Menu

تحليلمسرح غسان كنفاني وهواجسه

عماد البيتم

مسرحيات غسان كنفاني

موقع أكاديمية دار الثقافة

عندما يجري الحديث عن المسرح السياسي فإن أسئلة عديدة تتبدى أمامنا حول علاقة المسرح بالسياسة ومدى الارتباط القائم بين العمل المسرحي والآيديولوجية السياسية. وفي هذا السياق تكاد الآراء تجمع على استحالة الفصل بين المسرح والسياسة، بمعنى استحالة الفصل بين هذا الاتجاه الإبداعي وارتباطه بأهداف التغيير في المجتمع والمفاهيم السائدة والارتقاء بما هو قائم وفاسد نحو عوالم جديدة.
ولكن هل يعني ارتباط المسرح بضرورات التغيير هذه كافياً، لنقول إن المسرح سياسياً بالضرورة؟ أو أن السياسة ظلت وعلى مرّ العصور سمة ملازمة للمسرح؟
علاقة المسرح بالتغيير والمجتمع علاقة محورية وأساسية، إلا أن أوجه هذه العلاقة لم تتضح ولم تظهر بصورتها الجلية على مستوى الدراسات التاريخية والنقدية إلا منذ عشرينات القرن المنصرم، حيث ساهمت المتغيرات والأحداث السياسية العالمية في ظهور العديد من البحوث والنظريات حول إمكانية دراسة المجتمع من خلال المسرح والظروف الاقتصادية القائمة وحتى السابقة. ودراسة المسرح عبر القضايا الثقافية والتحولات الاجتماعية.

يذكر الأستاذ عدنان أبو عمشة في بحث عن المسرح العربي الفلسطيني، أنه رغم عدم تشجيع سلطات الانتداب للمسرح الفلسطيني المحلي، وتفضيلها المسرحيات المترجمة إلى العربية من المسرح العالمي، فإن هذا لم يمنع قيام كتاب مسرحيين فلسطينيين قدموا عدداً من المسرحيات، طبع منه القليل وبخاصة ما كتبه "نصري الجوزي" و "جميل بحري".
ولم يكد المسرح الفلسطيني يبدأ حتى وُوجِهَ بالصدمة العنيفة، ألا وهي صدمة استلاب فلسطين، وضياع الأرض والوطن.
قبل نكبة 1948 كان عدد الفرق المسرحية في القدس وحدها يفوق الثلاثين فرقة مسرحية، ولكنها كانت فرق ضعيفة في معظمها، ورغم ذلك كان هناك أيضاً كتاب غزيرو الإنتاج مثل جميل حبيب بحري الذي كتب حوالي اثنتي عشر مسرحية منها "الوطن" المحبوس" في العام 1923 و"الخائن" في العام 1924. وأيضاً الكاتب نصري الجوزي الذي كتب حوالي إحدى عشر مسرحية منها "العدل أساس الملك" و"الدنيا أم" .
 وهناك أيضاً كتاب آخرون، منهم برهان الدين العبوشي، محمد حسن علاء الدين، محي الدين الحاج عيسى الصفدي، اسمى طوبي، الأب أسطفان سالم، نجوى قعوار فرح، الأخوين شفيق ووديع ترزي وآخرون ذكرهم نصري الجوزي في كتابه "تاريخ المسرح الفلسطيني 1918 -1948"

مع قيام الثورة الفلسطينية المعاصر، تطلع الثوار إلى إعادة النشاطات الثقافية والفنية التي أُهدرت طوال سنين النكبة. فقامت بمبادرة من حركة التحرير الوطني الفلسطيني / فتح "جمعية المسرح العربي الفلسطيني" وذلك عام 1966، ومن أهدافها التوعية للقضية الفلسطينية، عرض تجارب الثورة النضالية على المسرح، وإحياء التراث الثقافي الفلسطيني.


مسرح غسان كنفاني
القليلون جداً يعرفون أن غسان كنفاني كتب مسرحيات، إضافة إلى كتاباته الأخرى. وليس ذلك غريباً. فهو لم ينشر منها _ والكاملة منها ثلاث _  إلا واحدة في أثناء حياته، وهي مسرحية "الباب" عام 1964. والثانية هي مسرحية "القبعة والنبي" وقد نشرت عام 1973 بعد استشهاده. أما "جسر إلى الأبد" فهي تمثيلية إذاعية كتبها لإحدى الإذاعات العربية لتذاع في حلقات. ولكنها لم تذع حسب ما كان مقرراً لها.
لهذه المسرحيات الثلاث أهميتها الخاصة، لأنها دليل آخر على النشاط الفكري العارم، القلق المضطرب، الذي تمزيت به حياة غسان كنفاني.
يقول جبرا ابراهيم جبرا في كتابه "هواجس النقيدين في مسرحيات غسان كنفاني" أن غسان لم يكن يستطيع التوقف عن الكتابة لحظة واحدة في السنين الخمس عشرة الأخيرة من حياته، إذ كان عليه أن يحقق تكامله النفسي كفلسطيني أولاً ثم كأديب معاصر ثانياً، وأخيراً كسياسي فاعل.
وهكذا كانت القصة وكانت الرواية وكانت المقالة الفكرية وكانت الدراسة وكان التحقيق الصحفي وكانت الصرخة السياسية، وأخيراً كانت المسرحية التي يُلَطِّف بها جميعاً ذلك الاحتدام العاطفي الذي بقي مشغولاً في نفسه باستمرار ليؤكد على هويته كفلسطيني وكأديب وكسياسي، ويجمع فيما بينها برابط من التفكير المتصل.
أول ما يُلفت النظر في هذه المسرحيات أنها لا تذكر فلسطين لا من قريب ولا من بعيد، ولا تذكر حتى اسماً لموقع أو مكان ما في فلسطين، وذلك على عكس ما كتب من قصص وروايات، حيث الإشارات الفلسطينية دائمة صريحة وكثيفة. غير أن المنطوى الفلسطيني قائم بقوة في مسرحياته من البداية حتى النهاية، على نحو رمزي أحياناً، وتجريدي أحياناً أخرى، والوحي الفلسطيني هو الوحي اللحوح سواء أُبرزت المعاني أم أُخفيت.
غير أن التجربة العالية التي كانت تعصف دائماً بمخيلته كانت تقرر أيضاً اتجاه هواجسه حتى في أشكاله التجريدية. وهذا ما يميز مسرحيتي "الباب" والقبعة والنبي". نلاحظ أنهما شخصيتان جداً ولهما علاقة به، وفي الوقت عينه نراهما فلسطينيتان جداً، وهما تختلفان عن رواياته وقصصه في إنهما تمثلان محصلة للقويتين الفاعلتين في نفسه إحداهما واقعية، والأخرى مطلقة، وهي محصلة تجعل لغسان كنفاني في النهاية صوتاً هو من أهم أصوات العصر، وذلك بشموليته الرائعة والقلقة معاً، شمولية العذاب وشمولية تخطي العذاب نحو أفق مجهول.