Menu

أسرار عالمها المحتل

"رجاء بكريّة: بين الوطن والمرأة، صوت يتجاوز الحدود"

الكاتبة والفنان التشكيلية رجاء بكرية

حاورها الصحفي محمد حسين - فلسطين المحتلة

"رجاء بكريّة: بين الوطن والمرأة، صوت يتجاوز الحدود" حاورها الكاتب الصحفي محمد حسين في مجلة الهدف الشهريةالعدد 1537 ليكشف أسرار عالمها: حكايات المرأة والوطن في مسيرة فنية وأدبية"

رجاء بكريّة، كاتبة وناقدة فلسطينية، وُلدت في قرية عرابة البطوف بالجليل الغربي عام 1972 وتعيش في حيفا منذ عام 1996. تجمع في مسيرتها بين الكتابة الإبداعية والنقدية والفن التشكيلي، حيث حصلت على بكالوريوس في الفنون التشكيلية والأدب العربي وماجستير في النقد المسرحي من جامعة حيفا، متخصصة في المونودراما. كرّست معظم أعمالها الأدبية والفنية لاستكشاف قضايا المرأة والوطن، وقد شاركت في العديد من المعارض والمؤتمرات والمهرجانات العالمية، مثل مهرجان القصّة الشرق أوسطية في مارسيليا ومهرجان جولوي في دبلن.

أصدرت عدة كتب، منها "مزامير لأيلول" (1991)، "عواء ذاكرة" (1995)، و"الصندوقة" (2002). تعدّ روايتها "امرأة الرسالة" من أبرز أعمالها، حيث نالت الطبعة الأولى في بيروت (2007) وأعيدت طباعتها في فلسطين (2014)، كما تُرجمت للكردية. حصلت على العديد من الجوائز الأدبية والثقافية، من ضمنها جائزة القصة القصيرة النسائية لنساء حوض المتوسط (1997) وجائزة الإبداع الأدبي عن روايتها "امرأة الرسالة" (2006). تعتبر بكريّة صوتاً نسائياً متميزاً في الأدب الفلسطيني المعاصر، حيث تسعى من خلال أعمالها إلى تسليط الضوء على قضايا الهوية الفلسطينية وتجربة المرأة.
 لنتعرف أكثر على مشوارها الأدبي عبر مقابلتنا معها.


لنتحدث عن بداياتك كيف دخلت إلى عالم الكتابة؟
لم أدخل، بل انجرفتُ الى عالم كنت أكتشف سِحره للمرّة الأولى في جيل العاشرة حين أمسكتُ قلم الرّصاص أوّل مرّة بشغف وبدأتُ أملأ الورق الأبيض كلاما. أقرض شعرا عاموديّا، شعر وطنيّ بالدّرجة الأولى. كنتُ مشروع شاعرة سريّة بامتياز، أكتب وأخبّىء قصائدي في درج مكتبتي حتّى اكتشفتني أمّي فأخذتُ موقفا من الشّعر. بقيتُ أكتب بسريّة حتّى جيل الخامسة عشرة حيث بدأت أنشر في (الاتّحاد) الحيفاويّة و(الغد) بعد أن سرّبت صديقة لي قصائدي لمكتب الاتّحاد. قصائدي المتمرّدة الأولى نُشرت تحت اسم مستعار لكن حين طلبوا الكشف عن هويّتي قرّرتُ أن أعلن قصائدي معنونة باسمي ومع اعلانها بدأ اسمي ينتشر ومعهُ أشارك في المناسبات الطلّابيّة المدرسيّة. ذاكرة طريّة جدّا أوقفتُ سيرَ قوافيها المتدفّقةِ كنهر جارف حتّى فهمتُ أنّ السّطرَ الشّعريّ بأنواعهِ لا يناسبني فصادقتُ القصّة القصيرة الّتي أدهشت كلّ ما قرأها. دخلتُ الأدب من باب القصة القصيرة الواسعة ونشرتُ مجموعتي (الصّندوقة) و (الباهرة) لكن سرعان ما اكتشفتُ أنّ نفَسي التّعبيريّ أطول ممّا تخيّلت فكتبت رواية (عُواء ذاكرة) خلال شهرين وأنا في السّنة الجامعيّة الثّانية، كانت تفاصيلها مثل عاصفة شتائيّة طويلة لا تنتهي، تُمطرُ بشدّة وتجرف معها كلّ شيء. كتبتُ يومها كأنّي لم أكتب أبدا كتابة متواصلة حتّى قرّرتْ عواصفُها أن تهدأ. ظلّت مثار صمت حتّى كتب عنها ناقد غزّي، أستاذ في الأزهر، من الدّرجة النّادرة في فهم النّص الأدبي، د. محمّد البوجي فأثار عاصفة ردود لم تنتهِ أيضا. هكذا دخلتُ من باب الصّمت، لم يكن خلفي أحد يدعم أو يوصي باجازة كتابتي خلاف جودة المضمون، والاحتفاء بما كتبتُ كان نوعيّا جدّا حينذاك مثيرا لنوافير جمال لا تنتهي. لقد مررتُ بامتحانات ذائقة صعبة وحولي عدّة أسماء رجوليّة تحدّد شروطا للنّشر لذلك كانت السّباحة في البحار تستدعي تأشيرات دخول من النّوع الرّفيع وتخضع لمراقبة صارمة أكثر ممّا يتخيّل جيل اليوم الّذي يشتهر بسطرين داجنين. تلك الشّريحة تابعت وسَرعانَ ما تحمّستْ لكلماتي وبدأتْ تدعمُ مسيرتي. 


لمن تكتب رجاء بكرية وكيف تكتب قرأت أن إحدى رواياتك قد استغرقت ستة عشرة عاماً.
ليس سرّا أنّنا نكتب لانفسنا أوّلا وأنّ الكتابة التّعبيريّة هي مسلك علاجي بالدّرجة الأولى يستعين به الكاتب كي يتخلّص من ازدواجيّة عالمهِ. لقد استطاعت تداخلات الحياة ان تؤلم أرواحنا لحدّ لا يمكن تصوّره ولا اعتياده، الذّكاء يكمن في اللّحظة الّتي تصير فيها الكتابة لغة فوق بشريّة نسعى للتّماهي مع سحرها كي نصير أجمل لأنّها تحتاج قناة امنة تتواصل معها. ادّعائي أنّنا لا نستغل احتياطي السّحر الّذي فينا في علاقاتنا لذلك نلجأ الى الكتابة لتنقذنا من أنفسنا، من عجزنا عن اعلان اختلافنا السّافر وقدرتنا على استخراج الذّهب الأسود الخام من الحياة الّتي تعيش فينا بمعزل عنّا، فالأدب هو من يجسر الهوّة الّتي بين عالمين أحدهما واقع والآخر مُتخيّل.
لا تصدّق من يخبرك أنّهُ يكتب للنّاس. حين يَشفى من ذاتهِ ويبرأَ الموضعُ الأشدّ عطبا فيهِ يصبحُ نقيّا وحلالا زُلالا لقُرائهِ وللنّاس عُموما، وفقط حينها. الكتابة تعلّمنا النّضال بأبهى معانيهِ بفعلِ التّجريب المستمر، ولذلك قد يستغرق عمل أدبيّ كما حدث معي في "عَين خَفشَة" ستّة عشر عاما بالكمال والتّمام، وأعتقدُ جازمة أنّها قليلة بحقّ نكبة كنكبتنا. كانت المرّة الأولى الّتي يكتب فيها روائيّ من الدّاخل حكاية نكبتهِ. بعدي جرّبوا تقليد الفكرة لكنّها كانت شيئا آخر لا يشبهُ تلك الحادثة التّاريخيّة المُفجِعة. فالعَين تحكي عن نكبة ال 48 الّتي نعيشها جيلا فجيلا، عام فعام، يوم بيوم، ساعة بساعة. النّكبة ليست نُكتة، ولا فِكرة عابرة ترميها وتمضي، ولا فكرة تتجاوز أحلامنا الصّيفيّة بيسر وتذهب في حال سبيلها، بل حياة بملء ما فيها ولها من خِفّة وثِقل وصراعات قاتلة؟ تأكلنا على مهل ولا نشتكي. لم تعد الشّكوى قابلة للتّصريفِ الفِعليّ ولا الاسميّ وسط التحوّلات الاقليميّة الحاصلة. 


أنت فنانة تشكيلية وروائية وقاصة ألا تعتقدي أن انشغالاتك بمختلف صنوف الأدب قد يطمس إبداعك في مجال معين..
في بداياتي، كان الجمع بين هذه الفنون المتصارعة على أُلفتها مرنا سلسا وبهياّ معبّأ حماسا ورغبة ومتعة أيضا. الالتزامات أقلّ، والمدى أشدّ اخضرارا. أكتب وأرسم وأنا أغنّي، أطرح مقالة نقديّة الى جانب قصّة ولوحة جديدة وأشارك في معارض نوعيّة. تخصّصت في التّصوير الفوتوغرافي الى جانب الكاريكاتورة والرّسم بالأكريلك. كنت أقضي ما يعادل ست ساعات مرّتين أسبوعيّا في مختبر تفتيح الصوّر وأخرج في العتمة بنشوة عارمة ورغبة في احتضان العالم كأنّى أقوى امرأة ولدتها ريح، لكنّ واقع الحياة يقنصُنا مثل العصافير ويعلّقنا بملاقط الخيارات الصّعبة. اكتشفتُ أنّ الرّواية أهمّ من القصّة لِنَفَسي الرّوائيّ في تخصّصاتي القادمة وأنّ المقالة النّقديّة تحتاج أن تصير دراسة تمكّنني من التقدّم الأكاديميّ. هذا المجهود جعلني أبتعدُ مُرغمة عن الرّسم وسط ظهور موجة من الكليّات الّتي تُخرّجُ فنّانين بلا ضوابط. كنتُ أقارن بين دراستي الأكاديميّة ومجهودي البالغ أمام العبث الّذي يجري في هذه الكلّيات وأُذهَل. لا يدرسون عُشر ما نكتسبهُ في الجامعة، فلماذا توضع لوحاتي في مقارنة مع صُدف أعمال لم تخضع للمراقبة والنّقد المهني العالي؟ لم أشعر أنّ التقنيّات المُكتسبة في الكليّات الّتي أعنيها مُمأسسة على قوانين ومسارات تطويريّة فكريّة فكيف أعيش هذه الصّراعات؟ كنتُ بحاجة للتّركيز وليس للتّبعثر ولذلك انفصلتُ عن الفنّ بهدوء وأحلتهُ لميزة أدبيّة في رواياتي وقصصي، وتفرّغتُ لدراستي. ابتلعني الفنّ تماما، لم يكن لديّ من الوقت ما يكفي للاجتماعيّات والنّاس الّا فيما ندر، كنت ألتقي بقرّائي عبر ما أنشرهُ وأوقّعهُ من اصدار وحوارات. وفي لحظة ما شعرتُ أنّ المكان لا يسعني ولهذا السّبب رتّبتُ مع أحد أصدقائي الرّائعين في باريس توقيع ".. العَين" كانت تجربة ساحرة. نحن في داخل بُقعة غير مرحّب بهم في العالم العربي وقليلا ما نشارك في توقيعات عربيّة مُهمّة. كتبتُ "امرأة الرّسالة" كرسالة احتجاج حارقة على الاغلاق السّافر علينا وكان أناس المخيّمات في لبنان و سوريا أوّل من قرأها، أمّا "العَين" فذهبتُ الى تأصيلها كسرديّة روائيّة جديدة كي يتعرّف العالم على هويّتنا باتّساع أو ضيق أماكنها. الخروج من نفق المساءلة يلحّ الآن أكثر من أيّ وقت مضى، وعلينا أن نصبح حجر زاوية في المعارض العربيّة، والمؤتمرات الرّوائيّة. يهمّني أن تحمل مشاريعي الرّوائيّة همّا فكريّا وسياسيّا وتوقّع ببهجةِ اللّحظات أو تعاستها، لا أريد رواية عاديّة كالرّوايات الّتي اقتطعوا فيها أفكارا من رسائل "غسّان صقر" السّجين السّياسي الى عشيقتهِ الواردة في "امرأة الرّسالة" كي يبنوا منها فكرة مجد قديم لرواية جديدة، هكذا تُقَزّم الأعمال الرّوائيّة حين نسرق أفكار الغَير، وننشىء سرديّة منخفضة في سقف حُلُمِها وحِلمِها وفنّيتها. كنتُ سبّاقة في اختراع أشكال جديدة للرّواية ايمانا منّي بضرورة نفض الحالة الثّقافيّة في السّرديّة العربيّة أوّلا والعالم. ولذلك أسعى لفكرة غير متداولة، ومضة لم تضيء في قلب غيرَ قلبي تثوِّر مشاريعي القادِمة وتوقّع باسمي وهويّتي وهمّي الإنساني    


في مجموعتك القصصية باهرة والتي حصلت إحدى قصصها (الصُّندوقة) على جائزة. مارسيليا. فرنسا تحدّثتِ فيها عن الاضطهاد المركب الذي تعاني منه المرأة الاحتلال من جهة والرجل من جهة أخرى، برأيك ماهي السبل الكفيلة لتتخلص المرأة من الاضطهاد الذكوري.

قصّة الصّندوقة هي الّتي أخذت دور البطولة في مجموعة (الصّندوقة) وفي تمثيل الاضطهاد الحاصل للمرأة الفلسطينيّة ولكلّ امرأة في العالم على كافّة الأصعدة. لا يوجد هنا ما يمكن أن يشفع للنّوعيّة المركّبة من العلاقات ولا لاستعاضة الذّكورة عنها بالسّيطرة عبر الاضطهاد السّياسي الّذي نتعرّض له كشعب. المقاومة هي الشّكل الأرحب لشكل الدّفاع الميسور لدى المرأة كي تكون, لهذه الدّرجة تختلط الدّوائر حتّى أنّنا لا نميّز تماما بين صغيرة وكبيرة لأنّ مفهوم الاضطهاد شمولي، وارهاصاته أبعد ممّا نتوقّع. سئلت هذا السّؤال في كلّ مكان من العالم، لكنّ الدّائرة الضيّقة الّتي تحتلّها المرأة في منظومة الاضطهاد والاغلاق لا تترك منفذا لأوكسجين. ولذلك أعتبر مقاومة قصور الرّجل وثقل الهزيمة الّتي يعيشها داخل مجتمع يضيّق أساسا على اتّساعهِ وحريّاتهِ على مستويين نفسي وجسدي يجعلهُ يتوحّش أحيانا في الأقرب لهُ وهي المرأة. كمتابعة لتصادمات الأفراد في مجتمع كهذا خرجتُ بمانشيت الضدّ بوجهِ كلّ رجل يحاول أن يستغلّ وهن المرأة كي يصعد. من المفروض أنّ الرّجل هو الحلقة الأقوى مهما تكاثرت دوائر الخِناق ومُطالبا أن يتّسع روحيّا أوّلا كي يستوعب ازدواجيّة التّداخلات ووضعيّة المرأة أيضا. كلّ مقاومة في العالم تنشأ بسبب حالة اختناق شخصيّة بالدّرجة الأولى وحين تتّسع لتحوف المجتمع كاملا سيكون لها مرجعيّات نفسيّة غالبا الظّرف السّياسي في رأس تداخلاتها. 


في روايتك عين خفشة تحدثت عن حكاية النكبة، ماهي الإضافة التي أضافتها رجاء بكرية في هذه الرواية، خاصة أن العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب تناولوا حكاية النكبة في أعمالهم الأدبية المختلفة.

"عَين خَفشة" بدأت كمشروع شاحنةٍ مُحمّلة غضب، مسافاتها كلّ الوطن، وتفاصيل احتراقها عسير الهضم على الذّاكرة، والخارطة كانت تتكسّر كلّما علّمتُها بالفحم حتّى راقت وأخذت مسارا فنيّا فاجأني بمجرّد أن تسلّل صوت جدّتي الى العمل. اضطررتُ لعدّة مرّات أن أعيد كتابتها، ما يزيد عن ستّ مرّات، حتّى أنّني أنجزت روايتي "امرأة الرّسالة" خلال أربع سنوات وأنا أكتبها. وأعجب كيف يمكن لروائي انجاز روايتين خلال ثلاث سنوات! الرّواية مشروع حلُمٍ يصدمُ الواقع كلّما تفتّح ولذلك تتأخّر ولادتهُ أو تتقدّم وفق شروطِ المزاجيّة والشّغف الّذين يحكمانهُ. وفق معلوماتي أنّ قلّة كتبت رواية النّكبة والياس خوري الأشهر بينها الّذي اعتمد على تقنيّة أسلوبيّة تخصّ غونتر غراس كاتب رواية "الطّبل والصّفيح" لكنّ الإضافة الّتي لروايتي أنّني من أحفاد النّكبة الّتي ضربت حياة جدّي وأبي، وأنّي كبرتُ على تنويحات جدّتي الّتي لم تترك يوما واحدا يمرّ هادئ البال بلا بُكاء على من شُرّدّ من عائلتها ومات. قوّة روحي ونصّي معا يكمنان في المعلومة العميقة والحسّ اليقظ الّذي رصد كلّ شاردة وواردة، لكنّ المهم أنّ العَين ليست توثيقيّة بقدر اشتغالها على مبنى فنّي شخصي أراد أن يقدّمَ خطّة أخرى ومذاقا آخر مُهيّلا للرّواية.
كُثُر استفسروا عن عدم تقديم رواية "عَين خَفشة" للبوكر. كثر كتبوا أبحاثا مُحكّمة عنها، حتّى بلغة غير عربيّة وعلى يد باحثين اسرائيليّين، ويهود في جامعة تل أبيب. والحقيقة رغم اتّفاقي مع النّاشر على تقديمها غير مرّة لمنافسة روائيّة غير أنّهُ أخلّ بالاتّفاق، وكلّ اتّفاق جرى بيننا لترشيحها لجوائز عربيّة. كان لديّ رغبة قويّة بأن يسمع العالم بحكايتنا من مصادرها الأولى ورغم أنّي وقّعتها في باريس وأجريت عديد اللّقاءات حولها غير أنّ دخولها أيّ سبق روائي كان سيضمن لها انتشارا أكاديميّا وجماهيريّا أشدّ اتّساعا. لم أشأ أن تكون أيّ رواية عشق أكتبها بديلة لرواية وجودنا كشعب في فلسطين التّاريخيّة. هذه الحياة الصّعبة المُركّبة بكامل حيثيّاتها مرآة أخرى مختلفة للتّصالح مع التّاريخ بغبنهِ وقلّة حيلتهِ ولقبول روايتنا بأبهى ما تكون عليهِ الحكاية. لا توجد لدى أيّ روائي جدّة كجدّتي تنظر الى السّماء فينكشف الغيم عن نسر ذهبيّ يلمع بين دكنةِ الحياة نافورة عشق.  


في روايتك “عواء ذاكرة” هنالك من يقول أنّكِ استخدمتِ اللُّغةَ الشعرية والرمزية فيها ولم تستخدمي السرد الذي يعتبر أساس العمل الروائي، لذلك عدها بعض النقاد أنها لا تنتمي إلى عالم الرواية ماذا تقولين في ذلك؟
عواء ذاكرة كانت روايتي الأولى خرجت سنة 1995 الى نور الأدب، وهي اجتهاد جديد في السّرديّة الرّوائيّة لن يكتب مثلها أحد، ولو نقلَ كلماتها واحدة واحدة. من حيثُ المبدأ، حين أفرغتُ بلّورها لم أفكّر بأحد غيري ولم أنتظر ناقدا يفكّك رموزها. أعتقد أنّي غامرتُ في مساحة مفخّخة بحيثيّات غير تقليديّة وكانت أسلوبي في مقاومة الحياة وعملائها، انتصار حقيقيّ على الواقع وربّما هذا تحديدا ما أخاف حتّى النقّاد منها. طبعا السّرديّة الّتي فتنت القارىء كانت واضحة وسلسة وهي غير ما فهمهُ النقّاد. تحدث هناك لغة جريئة مُغامِرة لم يعتدها السّرد باعتقادي، هنا مرّنت لغتي الشّعريّة ضمن فكرة سرد مُختلف، والوحيد الّذي اطّلع على النّص وهنّأني عليه كان الرّاحل سميح القاسم. هذه الرّواية تأخذ القارىء لما يريد أن يفهمهُ في فنّ السّرد الرّوائي، هذا سرّها وكانت تحتاج لمن يغامر بالفهم والاستسلام وهذا فنّ لا يتقنهُ كُثُر. أعتقد أنّنا نفتقد الرّغبة في محاورة النّص. نريدهُ سهلا وبلا عقبات ودون حاجة للتّفاعل مع فواصلهِ وهذا أسوأ ما يحدث للقارىء. نُشِرَت فصول كاملة من "عواء ذاكرة" في مجلّات عربيّة تعتمد أكثر من لغة في فرنسا وإيطاليا. لقد شاءت الصّدف أن ألتقي بباحث غزّي بالغ الدّقة منفتح على محاورة النّص كان سببا في خروج بحث نوعيّ حولها، قدّمهُ سنة 1999 لاحد المؤتمرات العربيّة الرّائدة في عمّان. هكذا انتشرت الرّواية ودُرّست في أزهر غزّة وامتُحِن طلّاب فيها. طلبوا الكثير من نسخها في غزّة ولم أتمكّن من تزويدهم بالكثير، لكنّي أعرف أنّ هذه المدينة فهمت العُواء أكثر من أيّ مكان في العالم تناولها النقّد.  كتّاب اخرون تحدّثوا عن غرابتها لأنّهم ربّما يقرأون للمرّة الأولى. عليك أن تكون قارئا قبل أن تكتب لتفهم، هكذا أفهم الأدب.


ما رأيك بالأدب الحداثي الذي يحرر العمل الأدبي من كل القيود الفنيّة، بعد أن بتنا نشاهد أعمالاً أدبية لا تنتمي إلى تصنيف أدبي معين بل تجمع مختلف صنوف الأدب في قالب واحد.

الأدب بالأساس هو مشروع مفتوح على الامتاع الفكري_ حِسّي معا، ولذلك فانّ مساعي الاختلاف والمغامرة فيهِ مُجازة ومشروعة خصوصا في المشروع الرّوائي. من نافل القول أنّ الحداثة منحت بُعدا حُلُميّا فاتنا للمخيّلة. أنا ضمن الّذين غادروا الشّعر دون أسف لضيق العبارة. فضّلت أن أنقل التّجديد في المفردة الشّعريّة لمشروعي الرّوائي على رغبة أكيدة في منح متّسع لحالة كونيّة معجونة بكلّ شيء، وخارج السّياق الّذي درجت عليهِ الرّواية حتّى لحظة دخولي مساكبَ اخضرارهِ الوارِفة. المشروع الرّوائي يحمل همّا واضحا لكنّ تقنيّات التّصريح بهِ مُلزَمة أن تتغيّر، ومطالبة أن تكون شيئا آخر غير ما نعرفهُ. هو من يُحرّض الجمال على اكتسابِ مفاهيم جديدة ولذلك نعثر في القُبحِ دائما بعض جمال منسيّ قد يكون أدبا. والتّصنيفات هنا غير مقبولة بعينيّ فكلّ سرديّة روائيّة تمثّل ذاتها وحين تتشابه لن تملك اضافة تستحقّ الاحتفاء بعينيّ.   


هل استطاعت رجاء بكرية من خلال كتاباتها تجاوز القيود النفسية والاجتماعية والدينية عند حديثها عن المرأة؟

المرأة كائن غير عادي، متداخل العوالم ولذلك ظلّت موضع بحث واستغراق في الأدب عموما. حين تكتب المرأة عن المرأة ستكون أشدّ عمقا وادهاشا لأنّ تركيبتها النّفسيّة أقرب لأدوات المعالجة الفنيّة في عالم المرأة الأخرى الّتي تنافسها كينونة أنوثتها. هذا لا يعني أنّ كتابة الرّجل عن المرأة غير محتفى بها لكنّها حتما تأخذ بعدا آخر. منذ صغري وأنا أحاول تحليل ما تفكّر بهِ النّساء. كان مشروع فنجان القهوة الصّباحيّ في القرية يُدهشني لحدّ بعيد، أحاول أن أفهم مخلوقاتهِ بطريقتي، لكنّ عدد الأسماء والقضايا الّتي كان يستوعبها هذا الفنجان كانت تبعثرني لأنّي لا أفهم مرجعيّات اللّواتي يُذكَرنَ فيها وحينَ أسأل تتجاهل أمّي والجارات أسئلتي، ويبدو أنّها لم تكن محور مشاغلهنّ الفكريّة. كنتُ أبحث عن دوري في حلقات النّساء وأكتشف أنّها على متَعِها واستثنائيّتها لا يمكن أن تناسبني ولذلك خطّطتُ منذ جيل صغيرة أن أغادر تلك التجمّعات الّتي تصطدم فيها المتناقضات فالبكاء والضحّك صديقان، واللّوعة والنّفور كذلك، والخيانات لها تسميات أخرى أعذب من مرارة الواقع، لقد اكتسبت مذاقا غريبا يخصّ عالما لا أوافق عليه. هواجسي المحتدمة منتصف التّسعينيّات دفعتني للكتابة بطريقة لا تشبهُ فِكر النّساء ولا عوالمهنّ. غادرت القرية وأنا مزدحمة بمشروع حريّتي الذّاتيّة أردتُ أن أصلَ الى ذاتي بكلّ ثمن لم يكن الطّريق سلسا لكنّ اصراري على عبورهِ كان ضروريّا. وأعتقد أنّي عبرتُ ما يكفي من صدامات ومشاحنات ومصالحات كي أتحقّق بنسبة تكفي للحضور. كنتُ أبعد من القوّة بقليل وأقرب الى المهنيّة والتّحليل. وما كتبتهُ عن النّساء ضمن قصص مجموعتي "الصّندوقة" و"البّاهرة" أثار النّقد على نحو غير مسبوق. كنتُ أوّل من يفِجُّ غمرَ هذه (المشحرة) الّتي يستوي فيها الحطب على مهل ويصير فحما لكلّ شيء. بعد ذلك أصبحت نصوصي تحاور العالم بتداخلاتهِ. الفكرة أن تتجاوز الجسر الأوّل باشكاليّات عبوره بعدهُ ستصبح الجسور القادمة أيسر حظّا وأنت تَعُدّ درجاتها وتبتسم.  


 أنت فلسطينية تحملين الجنسية الإسرائيلية كيف تقدم رجاء هويتها عندما تزور بلدان مختلفة،

ضمن هويّتي الأدبيّة هويّة بمرجعيّات الجذور الّتي تعتمدها الصّحافة الاسرائيليّة والباحثون في الجامعات الاسرائيليّة والأجنبيّة كفلسطينيّة تحمل الجواز الإسرائيلي منذ النّكبة. شأني في ذلك شأن رعيل طويل من فلسطينيّي الدّاخل. تذكّر أنّنا فلسطينيّي الدّاخل وليس عرب الدّاخل الّا في حالة الجمع المُلزِم. لقد ظلّ ميثاق حسن الجوار كلمة السرّ بيننا وبين المجتمع الإسرائيلي واليهودي على حدّ سواء داخل قرانا ومدننا العربيّة مزدوجة الهويّة. هذا التّعريف يذهب معنا لكلّ مكان في العالم ويعرفنا العالم كمواطنين من الدّرجة الثّالثة يمثّلنا نوّاب في الكنيست غير أنّ هويّتي كروائيّة مُترجمة للعبريّة وتُدَرَّس في جامعاتها يفوق في حضورهِ كلّ محاولة لتشويهِ أثرنا على المنظومة الفكريّة العامّة للأدب في كلّ مكان. نحن من يوازن معادلة النّكبة والهزيمة معا في ال 48 وال 67, ولولا اسهامنا في تعزيز حقّ البقاء عبر الرّواية والكتابة الصحفيّة والأدبيّة لما بقي غيرنا على قيد الأمل كعلامة ودلالة. 


هناك حرب إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في غزة، كيف يمكن للأدب أن يوثق هذه الجرائم بلغته الخاصة وهل يمكن أن نطلق على هذا الأدب أدب ابادة؟

وظيفة الأدب خارج اطار التّوثيق الّذي نعرفهُ. الأدب يحاول أن يرسم مشهدا حسيّا بالغ الخصوصيّة في تجربة الوجع الّتي يمرّ بها، أن يضع كلوز محدّد على مشهد انساني كي يصل الى قلوب قُرّائِهِ  ومشاعرهم. لم يحدث أن كانت الأرقام أو الأمكنة الفارغة سببا في تخليد فكرة، حدث، كارثة أو ذاكرة. والنكبات بالعادة لا تمنح تسميات فنيّة لانسانيّتها، لأنّها أصلا لا ترى ما يُسأل عنهُ ومشغولة بالتقاطِ أنفاسِها. صادفتُ بعض الأعمال السّريعة الّتي تسجّل ذهولها أمام قوافل الموت الحارقة. صعب أن نتضامن مع كلّ نصّ يسمّي نفسه "غزّة" مثلا لحظة يُكوَّمُ الموتُ كصورة قاتلة للرّوح، وهكذا لا يُكتَب أدب. المشكلة فيما يصدر الان عن هذه الحرب أنّها لغة مشاعر بحتة، تسجّل المشاهد وحسب وهي إضافة مؤقّتة تأخذها المرجعيّة الثّقافيّة في غير أبعادها الحقيقيّة، هي ليست فنّا اخر ولكنّها فكرة لحظيّة بعينيّ. وعموما أشعر أنّ الكلمة هذه الأيّام عاجزة جدّا وتستغلّ انسانيّتنا كبشر، ليس المطلوب الآن أن تكتب أو توثّق بل أن تُواكبَ مناخاتِ روحك في عجزها وقلّة حيلتها. الأدب مهزوم جدّا هذه الأيّام أمام كوارث الرّوح وسُخطِ القلب على خَرَسِنا الكامل. خرس بالمعنى الشّمولي للكلمة لأنّ الحدث أجلّ وأبعد. 


يقال أن قتامة المشهد في الشارع العربي وعدم تحركه لما يجري في غزة مرده إلى استقالة المثقف العربي من مهمته. ماذا تعلقين على ذلك.

المثقّف لا يصنع الثّورات ولم يكن سببا في أيّ وقت بتحريك الشّارع في زمن الأزمات والانتكاسات، بل القطاع الشّعبي الّذي يعيش المأساة. اعتقادي الرّاسخ أنّ التّضامن مع المشاهد القاتمة في حياة الشّعوب باختلاف مرجعيّاتها تنشأ من داخلها وتكبر لتجرف معها المسافة والمساحة، وربّما هذا ما لم نفهمه للآن. أناس المرحلة هم من يصنعون الشّارع وليست شوارع العالم بكلّ ما فيها من انكسار وتضامن وألم. الصّورة هي المرحلة وليست أصواتها.  


كيف تقيمين المسرح الفلسطيني كخشبة وإنتاج..


المسرح الفلسطيني في وضعهِ الحالي في مكانهِ في ال 48 وال 67 الّا فيما ندر، الدراما مجترّة جدّا وبلا آخر، أستطيع أن أذكر حسام أبو عيشِة كنموذج مهنيّ ماتع مسرحيّا مطعَّما بموهبة غير تقليديّة لا تنافس الّا ذاتها. وبعينيّ لم تأتِ أعمال يمكن أن تهزّ خشبتهُ كما فعلت ذات يوم. والحقيقة أنّني مبتعدة منذ سنتين عن أجوائهِ، لكن ما يصل اليّ من مقتطفات عبر الميديا مثير للتّساؤل، هل فقدنا القدرة على التجدّد، أم أنّ مساحة المخيّلة لدينا انحسرت عن أفقها؟ لدينا مهرجان سنويّ في عكّا للممثّل الواحد، (المسرحيد) تابعتهُ على مدى سنوات أداء وخشبة، تحكيما ونقدا. وكنتُ أبديتُ الكثير من الملاحظات حول التّراجع الحاصل في مستوى التّنفيذ الفنّي منذ اختيار النّصوص وحتّى اخراجها ودفعِها الى الخشبة. المطلوب الآن دفع المستوى الفنّي أماما عبر الخَيارات الكثيرة المُقترحة ليس أهمّها التقنيّات الأُسلوبيّة لأشكال التجلّي، ولكن الحيل الفنيّة بفِكرها الجديد. الدّلالة الجسديّة في احتواء تشظيّات الحالة الدّراميّة، المُنتظَر في الأشكال الجديدة للاخراج التّجميع الفنّي لتداعيات المضمون وليس التبعثر، والفرق بعيد بينهما. نحن ننتظر من الاعداد السّينوغرافي الدّخول الى حيثيّات لم ينتبه لها النّص الأصلي ويرفع من ايقاعها الدّرامي حدّ تظهير التجلّي كأداة وتقنيّة معا، هذا ربّما ما ينقص الحالة المسرحيّة الآنيّة عجزها عن تجاوز الخطّ الّذي عبَرَتْهُ لأوّل مرّة وانتصرت على قدرتها. قدرات الإخراج محدودة بعينيّ وكثر يخوضون المجال من ممثّلين حديثي العهد بالموهبة والمهنة معا يُجرّبون كأنّهم لم يدرسوا أسس الأداء الدّرامي اعتقادا منهم أنّ كلّ أداء هو دراما مُدهِشة وأنّ خَوضهم لمدرسة المسرحيد كفيلة بتشريع مساحة الحضور الجماهيري أمامهم. شخصيّا لا ألمح صوابها فالتّجريب بعينيّ سيجري ضمن ورشات شخصيّة محدودة لاكتساب مهارات الظّهور، ناهيك عن أداء المرأة الّذي يحاصر تقنيّة الشّكل الواحد بذات المضمون حول الاضطهاد الذّكوري. خلص، أوان التّباكي عبَر هنالك مسرح جديد مُطالب بتأسيس فرادة في أشكالهِ الدّراميّة ومضامينهِ غير المطروقة ولو بثمن ترجمة أعمال أجنبيّة اذا كانت كتابتها مستحيلة. فالمعروف عن هذا الفنّ التّركيبة ذات الخصوصيّة في تداخل المرجعيّات كي يصلح مادّة للخشبة فسعداللّه ونّوس مثلا، الّذي نعتمد أعماله كثيرا مطالبون نحن بإعادة ترتيب فكرهِ المسرحي وعدم اعتماد القالب الواحد الّذي لعملهِ لسبب بسيط، كَون عوالمهُ رحبة جدّا ومتداخلة وغالبا نعتمد نحن كمخرجين وكتّاب سينوغرافيا القشور في تقديم سيناريوهاتهِ، لذلك أدّعي ضرورة نفض الحالة المسرحيّة كاملة من غبار الكلاسيكا بالغة الاعتماد على التّقليد وتكرار القوالب. لقد حاول المسرحيد أن يتعدّد رغم أنّنا نتحدّث عن اختبار نوعيّ لفنيّة الأداء الواحد وهويّة المخيّلة في حيل اعتداءاتها على حياديّة المتفرّج، وهو الخطأ الأوجع في فنّ المونودراما، وحاول أن يصير دوليّا عبر استضافة نقّاد وفنّنيين من العالم العربي عبر الشّاشة الذكيّة وأنا أعتبر هذا الخلط غير المبرّر لن يأخذ المهرجان الى العالميّة بل سيعيدهُ بلا مكتسبات جديدة الى بداياتهِ. الحفاظ على نقّاد المكان مُلزِم لأنّهم أكثر معرفة بحيثيّات الفعل الثّقافي، لا بأس من استضافة ناقد أو اثنين لكن لا تُفرِغ السّاحة من اهليها وتعتقد أنّ الغرباء هم من سيرفعون أعلامكَ المُنكّسة، لن تستدرجهم كي يخدموا أجندتك، عليهم أن يظلّوا إضافة وحياديّين تجاه العلاقات الشّخصيّة ضمن الدّائرة الضيّقة. ما يجري أعادني الى الأعمال الّتي حكّمتُ فيها وكنتُ مطالبة باللّين والتقبّل لأعمال سيّئة. يُمكنُكَ أن تعوّل على التّنازلات في حضرةِ نقّاد تحت سلطة مِنَحِكَ وهيمنتكَ وليسوا ضمن الدّائرة القريبة من المناخ المسرحي الحقيقي، لكنّ السّؤال هل سيرفع دعم هؤلاء اللّامشروط مشروعك الثّقافي أم سيهزمهُ؟ كيف سنرفع مسرحا مُستغَلّا من طاقمهِ المهنيّ الثّابت؟ التّبديل والاثراء عبر وجوه جديدة مُلحّ جدا في هذه المرحلة على اعتبار أنّها ستَضُخُّ حياة للعمل. وما ذكرناهُ حول العمل المونودرامي ينطبق على سائر الأعمال المسرحيّة الجماعيّة. كلمة السرّ في اختيار المضمون وتقرير استراتيجيّة الأداء لا تزال غائبة، وأستطيع أنّ أذكر مُخرجًا مسرحيّا واحدا أو اثنين يشتغلان على مفردة جديدة وفكر جديد بضمنهم الفنّان مُنير بكري وهذا لا يكفي.  


النقد العربي يقال أن النقاد العرب ينتمون إلى المدارس النقدية القديمة ولا يطورون أدوات النقد تبعاً لحركة الواقع التي تتطور بشكل كبير، 
كيف تنظر رجاء بكرية إلى عالم النقد العربي؟

على العكس تماما لدينا طاقات نقديّة مُلفتة وتتبع المدارس الّتي تجتهد في ابتكار مذهب نقديّ يخصّها وهؤلاء أقدّر مجهودهم جدّا برغم أنّ كُثر وكثيرات ممّن يكتبون/نَ نقدا يشَوِّحون للنّقد في الحقيقة ولا علاقة لهم بعالمهِ، لدينا أقلام تخدم بعض المنتديات وتكتب لها بما يغذّي فكرة "الشّو" الأدبي دون رجوع لمعايير الكتابة النّقديّة الّتي أعتنقها أنا وسواي ممّن أدرجوا أبحاثهم تحت خانة النّقد المهنيّ الّذي تغذيهِ الموهبة مثلا. لن ننسى أنّي مشروع باحثة مجتهدة لكن دراساتي قليلة ومحورها فكرة الدّمج المجالي، الفنّ التّشكيلي ومدارسهُ في علاقتهِ بالأدب، أدب الأطفال، واللّوحة الفنيّة عموما المرافقة للعمل الأدبي النّوعيّ. حريصة ألّا أتبعثر، واجتهاداتي هنا هدفها التطوّر العلمي. وعودة على طرحِكَ لدينا بضع نقّاد لا يمكن أن تذكر النّقد الفِلسطينيّ دون أن يكونوا مركزا فيه، وناقدات عهدهنّ حديث في النّقد ويسجّلنَ حضورا ملفتا في التخصّص الفنّي النّخبوي لهذا الفنّ فقط بقي أن يأخذن مسارا واضحا في المذهب التثويري لمدارسهن وألّا يخلطْنَ أدب الأطفال بالرّواية النّوعيّة لأنّهما عالمان منفصلان تماما. أعتقد أنّ مشكلة النّقد هي التعدّي السّافر للنّقاد على منظومات أدبيّة خارج تخصّصهن، فالنّقد ليس طبق فاكهة يمكنك أن تحشر فيهِ ما طاب لك من حَبٍّ ولون لأنّ زلّه واحدة للمتلقّي في دمج المذاقات قد يدفعهُ للتخلّص من الخليطِ كاملا.  لن يخاطر بصحّتهِ كي يحوشَ الأطاييب جميعها بما في ذلك ما لا يناسب بنيته الجسديّة، وميولهُ النّفسيّة


كفنانة تشكيلية ما هي المواضيع الأكثر حضوراً في لوحاتك، وهل هناك مدرسة تنتمين إليها أم لرجاء مدرستها الخاصة في الفن التشكيلي؟
مذهبي الفنيّ يعتمد الرّسم التّحليلي أكثر منهُ واقعيّا، حتّى وأنا أعتمد مضامين من عالمي الواقعي القريب كاليوميّات والرّسائل. لعلّ أجمل أعمالي حضورا تلكَ الّتي أنجزتهُا كمتوالية فنيّة وعُرضَت مِرارا في معارض  شخصيّة وجماعيّة ولها علاقة بمشروع أدبيّ انشغلتُ بهِ لوقت طويل تحت التّسمية "يوميّات مُهرّبة الى عينيهِ" لاقى رواجا في حينهِ. ما أحبّ أن ألفت اليه أنّ مذهبي الفنيّ يشمل ابتكارات كثيرة حاولت أن تؤسّس لمدرسة فنيّة انتقائيّة مركزها لغة الحرف. صحيح أنّي اعتمدت التّجريد الفنّي لكنّي زاوجتهُ بالمذهب السّوريالي الرّمزي عميق الحرارة وذهبتُ لأكثر من سكالا تخصّ الألوان الصّفراء بعمقِ عالمها وحياديّتهِ على التحامهِ البالغ بالجُموع. وأذكر أنّ احدى الفنّانات وهي ترافق مجموعاتي في مشروع تخرّجي الجامعي سألتني، هل تشعرين بالبرودة مع أصفركِ هذا؟ وكنت أنفي بحركة عنيفة من رأسي، حارّ جدّا وعميق وأكثر ممّا تتخيّلين. هل صادفتَ أعمق من زهر عبّاد الشّمس وحيويّة عيونهِ؟ لقد طوّرت مجموعات فنيّة كثيرة حتّى أنّي أدخلت المضمون السّياسي لاحدى مجموعاتها كأحدات أكتوبر 2000، وأعني مجموعاتي الصّفراء تلك حيث استشهد عدد من شبّان الجليل اثر اشتباك مع الشّرطة في حدَثٍ استثنائيّ أعاد الى الأذهان أحداث يوم الأرض الخالد في 76. كان يجب أن يضمن الجهاز الشّرطوي أمنهم مهما بلغت حدّة المواجهات لكنّ المواجهات تطوّرت. كنّا نعتبر حقّنا أن توازي ردود الفعل في الشّارع العربيّ قريناتها في الشّارع اليهوديّ من انضباط وعدم انجرار الى مواجهة لا رجعة في خساراتها. 
على العموم حلُمتُ أكثر حين دلّلتني الفُرشاة بألوانها وأزهرتُ أكثر، فاللّون يعبّىء الرّوح برائحة البنفسج العميق، معهُ تشعر دائما بامتلاء القلب والخِفّة والانتشاء، عالم مشبع دهشة مفخّخ بالمغامرة، محفوف بوقوع اضطراري في عشق لم تحسب حساب طيرانهِ البعيد خلف غيم لا يراهُ سواك. وأنت ترسم لتُدهِش نفسَكَ أوَلا ينتقل الشّعور بالعدوى الى عالمكِ وعلاقاتك ويخيّل اليكَ أنّك أكثر النّاس ثراء في العالم. تلك النّشوة الّتي أتحدّث عنها لا يضاهيها تفتّحا غير الانخراط في عمل روائيّ جديد.