Menu

تحليل"حرب الخرائط: استخدام المناطق الآمنة كسلاح نفسي في غزة"

بيسان عدوان

خريطة جديدة لإخلاء بعض بلوكات في دير البلح والوسطي

يعتمد جيش الاحتلال الإسرائيلي على إستراتيجية قديمة تتجاوز مجرد العمليات العسكرية، ليغوص في عمق الحرب النفسية من خلال التلاعب بالسكان المدنيين في غزة وفي العالم. واحدة من أدوات هذه الإستراتيجية هي إصدار خرائط تصف بعض المناطق بأنها "آمنة" أو "ملائمة" للسكان المدنيين، في حين تصنف مناطق أخرى بأنها "غير آمنة". هذه الخرائط، التي تأتي مصحوبة بتعليمات لإخلاء مناطق محددة، تستهدف تحقيق أهداف متعددة، منها نشر الرعب والارتباك بين صفوف المدنيين، وتبرير الهجمات العسكرية المستمرة، إضافة إلى تشكيل رواية تُصدّر للعالم تبرر الجرائم المرتكبة تحت ذريعة "حماية المدنيين"

تظهر الخرائط المرفقة التي نشرها جيش الاحتلال الإسرائيلي استخدامه لمصطلحات مثل "المناطق الإنسانية الملاءمة" و"المناطق غير الإنسانية" لتحديد مناطق في قطاع غزة يُزعم أنها آمنة وغير آمنة للسكان المدنيين. من خلال استعراض هذه الخرائط، يمكن ملاحظة تلاعب واضح بالمفاهيم والحقائق على الأرض، وهو ما يعكس نهجًا ممنهجًا لدى الاحتلال في إدارة الصراع الإعلامي والسياسي بالتوازي مع العمليات العسكرية.

في الخريطة الأولى التي تظهر مناطق قطاع غزة، تم تمييز المناطق باللون الأصفر باعتبارها "ملائمة إنسانياً". هذه المناطق تشمل بشكل أساسي أجزاء من شمال قطاع غزة. بالمقابل، المناطق التي لم تعد "جزءًا من المنطقة الإنسانية" محددة بخطوط مظللة، وهي أجزاء من جنوب المنطقة المحددة باللون الأصفر. يظهر في الخريطة اسم "طريق صلاح الدين"، وهو طريق رئيسي يمر عبر القطاع من الشمال إلى الجنوب، وهذا الطريق يعدُّ خطًا استراتيجيًا هامًا يفصل بين مناطق القطاع.

في الخريطة الثانية، يوضح الاحتلال تبريراته لاستبعاد بعض البلوكات (مثل بلوك 89، و2356) من المنطقة الإنسانية المحددة. وفقًا لهذه الخريطة، يدعي جيش الاحتلال أن هذه المناطق قد تم استغلالها لإطلاق الصواريخ من قبل المقاومة الفلسطينية، وبالتالي لم تعد "آمنة". يتم تحذير السكان بضرورة إخلاء هذه المناطق فورًا، وإلا فإنهم سيكونون عرضة للاستهداف العسكري. 

هذه الخرائط تحمل في طياتها العديد من الرسائل الخطيرة، أولاً، تصنيف مناطق بأكملها بأنها غير ملائمة أو غير آمنة يُعد تمهيدًا لتصعيد عسكري واسع في تلك المناطق، حيث يُعتبر أن السكان فيها قد تلقوا تحذيرًا مسبقًا. ثانيًا، استخدام مصطلحات مثل "المنطقة الإنسانية" و"المنطقة غير الإنسانية" هو نوع من الهندسة اللغوية التي تهدف إلى منح الشرعية الدولية لأي عملية عسكرية قادمة ضد تلك المناطق. ثالثًا، تحاول إسرائيل من خلال هذه الخرائط إبراز نفسها ككيان إنساني يحافظ على أرواح المدنيين، بينما في الواقع تستخدم هذه الخرائط لتبرير الهجمات الواسعة والعشوائية على المدنيين.

من الواضح أن هذه الخرائط ليست سوى جزء من الحرب النفسية التي يمارسها الاحتلال، حيث يتم تصوير المناطق على أنها مساحات محايدة يمكن للسكان الهروب إليها، بينما في الواقع هي مجرد أدوات لتبرير العنف المستمر ضد الشعب الفلسطيني. 

يعتبر هذا النوع من الخرائط والمصطلحات المتلاعبة جزءًا من استراتيجية أوسع للتضليل والإخفاء. تهدف هذه الخرائط إلى تقديم الاحتلال ككيان "حريص على حماية المدنيين" بينما يستمر في ممارسة سياسة التهجير والقتل. يجب على المتابعين والباحثين دائمًا النظر في هذه الخرائط ضمن سياقها الكامل: جزء من حرب إعلامية تهدف إلى تقويض حقائق الوضع على الأرض وتبرير العنف الممنهج ضد الفلسطينيين.

من الناحية القانونية، تتعارض هذه الممارسات بشكل صارخ مع أحكام القانون الدولي الإنساني، لا سيما اتفاقيات جنيف الأربعة التي تفرض حماية المدنيين في النزاعات المسلحة. وينص البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 على ضرورة تمييز الأطراف المتحاربة بين المدنيين والمقاتلين، وبين الأهداف المدنية والعسكرية، وأن تكون حماية المدنيين الأولوية القصوى. إن إصدار خرائط تحدد مناطق "آمنة" هو في حد ذاته إقرار ضمني بأن المناطق الأخرى ليست آمنة، مما يُعرض حياة المدنيين للخطر ويدفعهم إلى نزوح قسري تحت التهديد، وهو ما يعد انتهاكًا صريحًا للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر التهجير القسري للمدنيين.

من المهم أن ندرك أن هذه الخرائط ليست مجرد أدوات ميدانية، بل هي جزء من حرب نفسية مُمنهجة تهدف إلى زعزعة ثقة السكان الفلسطينيين في أي منطقة قد يجدونها آمنة، وتقويض معنوياتهم واستقرارهم. كما أن هذا التلاعب ينعكس على العالم الخارجي، حيث تُستخدم هذه المعلومات لإضعاف الدعم الدولي للقضية الفلسطينية من خلال نشر الشكوك حول مدى مصداقية الشكاوى الفلسطينية من الهجمات الإسرائيلية.إن استمرار استخدام هذه الخرائط من قبل جيش الاحتلال، يعكس استهتارًا بالقانون الدولي وتجاهلاً متعمدًا للأعراف الإنسانية.

يجب على المجتمع الدولي أن يدرك أن مثل هذه الممارسات لا تهدف إلى حماية المدنيين، بل إلى تسهيل العمليات العسكرية على حساب حياة الأبرياء، وتبرير التهجير القسري والنزوح. لذا، فإن الرد الدولي يجب أن يكون حازمًا وصارمًا، من خلال محاسبة إسرائيل على هذه الانتهاكات والمطالبة بحماية حقيقية للمدنيين في غزة وفقًا للقانون الدولي.