقومات التالية:
1. باسم الرسالة التحضيرية لشعوب متخلفة تغلغل الاستعمار في بلادنا وبنى شروط سيطرته عليها:
أ. أقام بنية رأسمالية كولونيالية (تبعية)  يسودها تعدد الأنماط الاقتصادية - الاجتماعية ويسيطر عليها نمط رأسمالي تبعي. وبنى رأسمالية من أجل الإمبريالية مكبوحة التطور ومسدودة الأفق، وما زالت هذه البنية تشكل القاعدة المادية لسيطرته.
ب. أنشأ أنظمة سياسية تحمي هذه البنية بإدارة برجوازيات تابعة. تقوم بدورها على أسوأ وجه.
ج. إنشأ الكيان الصهيوني كموقع متقدم للإمبريالية في المنطقة والذي يقوم بدور وظيفي لحماية التبعية وأنظمتها والاحتماء بها.
 د. مارس تجزئة الوطن العربي وأنتج القُطْرية التي شتتت الشعوب العربية وحالت دون توحيدها. 
ه. ما زالت الإمبريالية تمارس سياسات تتراوح بين الحصار والعقوبات والاحتلال والتهديد بالعدوان.

2. على هذا النحو وُضعت شعوبنا بمواجهة السيطرة الإمبريالية لحل مسألتين أساسيتين:
أ. المسألة القومية بما هي مسألة الوحدة العربية وتحرير الأرض وفي الأساس منها فلسطين وتحرير الموارد الطبيعية والبشرية.
ب. المسألة الاقتصادية - السياسية - الاجتماعية بما هي تحرير القوى المنتجة من الإطار الذي يحاصر تطورها وتحرير البشر من الاستغلال والاستلاب والبطالة والتهميش والتهجير والاستبداد. 


تشكل المهمات المقترحة لحل هذه المسائل مضمون التحرر الوطني.

مفهوم التحرر الوطني
إن جذر المشكلة في بلادنا يكمن في التبعية والسيطرة الإمبريالية. ولا مخرج منها إلاّ بالتحرر الوطني.
والتحرر الوطني والاجتماعي هو مفهوم نظري  تتحدّد بموجبه استراتيجية حزب الطبقة العاملة، يعتمده في ممارساته الثورية من أجل تحويل نمط الإنتاج الرأسمالي التبعي وتجاوز البنية الاجتماعية الرأسمالية الكولونيالية  وقطع تبعيتها  بالتشكيلة الرأسمالية العالمية، في سيرورة انتقالها إلى الاشتراكية. 
 وهو، في الممارسة، عملية طويلة من تحويل علاقات الإنتاج من الرأسمالية التبعية إلى علاقات اشتراكية. ولذا فهو في جانب منها نضال وصراع طبقي ضد البرجوازية الكولونيالية، كما يملي منطق الرأسمالية، هو تحرر من هذه الرأسمالية وليس تحريراً لها، وهو في جانبه الآخر صراع طبقي ضد البرجوازية الإمبريالية لقطع التبعية بها كما تملي العلاقة الكولونيالية. و لهذا السبب يتخذ هذا الصراع الطبقي في بلادنا طابع الصراع الوطني.
ولأن كل مكونات البرجوازية الكولونيالية التقليدية منها والمتجددة فشلت في قيادة هذه الحركة يتولد استنتاج ضروري، منطقي وتاريخي، مفاده أن تحقيق التحرر الوطني في بلادنا لن يتمّ ما لم يستلم دفة القيادة تحالف تقوده الطبقة العاملة وأحزابها، لتحقيق ثورات ثلاث، ديمقراطية ووطنية واشتراكية.

 أزمة حركة التحرر الوطني العربية  
تتمثل أزمة حركة التحرر الوطني العربية في انزياح المجرى التاريخي لهذه الحركة عن المفهوم البروليتاري للتحرر الوطني، إذ تصدت البرجوازية الكولونيالية لقيادة هذه الحركة في مرحلة الاحتلال الاستعماري وحققت الاستقلال السياسي، وأقفلت النضال عند هذا الحد لا بل مارست الخيانة الوطنية وخاصة في قضية فلسطين. وهذا ما أنتج ردود فعل شعبية ساخطة تُرجمت بقيام فئات برجوازية صغيرة بانقلابات عسكرية لإسقاط حكم البرجوازية الكولونيالية وأقامت أنظمة تقدمية حققت العديد من الإصلاحات الاقتصادية الاجتماعية ووقفت بوجه الصهيونية والإمبريالية. لكنها لم تمس بنية علاقات الإنتاج التبعية، فمارست فصلاً مصطنعاً بين التحرر القومي والتحررر الاجتماعي، مما حول الفئة العليا منها لبرجوازية كولونيالية فأدخلت الحركة في أزمة عميقة. وما فاقم هذه الأزمة هو موقف البديل الثوري الذي مارس الفصل الخاطئ ذاته  بين التحرر القومي والتحرر الاجتماعي.
على خلفية أزمة حركة التحرر الوطني العربية وأزمة قيادتها، قفزت إلى الواجهة قوى سياسية تستظل بالفكر الإسلامي والموروث القومي كخلفية فكرية، وانخرطت في مواجهة العدو الصهيوني والتدخل الإمبريالي في بلادنا، دون أن يكون لديها مشروع تحرّري واجتماعي يختلف في الجوهر عن المشاريع التقليدية القائمة. والمقصود بذلك تيار الممانعة وهو ما يبقي الحركة في أزمتها.

تمرحل التحرر الوطني
إن الواقع التاريخي للطبقة العاملة يضع أمام الحركة الثورية مهمات معقدة ومركبة لتحقيق مسيرة التغيير. فهي تعاني من ظاهرة ضعف التفارق الطبقي وتشتّتها. ولذلك فإن التحرر الوطني لن يتحقق إلاّ عبر تمرحل الصراع الطبقي في بنيتنا الاجتماعية. قوامه تحرير الجماهير الشعبية، وبناء الحكم والدولة الوطنية الديمقراطية وتحقيق الاشتراكية. وتقضي الضرورة في مرحلة أولى بناء ميزان قوى يضغط في اتجاه تغيير السياسات الاقتصادية الاجتماعية، ويكون مُشَكَّلاً من الفئات الشعبية التي ينبغي تحريرها عبر النضال الديمقراطي العام. وهذا يؤمن الشروط للانتقال إلى مرحلة ثانية -مرحلة الحكم الوطني الديمقراطي- يتمّ فيها بناء دولة وطنية ديمقراطية تقود نوعاً من رأسمالية الدولة التي تُختزل رأسماليتها الى أدنى حد، حسب تعبير لينين، تتولّى القيام بتشييد قاعدة مادية لإصلاحات اقتصادية اجتماعية أكثر جذرية (مما في المرحلة الأولى)، كشرط لضمان الانتقال إلى المرحلة الثالثة، مرحلة تحقيق الاشتراكية. وفي جميع هذه المراحل التي تتنوّع فيها كل أشكال الصراع الطبقي، ينبغي أن يكون للتحالف الذي تقوده الطبقة العاملة دور أساسي، وتزداد أهمية هذا الدور كلّما جرى الانتقال من مرحلة إلى أخرى وكلما نجحت القوى الثورية في تغيير ميزان القوى بين طرفي التناقض الرئيسي.  

حركة تحرر وطني من نوع جديد / مقاومة عربية شاملة
بمواجهة مشروع السيطرة الإمبريالية المتمادي نطرح مشروع تحرر وطني بصيغته العلمية يخرج حركة التحرر من أزمتها ويفتح الباب أمم تطور شعوبنا وتحررها ويجسّد المصالح الحقيقية للشعوب، بما فيها "الأقليات القومية" في العالم العربي ويكسر علاقات الإنتاج التابعة ويدفع في اتجاه التغيير الجدي في بنياننا السياسي والاجتماعي. وهذا ما لن يتحقق إلا بقيام حركة تحرر وطني من طراز جديد ببرنامجها وقيادتها، وتكون قادرة من موقع ندّي على بناء تحالفات مع قوى عالمية وإقليمية. حركة تأخذ المبادرة لتحرير الوطن.
ونعتقد أن حركة تحرّر بهذه المواصفات يجب أن تُستولد من رحم مقاومة عربية شاملة تتوحّد فيها طاقات القوى اليسارية والتقدمية حول أولويتين متلازمتين ومتكاملتين، أولوية المقاومة بكل الوسائل بما فيها خصوصاً المقاومة المسلّحة ضد العدوان الصهيوني والاحتلال الأجنبي، وأولوية مواجهة نظم التبعية والقمع والاستبداد السياسي والاجتماعي التي شكّلت تاريخياً المرتكز الداخلي الفعلي لهذا العدوان. ولا بد من التأكيد أكثر من ذي قبل على مركزية القضية الفلسطينية، بكل مضامينها ومندرجاتها، كركن أساسي في عملية تجديد حركة التحرر الوطني، وصولاً إلى وضع حدّ نهائي للاحتلال الصهيوني وتحرير الأراضي العربية في لبنان و سوريا وتصفية الانتشار العسكري الإمبريالي في المنطقة العربية.