بعد اقتراب الحرب من شهرها العاشر، لم يعد خفياً أن الرهان الرئيسي لهذه الحرب على تهجير الفلسطينيين قد تراجع نسبياً بفعل الصمود الشعبي، وبات الهدف الرئيسي للعدو هو فرض الوصاية الشاملة على الفلسطينيين وشطب قضيتهم وحقوقهم بل وتقويض وجودهم بحد ذاته عبر هذه الوصاية، وهو ما يتطلب عمل فلسطيني موحد لتفكيك هذا الهدف وإغلاق الأبواب أمام رهانات المحتل، وقبل ذلك الوفاء لدماء الشهداء وعذابات الشعب الأبي الصامد في غزة البطولة.
لم يمثل إعلان الصين نهاية للانقسام الفلسطيني ولم يوقف حرب الإبادة، لكن وجه الأهمية في هذا الإعلان هو كونه تتويج لجهد فلسطيني محض قاده مؤمنون برؤية واضحة تتركز حول اعتبار توحيد الموقف الفلسطيني العنصر الأساسي في استراتيجية لوقف حرب الإبادة وانتزاع ما يمكن انتزاعه لشعبنا من مخالف عالم تكالبت أطرافه لسحق شعبنا وتصفية قضيته.
وليس سراً أن هذه الجهود بدأت منذ الأيام الأولى لحرب الإبادة، وقد شملت لقاءات عدة جمعت نائب الأمين العام للجبهة الشعبية جميل مزهر والشهيد صالح العاروري وقيادات وطنية أخرى من مجمل فصائل العمل الوطني، أثمرت في إنتاج توافق رؤية وطنية لمواجهة حرب الإبادة قدمتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحظيت بتوافق واسع من قبل معظم الفصائل، وقوى العمل الوطني. كان محور هذه اللقاءات هو ضرورة تفعيل موقف فلسطيني موحد يمثل عاملاً رئيسياً في وقف حرب الإبادة، ولم يكن هدر كل هذه الشهور التي دفع فيها شعبنا أثماناً دموية يتعلق باختلاف حول ما يراه الجميع ضرورة وطنية ووجودية، ولكن بمماطلات ورهانات عبثية لا معنى لها على وعود أميركية كاذبة غذّتها أطراف إقليمية ودولية، وكل ذلك على حساب ضرورة الانحياز لشعبنا وخياراته ودمه المسفوك.
ما أظهرته حرب الإبادة، والأداء السياسي الرسمي، بوضوح هو دور العجز السياسي الفلسطيني في مفاقمة أعباء هذه الحرب، بل وزيادة المخاطر على شعبنا وقضيتنا، حيث ترتكز رهانات العدو على إمكانية فرض وصاية احتلالية مباشرة أو دولية على الفلسطينيين، وشطب تمثيلهم السياسي بشكل نهائي، وتنصيب منظومة حكم عميلة تعمل بأمر الاحتلال عبر نافذة إدارة غزة ضمن منظومة دولية، وهو ما يتلاقى مع إنهاء الوجود السياسي الفلسطيني في الضفة والعمل على الضم الشامل لمعظم مناطقها.
لا جدل في أن الحاجة للوحدة الوطنية لم تكن طارئة بفعل حرب الإبادة، ولكن المؤكد بوضوح أن تلك المقاربات السابقة للعمل السياسي الفلسطيني لم تعد صالحة في ظل هذه المواجهة المفصلية.
فمنذ بداية محاولات المصالحة الفلسطينية تركزت جولاتها وتفاهماتها السابقة حول ملف السلطة الفلسطينية، ورغم وجود بنود في كل اتفاقات المصالحة تتعلق بمنظمة التحرير والرؤية السياسية إلا أن المسار العام تعامل مع كل ما هو خارج ملف السلطة والحكم باعتباره هوامش.
في هذه المرحلة، إن مقاربة المهمات الوطنية باعتبارها ترتيبات حكم باتت أمر لا معنى له، فالمطلوب هو قيادة وطنية لمعركة لأجل الوجود، ودعم حقيقي لصمود شعبنا، وتفكيك أي رهانات على إمكانية نجاح الحرب في فرض الوصاية أو اجتذاب فريق فلسطيني للعب دور في خدمة رؤية المحتل لمشروع الوصاية.
نقف اليوم أمام منعطف هام أول خياراته هو استمرار العجز السياسي والإطاحة بما أنتجه لقاء بكين، والاستسلام للتطمينات الأميركية الكاذبة الموجهة للنظام السياسي الفلسطيني الرسمي، ما سيفضي إلى فرض المشروع الاحتلالي بكل ما يعنيه، الخيار الآخر هو الانحياز لشعبنا وخياراته ودمه المسفوك ونضاله وإرادته الحرة، واشتقاق مسار وحدوي لهزيمة العدوان والمضي في مسار انتزاع الحقوق استناداً لحق شعبنا في الحرية والدولة وتقرير المصير وعودة اللاجئين.
لا ينتظر شعبنا بياناً آخر أو مراسيم رئاسية، ولكن إجراءات حقيقية تنقل هذا التوافق الوطني لحيز التنفيذ وتشكل قيادة طوارئ وطنية تشرع بشكل فوري في دورها ضمن معركة المصير والوجود الوطني الفلسطيني، وهذه المهمة لا يمكن تركها رهناً لمزاج أي من الأطراف، بل هي واجب وطني يتطلب ممن حمل هذا الهم منذ الأيام الأولى للحرب، مصارحة شعبنا بما هو مطلوب وأيضاً بأي تعطيل لهذا المسار ومن يقف وراء هذا التعطيل، فدماء عشرات الآلاف من الشهداء هي الحكم والفيصل، وآلام شعبنا ومعاناته هي الشاهد على كل قادة شعبنا أي كانت مواقعهم أو مناصبهم.