في ظل الصراع المستمر بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، تتصاعد أهمية الاستراتيجيات المتبعة من قبل الفصائل الفلسطينية لمواجهة العدوان الإسرائيلي، وتشكل "حرب الاستنزاف" إحدى الأدوات الرئيسية في هذه المعركة، حيث يعتمد الفلسطينيون على إضعاف العدو بشكل تدريجي، مستنزفين موارده وقدراته العسكرية والاقتصادية.
في هذا السياق، تُعد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من أبرز الفصائل التي تتبنى هذه الاستراتيجية، واضعة نصب أعينها مبدأ الصمود والمقاومة المستمرة.
في حوار أجرته بوابة الهدف الإخبارية الحصري مع أحد قادة الجبهة الشعبية الرفيق والأديب مروان عبد العال عضو المكتب السياسي، نستعرض معه كيف ترى الجبهة دور "حرب الاستنزاف" في مواجهة الاحتلال، و نلقي الضوء أيضًا على مدى الاعتماد على الحلفاء الإقليميين والدوليين لدعم المقاومة، ودور الجبهة في توحيد الصف الفلسطيني في مواجهة التحديات الراهنة.
"نحاول فهم رؤية الجبهة الشعبية حول مستقبل الصراع والتحولات المتوقعة في ظل تصاعد المقاومة والتحديات الداخلية والإقليمية"
- كيف ترى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين دور "حرب الاستنزاف" كاستراتيجية أساسية في مواجهة العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة ولبنان؟
مروان عبد العال: لا يوجد استراتيجية أساسية وأخرى ثانوية، يوجد استراتيجية شاملة، فأما أن تكون شاملة أو لا تكون، وشموليتها تعني إنها متعددة الأشكال والوسائل وتبعاً للظروف، فأحيانا كثيرة طبيعة الحرب تفرض شروطها والشكل المناسب.
تتضمن الاستراتيجية المباشرة في النموذج الحربي في عملية تسمى "أخذ الثور من قرنيه"، أي الاشتباك المباشر، كذلك تسمى بـ"الضربة القاضية"
يستطرد عبد العال" تتصف هذه الاستراتيجية بالهجوم للقضاء على الخصم، وعلى ترتيباته وعلى إعداده الهجومي والدفاعي بسرعة بواسطة المعركة. "الاستراتيجيات متعددة ولكنها متكاملة ولكل مرحلة أسلوبها وحربها، مثل "حرب الأنصار"، وهي حرب تقوم على اكتساب دعم الشعب، أو "حرب الـ1000 جرح" أو "البرغوث والكلب" وهي أنواع حروب تقوم على فكرة الاستنزاف الطويل لعدو قوي من قبل طرف ضعيف، وأخيرا استراتيجية "حرب الغوار" تقوم على المغاوير الأشداء".
وأعقب عضو المكتب السياسي عبد العال: "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قدمت في استراتيجيتها السياسية والتنظيمية عام 1969 رؤيتها وفلسفتها للحرب، وأكدت أن الشعب الفلسطيني في مسيرته التحررية لاسترداد أرضه وحريته يواجه المعسكر المعادي الإمبريالي الصهيوني الرجعي الموحد، والمتفوق تكنولوجيًا، والبارع في صناعة الثورات وإجهاضها، وأن حرب حزيران 1967 وما سبقها وما تلاها، إنما هي في الواقع تجسيدا لذلك كله، لذلك طرحت السؤال الجوهري: كيف تواجه الشعوب الضعيفة تفوق الإمبريالية التكنولوجي؟!
ويجيب عبد العال: "ستكون الإجابة أن الجبهة خلصت إلى أن الحروب الكلاسيكية بواسطة مواجهة الجيوش النظامية مع جيش العدوان الإسرائيلي، ستكون قادرة على ربح هذه الحروب، هناك المستوى التكنولوجي والتفوق العلمي لتسيير آلة الحرب الحديثة، وكذلك فأن الولايات المتحدة بقوتها وإمكانياتها ستكون في الميدان، هنا أفصحت الجبهة في حينها عن استراتيجيتها في المواجهة في وثيقتها بأن الطريق هو أسلحة الشعوب الضعيفة في مواجهة العدو المتفوق تكنولوجيا وعسكريا، وأن تكون الاستراتيجية هي حرب العصابات وحرب التحرير الشعبية".
عبد العال: الجبهة ترى أن مباديء حرب العصابات هو تجنب المواجهة المباشرة مع العدو بل عن طريق مواجهته عن طريق ضرب نقاط ضعفه، والانسحاب السريع، وتجنب الصدام، وأن ميزة هذه الحرب هو استنزاف العدو، والتراكم للانتصارات الصغيرة والتكتيكية والتدرج في تغيير ميزان القِوَى، ومزيد من إنهاك العدو ومراكمة عناصر القوة الشعبية للوصول إلى حرب التحرير الشعبية".
ويكمل عبد العال: "أما الاستراتيجية غير المباشرة تسمى "الفوز بالنقاط والاستنزاف" وهي تتصف بـ"النفس الطويل"، فهي استراتيجية بعيدة المدى، والتراكم والطموح أساسيان في هذه الاستراتيجية، وتعتمد على إخلال توازن وزعزعة وإزعاج الخصم وتفتيته مادياً ومعنوياً والاقتراب من الخصم من اتجاهات لا يتوقعها قبل الإجهاز عليه إجهازاً تاماً".
تتضمن الاستراتيجية المباشرة في النموذج الحربي على أخذ الثور من قرنيه أي الاشتباك المباشر، وتسمى بـ"الضربة القاضية"، وهي تتصف بالهجوم للقضاء على الخصم وعلى ترتيبات الخصم وعلى إعداد الخصم الهجومي والدفاعي بسرعة بواسطة المعركة."
ينهي عبد العال: "انطلاقاً من مقولة أن "الحرب تعلم الحرب"، فإن التجارب التحررية ضد الاستعمار هي مدرسة للشعوب المكافحة في سبيل الحرية، علماً ان الذي يفرض هذا الشكل أو ذاك، هو طبيعة الصراع نفسه، كصراع تناحري مع احتلال استئصالي يقوم وجوده على نفي وجود الشعب الفلسطيني، وهو امتداد استعماري للإمبريالية ويستمد كامل قوته منها، لذلك الجبهة الشعبية منذ انطلاقتها أجابت في استراتيجيتها عن سؤال جوهري: كيف تنتصر الشعوب الفقيرة والمضطهدة على جبروت الإمبريالية العالمية، والتي مهما بلغت عظمتها وطغيانها لكن بالإمكان هزيمتها".
- هل هناك اختلاف بين الاستنزاف الذي تخوضه المقاومة الآن وبين ما حدث في معركة الكرامة عام 1970؟ وما هي دروس الجبهة الشعبية المستخلصة من تلك التجارب السابقة؟
عبد العال: "إن نموذج معركة الكرامة أكد صحة أنه بإمكان القوة الصغيرة المسلحة بتسليح عادي أن تتفوق على قوة نظامية مدرعة ومسلحة بالأسلحة الحديثة وتصيبها في مقتل، لذلك تنبه العدو الصهيوني لحالة الصعود الفلسطيني المقاوم في الأردن، وتلمس التهديد الاستراتيجي الناجم أن شن حرب استنزاف على أطول جبهة عربية مع فلسطين، لذلك استنفذ كل طاقته الاستراتيجية والتكنولوجية الحديثة، لكنه عبور النهر وإحباط العمليات، ثم الاستعانة بحلفائها الامبريالين والرجعين لتغيير هذا الواقع، من خلال شن استنزاف مضاد للمقاومة".
ويكمل عضو المكتب السياسي: "الاستنزاف المضاد الذي شنه العدو أدى إلى تغيير الواقع كلياً، والجبهة الشعبية أخضعت هذة التجربة للجدل والنقاش بالمراجعة، ومارست نقداً علنياً لهذه التجربة في مؤتمرها الرابع، وكان أهم الدروس المستخلصة من هذه التجارب
أن حرب الاستنزاف وبما فيها الحرب العصابية في الداخل، تحتاج إلى "قاعدة ارتكاز آمنة"، كانت توجز ذلك بوجود "هانوي عربية"، تشكل سنداً ودعماً وحماية للمقاومة، وثم عدم الانغماس بسلبيات البيروقراطية العسكرية والتجييش، المناقض تماماً لحرب الشعب.
إن المقاومة ليس مجرد شعارات بل تحتاج إلى أطر استراتيجية وقيادة ورؤية شاملة والأهم بنية المقاومة".
- كيف تقيمون الأثر الذي يمكن أن تحدثه "حرب الاستنزاف" على الاقتصاد الإسرائيلي والمجتمع الإسرائيلي في ظل الأزمات الداخلية المتفاقمة؟
مروان عبد العال: الاستزاف يعني ألا تدع عدوك يرتاح، وأن يتحول إلى كائن طبيعي مقبول في المنطقة، وإن ثمن العيش معه ستمكن المنطقة من الاستقرار والازدهار، والمحمولة على استراتيجيات التطبيع، التي طرحت منذ زمن على دمج (العبقرية اليهودية والمال العربي) كغطاء لتبعية المنطقة والسيطرة على مقدراتها ومستقبلها.
لذلك كلما استمر الاشتباك المجتمعي والتاريخي معه، بشتى الوسائل، كي يدفع العدو كلفة الاحتلال، سيكون تأثيره على وظيفة الكيان، كونه يشكل أكبر استثمار رأسمالي في المنطقة، وهو اليوم ليست مجرّد مستوطنة يهودية، بل هي أداةٌ فاعلةٌ وطائلةٌ في المنظومة النيوليبرالية التي تعيث خرابًا في اقتصاد العالم، والتحولات في التجمع الاستيطاني الإسرائيلي والصراع على هوية الدولة، والتناقضات داخل الكيان تستند إلى عملية توسع القطاعات الاجتماعية المشاركة في القوة السياسية، والتي تحدث بالتزامن مع تعمق السيطرة الكولونيالية، لذلك هناك من يعمل على "حسم الصراع" في فلسطين ليتمكن من "حسم الهوية" في "إسرائيل" ثم لحسم الصراع في المنطقة.
عبد العال: هذه المعادلة التي تطرح بقوة جدوى المقاومة العربية الشاملة والمستمرة، وفرصة لقوى التحرر العربي بتحويل المعركة الدائرة للتأثير على الكيان وتحالفاته، إن وظيفة المواجهة هي استنزاف العدو سياسيا واقتصادياً بضرب مشاريعه الاستثمارية العالمية وهز الثقة فيه، وهذا حسب استراتيجية "القوة الناعمة"، المقاومة غير المباشرة أو المقاومة بالحيلة؛ لضمان مشاركة أفقية فيها، والتي تبدأ بالمقاطعة وسحب الاستثمارات وغيرها ولكن على المستوى الإنساني وفي نفس الوقت ضد منظومة رأس المال العالمي، المتجسدة اليوم بالنظام الامبريالي العالمي في المنطقة والعالم".
- إلى أي مدى يمكن الاعتماد على دعم دولي، سواء من الدول العربية أو من حلفاء تاريخيين مثل إيران أو حزب الله، لضمان استمرار المقاومة في مواجهة الحصار الإسرائيلي؟
عضو المكتب السياسي مروان عبد العال: إن فلسفة الجبهة الشعبية ونهجها الثوري وتجربة الثورة الفلسطينية تقوم على تحديد قوى الثورة على الصعيد الفلسطيني والعربي والعالمي، ولأننا أمام معسكر الأعداء الامبريالي العالمي والصهيوني والرجعي والموحد، من الطبيعي أن نكون في المعسكر النقيض، المناهض للامبريالية والصهيونية والذي يسمى اليوم جبهة المقاومة، في مواجهة جبهة الأعداء.
يوضح عبد العال: "تتحدد رؤيتنا بما يلي: إن رأس الرمح في المقاومة اليوم يشكله حزب الله، المقاومة في لبنان، وهذا يجب ألا يقف عند هذا الحد، فبادرنا في اللقاءات الوطنية والمؤتمرات العربية القومية، واللقاء اليساري العربي، وبجولات على عدة دول عربية في مغربنا العربي ومشرقه، للمناداة بالعمل على إقامة جبهة عربية مساندة للمقاومة الفلسطينية، ومناهضة للتطبيع.
وموضوع جبهة المقاومة العربية الشاملة، طالما أن العدوان يستهدف المنطقة من خلال غزة تمهيداً لإعادة صياغتها بالمنظور الامبريالي الصهيوني؛ لذلك واجب فصائل حركة التحرر الوطني العربي استنهاض دورها والقيام بواجبها".
ويستطرد مروان: "كما اعتمدنا على الدور الريادي للجمهورية الإسلامية في إيران بتشكيل جبهة إمداد حقيقية للمقاومة في فلسطين، ونتمنى أن ينافسها أي نظام عربي في ذلك، فدائما كانت رؤيتنا للاقتراب أو الابتعاد أو مستوى التحالف يكون من منظار خدمة القضية الفلسطينية، لكن مع الأسف وجدنا أيدي تمتد لنا وتعتبر نفسها جزء من الصراع، وأخرى ورغم الإبادة التي يدينها العالم ثمة أنظمة عربية تنطق بلغة العرب ومن لحمنا ودمنا ولكنها مازالت يدها ممتدة للاحتلال".
لذلك الجبهة من دعاة قيام جبهة عالمية مناهضة للصهيونية النازية، وإعادة العمل بقرار الأمم المتحدة باعتبارها حركة عنصرية، تعمل على مطاردة قادة العدوان مرتكبي الإبادة الجماعية وملاحقتهم عالمياً، وإسقاطهم ومحاكمتهم أخلاقياً وقانونياً".
- ما هي رؤيتكم لدور الجبهة الشعبية في التنسيق بين الفصائل الفلسطينية خلال هذه المرحلة الحرجة؟ وكيف يمكن تعزيز وحدة الصف الفلسطيني في ظل اختلاف الرؤى الاستراتيجية؟
مروان عبد العال: "رؤية الجبهة الشعبية أنها تضع أولوية الحرب الوطنية على الحرب الداخلية، ولقد انشغلت قبل السابع من أكتوبر ببضعة أشهر على الانشداد إلى الفعل السياسي الصحيح، واستناداً إلى رؤيتها للمرحلة واستراتيجية العدو القائمة على الحسم والتطبيع وتصفية القضية الفلسطينية، بأن تكرم استراتيجية المقاومة مبنية على معادلة جديدة، عدم الخلط ببن حرب الأنصار أو الحرب النظامية والحرب السرية، حيث يكون السياسي أمراً مركزياً ولكن في عمل المقاومة يكون التكتيك القتالي غير مركزي".
بالمعنى السياسي نعتبر أن العدوان يستهدف كل الفلسطينيين وليس فصيل بعينه، وتصفية الشعب الفلسطيني وليس فقط تصفية قضيتنا وحقوقنا، فالخطوة المقترحة كضرورة وطنية تشكيل قيادة طوارئ وطنية ميدانية تتصدى للمهام العسكرية والسياسية.
وبالعنى العملي الميداني، فالاشتباك المجتمعي يدور في كافة الساحات في مواجهة الإبادة والعدوان الوحشي على شعبنا في غزة والضفة، وهجمات جيش العدو ومستوطنيه، وما يتطلبه لإدارة عملية التصدي.
ويوضح عبد العال: "وقدمت الجبهة ورقة من نقاط خمس، دعت إلى (جبهة مقاومة فلسطينية) التي تطرح تنظيم فعل المقاومة بشكل يرفع من فعل مقاوم فردي أو فئوي إلى مستوى الفعل الوطني، بما يعطيه الغطاء المعنوي والسياسي والاستراتيجي؛ لتنظيم الاشتباك بشكل مدروس وميداني وذاتي في حالة عملهم بمعزل عن مركز القيادة، ومن المؤكد أنه من الضروري على هؤلاء القادة أن يهتدوا بالخط الاستراتيجي العام، وبتوجيهات المركز السياسية، وأن يعودوا في أمور التكتيك إلى القيادة، والأهم العمل تحت لواء جبهة المقاومة الفلسطينية التي هي ليست طرفا في السجالات الداخلية والسلطوية أو التمثيلية؛ والمتسلحة بروح التضحية التي مهما ستكون عالية، فهي أقل تكلفة من ضياع الحقوق".
"إن وجود جبهة تزج بالكل الفلسطيني في عملية الصراع، يكون فيها التناقض الرئيسي ضد الاحتلال، وتعمل على استنهاض الوعي وتعبئة الروح الوطنية واستثمار الطاقات وتفعيل عناصر القوة الكامنة، عبر المقاومة والاشتباك اليومي على الأرض المنظم والفردي والجماعي؛ لجعل ثمن الاحتلال مكلفا، وعلى كامل مساحة أرض فلسطين تاريخية؛ لذلك ففلسطين كلها مساحة للصراع والمقاومة والاشتباك مع الاحتلال، المفتوحة لكافة تشكيلات وقوى المقاومة ولكل فعل مقاوم بهدف كنس الاحتلال".
وفي نهاية هذا الحوار، يوضح مروان عبد العال عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن المقاومة ليست خيار، بل حتمية وجودية. أمام كل محاولات الإخضاع والتطبيع، تظل إرادة الشعب الفلسطيني عصية على الكسر، مؤمنًا بأن التحرير ليس حلمًا بعيدًا، بل حقيقة تتشكل بمقاومة لا تعرف التراجع ولا المساومة.