في خضم الصراعات الإقليمية والدولية، تعيش منطقة الشرق الأوسط حالة من الغليان المستمر. فاغتيال شخصية بحجم إسماعيل هنية ، القائد البارز في حركة حماس، لم يكن حدثاً عابراً، بل هو خطوة استراتيجية تعيد تشكيل الخريطة السياسية في المنطقة. يعتبر هذا الاغتيال جزءاً من لعبة كبرى تحاول فيها دولة الاحتلال استعادة هيبة الردع والتأثير على مسار الأحداث الإقليمية، خاصة فيما يتعلق بإيران التي تجد نفسها في مأزق جديد نتيجة تحركاتها وأفعالها.
اغتيال هنية يحمل في طياته رسائل متعددة. أولاً، يظهر قوة الردع لدولة الاحتلال وقدرتها على تنفيذ عمليات نوعية تستهدف القادة البارزين في الفصائل الفلسطينية. هذا يعيد الهيبة المفقودة لدولة الاحتلال بعد سلسلة من الانتكاسات العسكرية والسياسية، ويساهم في تعزيز صورة الجيش الإسرائيلي كقوة لا يستهان بها في المنطقة. ثانياً، يمثل هذا الاغتيال رسالة لإيران وحلفائها في المنطقة، مفادها أن اليد الإسرائيلية طويلة ويمكنها الوصول إلى أي مكان وزمان. وهذا ما يضع إيران في موقف حرج، حيث يتوجب عليها إعادة حساباتها في دعم الفصائل المسلحة وتحديد أولوياتها الاستراتيجية في المنطقة.
إيران تدرك جيداً أن معركتها المباشرة مع دولة الاحتلال قد تكون مكلفة وغير مجدية. لذا، لطالما فضلت طهران التعاون مع جبهات الإسناد في المنطقة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية دون الانجرار إلى مواجهة مباشرة. لكن التطورات الأخيرة، خاصة بعد اغتيال هنية، تجعل هذه الحسابات أكثر تعقيداً. إيران تجد نفسها اليوم أمام تحديات جديدة تتطلب منها إعادة النظر في استراتيجيتها. من جهة، يجب عليها مواصلة دعمها لحلفائها دون أن تتعرض لضربات موجعة من دولة الاحتلال. ومن جهة أخرى، تحتاج إلى الحفاظ على توازن القوى في المنطقة وعدم السماح لدولة الاحتلال بإعادة تشكيل المسرح الإقليمي وفقاً لمصالحها فقط.
في هذا السياق، قد تجد إيران نفسها مضطرة للبحث عن صفقات وتفاهمات جديدة مع القوى الإقليمية والدولية. فالظروف الراهنة تفرض على طهران تبني سياسات أكثر واقعية وبراغماتية للحفاظ على مصالحها وتجنب الدخول في مواجهات مكلفة قد تضعفها أكثر. لكن في نفس الوقت، لا يمكن لإيران التخلي عن دعمها للمقاومة الفلسطينية والفصائل المسلحة في لبنان و سوريا والعراق. فالانسحاب من هذه المعارك يعني تراجع نفوذها في المنطقة وفقدان أوراق ضغط مهمة تستخدمها في مفاوضاتها مع الغرب والدول العربية.
المشهد الحالي في المنطقة يعكس تعقيداً كبيراً في العلاقات الإقليمية والدولية، مع تصاعد التوترات بين دولة الاحتلال وجبهات المقاومة، وتزايد التدخلات الدولية. تحليل تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ومواقف الأطراف المختلفة يساعد في فهم السيناريوهات المحتملة القادمة.تصريحات لافروف حول عدم الانجرار إلى حرب واسعة تدل على أن روسيا تفضل الحفاظ على استقرار نسبي في المنطقة وتجنب تصعيد قد يؤدي إلى صراع شامل. هذا يعكس السياسة الروسية التقليدية التي تسعى للحفاظ على نفوذها في الشرق الأوسط من خلال إدارة الصراعات بدلاً من تأجيجها. على الجانب الآخر، وجود أكثر من 12 سفينة حربية أمريكية قرب الساحل اللبناني والمياه الإقليمية الإيرانية يشير إلى استعداد الولايات المتحدة لتقديم دعم قوي لدولة الاحتلال والضغط على إيران وحلفائها.
هذا الحشد يعكس سياسة الردع الأمريكية ومحاولة السيطرة على الأوضاع من خلال إبراز القوة العسكرية.دولة الاحتلال تواصل سياساتها التصعيدية ضد جبهات المقاومة، مما يزيد من احتمالات حدوث مواجهات محدودة أو عمليات اغتيال واستهدافات نوعية. في هذا السياق، يمكن تصور عدد من السيناريوهات المحتملة القادمة. أولاً، من المحتمل أن تستمر الأطراف في عمليات استنزاف محدودة، حيث تقوم دولة الاحتلال بتنفيذ عمليات اغتيال وهجمات دقيقة ضد مواقع المقاومة، فيما ترد المقاومة بعمليات نوعية ضد أهداف إسرائيلية.
هذا السيناريو يهدف إلى تجنب حرب شاملة مع الحفاظ على الضغط المستمر.ثانياً، التدخلات الدبلوماسية قد تتزايد، حيث تسعى الدول الكبرى مثل روسيا والولايات المتحدة لتهدئة الوضع من خلال المفاوضات والضغوط السياسية. قد يتم التوصل إلى هدنة مؤقتة أو اتفاقيات تهدئة لخفض التوترات. ثالثاً، السيطرة على البحر المتوسط ستكون محوراً رئيسياً في التوترات القادمة. وجود السفن الحربية الأمريكية يظهر استعداداً لفرض السيطرة البحرية والرد على أي تحركات عدائية. من جهة أخرى، قد تسعى روسيا إلى تعزيز وجودها البحري في المنطقة لدعم حلفائها. رابعاً، الدول المجاورة مثل مصر والأردن والسعودية قد تلعب دوراً في الضغط على الأطراف للتهدئة وتجنب التصعيد. هذه الدول تسعى للحفاظ على استقرارها الداخلي وتجنب تأثيرات سلبية من حرب إقليمية.
من المرجح أن يستمر الوضع في حالة من التوتر العالي مع احتمالات تصعيد محدودة ومدروسة من قبل جميع الأطراف. التدخلات الدولية ستلعب دوراً كبيراً في منع حدوث حرب شاملة، ولكن ستبقى حالة إدارة الصراع وحرب الاستنزاف قائمة. التركيز سيكون على السيطرة على النقاط الاستراتيجية مثل البحر المتوسط والمواقع الحدودية، مع استمرار الجهود الدبلوماسية لخفض التوترات وتجنب الانزلاق إلى صراع مفتوح.
إعادة تشكيل الخريطة الإقليمية بعد اغتيال هنية لا تعني بالضرورة نهاية الصراع أو حسمه لصالح طرف دون آخر. بل إن هذه الخطوة تمثل فصلاً جديداً في تاريخ الصراع الإقليمي، حيث يسعى كل طرف لتعزيز مواقعه واستغلال الفرص المتاحة لتحقيق أهدافه.
في هذا السياق، تبقى إيران لاعباً رئيسياً في المنطقة، رغم التحديات والمآزق التي تواجهها. وقدرتها على المناورة والبحث عن صفقات جديدة ستحدد بشكل كبير مستقبل الصراع وتشكيل المسرح الإقليمي في السنوات القادمة.