Menu

بعض الدروس وبعض العبر

في الذكرى الأولى لطوفان الأقصى

علي الجلولي

الهدف الإخبارية - تونس

أحيي أحرار العالم يوم 7 أكتوبر الجاري ذكرى مرور عام على عملية "طوفان الأقصى" التي نظمتها المقاومة الفلسطينية في غزة والتي شكلت حدثا جللا لا زالت تداعياته مستمرة إلى اليوم. ولئن سارع خصوم القضية الفلسطينية والمطبعين مع كيان الاحتلال إلى إدانة هذه العملية  حتى أن البعض تعلل بأنها مضرّة بالشعب الفلسطيني، فان الحرائر والأحرار لم يترددوا لحظة في اعتبار العملية تحولا مهما في العمل الوطني الفلسطيني وفي الفعل المقاوم بالذات. ولا يزال هذا الجدل يخترق الساحة السياسية في العالم وحتى صلب المجتمع الفلسطيني الذي لم يخلو يوما من تقابل الرؤى وتناقضها. 

ـ7 أكتوبر، الدلالة والسياق

لم يكن اختيار اللحظة الصفر عفويا بل كان مقصودا بما في ذلك الاشتغال على الرمزية التي يحملها التاريخ في حد ذاته، فيوم السابع من شهر أكتوبر هو اليوم اللاحق لذكرى العبور، ذكرى 6 أكتوبر 1973 التي باغت فيها الجيش المصري كيان العدو ودكّه وعبر المصريون "خط بارليف" الذي كان يرمز حينها للتفوق الصهيوني الذي تم تكريسه في حرب جوان 1967 التي تكبدت فيها الجيوش العربية هزيمة نكراء. كانت حرب 6 أكتوبر انتقاما وردما للهزيمة ونحتا للانتصار، لكن هذا الانتصار تم وئده من قبل النظام المصري بالموافقة على وقف إطلاق النار في ذروة الانتصار العسكري على العدو، وهو ما دشن لاحقا لمسار التسوية الساداتي الذي شكل طعنة للشعب الفلسطيني وقضيته لازالت مفاعيلها مستمرة إلى اليوم. لقد اختارت المقاومة يوم 7 أكتوبر كي يكون بناء على ملحمة 6  أكتوبر وليس استنساخا لمسارها. صحيح أن اختيار اليوم واللحظة من قبل قاعة عمليات المقاومة تم على أساس المعطيات الحسية المباشرة على أرض الميدان والتي تزامنت مع يوم عطلة يتزامن مع أعياد دينية في كيان الاحتلال وما يرافقه من ارتخاء يطال حتى المؤسسة الأهم وهي العسكر،إلا أن الرمزية السياسية للتاريخ تبقى حاضرة بما تمثله من اشتغال الفعل المقاوم على السردية الكفاحية التي تشكل معينا مهما في المعارك الكبرى وفي اللحظات الفاصلة، وقد كانت لحظة الطوفان لحظة فاصلة تقاطع فيها التصاعد الكبير للاعتداءات الصهيونية على الشعب الفلسطيني خاصة في القدس أين انفلتت عصابات المستوطنين للاستفراد بالفلسطينيين في القدس والضفة أين يلعب حرس محمود عباس دور أداة  الكبح والقهر، فكان يجب أن تبدأ الطلقة من غزة. غزة التي خاضت معركة "قوس القدس" (9/20 ماي 2021) وحققت فيها تحولا مهما في قواعد الاشتباك والصراع وهي إن المقاومة أصبحت ضلعا أساسيا يعلن الحرب وينهيها، إضافة إلى إثبات قدرات عسكرية مهمّة تمثلت في القدرة على دكّ المدن الصهيونية إضافة إلى تشكيل الغرفة المشتركة التي ضمت فصائل الكفاح المسلح  بما فيها "كتائب شهداء الأقصى" التابعة لحركة فتح، أو بأكثر دقة للجناح الوطني فيها. لقد خرج الكيان المحتل خائبا من المعركة وقد تفاجئ بما أصبحت تمتلكه المقاومة من قدرات رغم الحصار، كما خرجت المقاومة أكثر تماسكا وقوة و إصرارا، وقناعة أن العدو سينتقم ولن يقبل أبدا بهذه القوة التي أصبحت تشكلها، لذلك كان يجب لطرف منهما أن يبادر. وكانت المبادرة بتمامها وكمالها للمقاومة التي حددت اللحظة والوسيلة والهدف.

ـ 7 أكتوبر لحظة تحول نوعي في أداء المقاومة  

إضافة إلى عنصر المباغتة وحجم العملية الذي يعتبر في حد ذاته تحديا من العيار الثقيل، فان  لحظة التنفيذ التي لم تتفطن لها كل مخابرات العالم المستوطنة في المنطقة، والصور التي تابعها العالم مباشرة على الأثير، صورة الفلسطيني الذي ظل طيلة  75 عاما مطاردا ومطرودا ومهجرا ولاجئا، لأول مرة يكون الفلسطيني في وضع صاحب الحق الذي يجري نحو أرضه يلاحق ويطرد المحتل والغازي الذي أطلق ساقيه للريح مناشدا الخلاص الفردي ولا شيء سواه. وقد استمرت هذه الصورة لمدة طويلة، صورة الغزاة الذين اتجهوا بكل سرعة إلى مطار بن غوريون للصعود في أول طائرة، لكن صواريخ المقاومة فرضت غلق المطار وغلق المجال الجوي ليبقى الغزاة هدفا لحمم الصواريخ القادمة من غزة، وليستمر هذا الوضع طيلة عام كامل رغم حجم الدمار الذي لحق القطاع الصامد. لقد فرضت المقاومة على المستوطنين شمالا وجنوبا أن يقيموا بصفة شبه مستمرة تحت الأرض في الملاجئ، لقد توقفت الحياة العادية من نشاط اقتصادي وتعليمي وتجوال واصطياف وأصبح الجميع يعيش تحت رحمة صفارات الإنذار التي كثيرا ما فاجأتها الصواريخ مما أكد أكذوبة القبة الحديدية.  إن المقاومة إن اكتفت فقط بهذا المنجز فإنها تكون قد حققت تقدما جبارا وتحولا نوعيا في أدائها وقدراتها. لقد توقفت الحياة العادية في كيان الاحتلال منذ عام ولولا الدعم الامبريالي وخاصة الأمريكي لتوقف هذا الكيان المصطنع عن الحياة والاستمرار كليا.

من هذه الزاوية فان الشعب الفلسطيني ومقاومته الوطنية الباسلة قد حققا مكاسب إستراتيجية مهمة  وسيكون لها تأثير على مستقبل الصراع. إن غزة اليوم مسوّاة تقريبا بالأرض، لكن الصواريخ تخرج من أحشاء أرضها من رفح جنوبا إلى بيت لاهيا شمالا. إن غزة اليوم هي عنوان لملحمة بطولية يكتبها شعب تعرض إلى كل صنوف الإبادة والقهر، لكنه متمسك بأرضه التي يرويها بالدم فعلا لا مجازا. 

إن خصوم 7 أكتوبر لا حجة لديهم ولا تبعة لموقفهم سوى التنظير للخنوع وممارسته. إن شعب فلسطين لا خيار أمامه إلا التعويل على ذاته من أجل تحرير أرضه واسترجاع وطنه. لقد ثبت فشل خيارات التسوية التي لم تزد دولة الاحتلال إلا صلفا وعنجهية وعربدة. إن الاحتلال الصهيوني مسنود دون قيد ولا شرط بخطوط إمداد مادي وسياسي ودبلوماسي من قبل الامبريالية العالمية وفي مقدمتها الأمريكية والأروبية التي تخصّص جميعها الميزانيات الخاصة من دافعي الضرائب للتسليح والتمويل وتوفير كل شروط الاستمرار في الاحتلال والإبادة. وهو مسنود أيضا من قبل أنظمة العمالة الإقليمية والعربية من المغرب الأقصى غربا إلى تركيا شرقا. إن الأنظمة العربية التي لم تقدم تاريخيا للشعب الفلسطيني إلا الهزائم والخيانات، فضلا عن الاعتداءات ، تمارس اليوم أقذر أدوارها التي بلغت درجة غير مسبوقة في العجز والفشل حتى عن الإدانة والتنديد التي برعت فيها الجامعة العربية، هيئة الأركان للعمالة والرجعية. إن الأنظمة العربية متورطة في الإسناد المادي لقوات الاحتلال مثلما تفعل أنظمة الإمارات و البحرين والأردن والسعودية..، أو في "أحسن الحالات" فهي متورطة بالصمت واللامبالاة، وهاهو العدوان على لبنان يعرّي مزيدا من الحقائق  حول حجم التخاذل في التعاطي مع عدوان على دولة عضو في الجامعة العربية.

ـ الشعوب والقوى الحرة هي حليف الشعب الفلسطيني ومقاومته

مقابل تخاذل الأنظمة العربية والإقليمية التابعة، يجد الشعب الفلسطيني ومقاومته السند والتضامن في القوى الشعبية المناهضة للاحتلال مثل فصائل الإسناد في لبنان و اليمن والعراق، وفي شعوب العالم وقواه التقدمية في كافة أرجاء العالم وخاصة في البلدان الغربية المتورطة في العدوان والتي لم تتردد في منع تحركات المساندة منتهكة الحريات العامة والفردية التي طالما تبجّحت باحترامها، لكن إصرار الأحرار فرض خروج الملايين في تحركات لعب فيها الطلاب والشباب والنساء والنقابيون والنشطاء ومنتسبي القوى الثورية والتقدمية دورا محوريا. كما لعبت الطبقة العاملة ونقاباتها المناضلة دورا هاما في مقاطعة عمليات شحن الأسلحة ومواد الإمداد لجيش الاحتلال. ومقابل أنظمة العمالة العربية تحركت أنظمة تقدمية لملاحقة الكيان الصهيوني أمام المحاكم الدولية (جنوب إفريقيا، الشيلي،نيكاراغوا..)وقامت أنظمة أخرى بطرد سفراء الاحتلال (كولومبيا، بوليفيا،فنزويلا..).

ـ المقاومة تراكم للانتصار والاحتلال يتجه إلى التفكك

لقد أثبتت دروس 7 أكتوبر صحة مقاربة المقاومة وحركة التحرر بأن انتصار المقاومة ليس مستحيلا كما تدعي قوى الاستسلام، كما أنه ليس من حق أي شعب محتل أن يقبل بالوضع القائم ولا يعمل من أجل إلغائه. إن الشعب الفلسطيني ومنذ قيام العصابات الصهيونية ثم إعلان دولتها لم يكف يوما عن المقاومة وطور تجربته الخاصة بانتصاراتها وانتكاساتها، وإصراره اليوم ووحدة الأغلبية الساحقة منه على عدالة قضيته ومشروعيتها هو الصخرة التي ستتكسر عليها كل مشاريع الاحتلال وزبانيته. لقد تعرضت كل الشعوب المحتلة إلى مثل ما يتعرض إليه الشعب الفلسطيني، لكن إرادتها انتصرت في النهاية، وهو المآل الحتمي للنضال الفلسطيني، ومآل كيان الاحتلال لن يكون إلا التفكك الذي بدأت علاماته تتعمّق من خلال الهجرة المضادة، فكما أتى الغزاة بحقائبهم  إلى أرض ليست أرضهم سيرحلون بحقائبهم للعودة إلى مواطنهم الأصلية.

تونس في 10 أكتوبر 2024