بدا واضحاً أنّ جيش الاحتلال "الإسرائيلي" يهدف خلال عمليته العسكرية المستمرة في مناطق شمال قطاع غزة والتي تضم جباليا، وبلدتي بيت لاهيا وبيت حانون منذ قرابة 40 يوماً، إلى تهجير سكانها قسرياً، إذ طور أساليب الإبادة الجماعية التي انتهجها منذ بدء العدوان قبل أكثر من 13 شهراً، حيث صعّد في الآونة الأخيرة من سياسة استهداف المنازل التي تستقبل النازحين الهاربين من نيران الاحتلال في المناطق الداخلية المحاصرة.
بهذا يتضح طموح الاحتلال بتحقيق أطماعه الاستعمارية في قلب قطاع غزة، من خلال تهجير السكان قسرياً تحت النيران وأمام الدمار الهائل الذي نفذه من خلال نسف المباني والأحياء بالبراميل المتفجرة، الأمر الذي غيّر المعالم العمرانية في مناطق شمال القطاع، لكن رغم كل ذلك لم يفلح العدو حتى اللحظة بإسقاط منطقة جغرافية محددة بالرغم من القوة النارية التي يستخدمها في حيزٍ ضيق، كما أقر قائد الفرقة (162) التي تعمل هناك، إذّ قال في مقابلة صحفية لوسائل عبرية: "في حال سقطت جباليا، سيسقط الشمال بأكمله"، وهذا يعد مؤشراً إلى أنّ الاحتلال لم يحسم المعركة بعد بسبب صمود عشرات الآلاف من الأهالي هناك، إلى جانب أنّه لم يتمكن من تفريغه رغم القتل والدمار الكبيرين.
ومنذ بدء العملية البرية في جباليا، ارتقى حوالي 2000 شهيد وأصيب آلاف آخرين، بفعل قصف الاحتلال لمنازل سكنية تضم نازحين في مناطق محاصرة أصلاً، إذ يعمد العدو على ارتكاب مجازر تؤدي إلى وقوع مئات الشهداء والجرحى في نفس الضربة، مثلما نفذ مجزرته بحق عائلة أبو نصر في منطقة بيت لاهيا أواخر شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ما أسفر عن استشهاد وإصابة قرابة 300 نازحاً، وأخيراً مجزرة "النيام" لعائلة علوش التي قصفها الاحتلال في منزلهم الواقع في منطقة جباليا البلد، والتي خلفت 37 شهيداً وإصابة آخرين.
العدو يضغط على حاضنة المقاومة
وبحسب النازح يوسف نصار، الذي نزح من منطقة جباليا مؤخراً، من "ممر الموت والنار" الذي أنشأه الاحتلال في قلب المناطق السكنية مثل معسكر جباليا والشيخ زايد والإدارة المدنية تحت ضغط القصف الهائل، فإنّ أحد جنود الاحتلال قال للنازحين وهم في طريقهم إلى مدينة غزة: "لن ترجعوا إلى المخيم، ستجدونه رمال قاحلة وصفراء، ومن بقي هناك سيقتل من النيران والقصف، بل سيموت جوعاً".
ويقول نصار لـ "بوابة الهدف": "الجنود كانوا يستهزئون ويضحكون، ويتحدثون إلينا أين شباب المخيم؟ أين شباب الثورة؟ ما في حدا يدافع عنكم، الباقيين رح نقتلهم والي صمدوا رح يدفعوا الضريبة وهي الموت"، لافتاً إلى أنّ الاحتلال يستخدم تلك الأساليب لإضعاف روحنا المعنوية لأنّه يعرف تماماً أننا الحاضنة الشعبية للمقاومة التي تلقنه الضربات تلو الأخرى.
وبشأن أوضاع الأهالي المحاصرين في الشمال، يبين نصار، أنّ "ما يرونه وما يعيشونه هو فوق طاقة الإنسان، قتلٌ، وقصف المدفعية ونار آليات الاحتلال تلاحق السكان في كل مكان، ومسيرات الكواد كابتر تطلق النار على كل شيء متحرك، لا أحد يستطيع حتى النظر من نافذة غرفته إلى الخارج ليعرف ماذا يحصل في محيطه"، مشيراً إلى أنّ "مخزون المواطنين من الطعام والشراب قد نفذ، ويعيش الأهالي هناك مجاعة حقيقية، إذّ لا مخابز ولا دقيق، ولا مياه صالحة للشرب ولا حتى آبار، كل شيء هناك مقطوع سوى الموت والدمار والقتل".
ويلفت نصار، إلى أنّ "الاحتلال يقصف المنازل على رؤوس ساكنيها، ومن يستشهد هناك أو يصاب، فلا يوجد أحد ينقذه، حيث لا يتوفر جهاز دفاع مدني أو مركبات إسعاف للمصابين أو لانتشال الشهداء"، موضحاً أنّ "الكثير من الجرحى يطلقوا مناشدات لإنقاذهم بعد قصف منازلهم ويبقون أحياء ينزفون لعدة أيام لكنّ في النهاية يستشهدوا نتيجة عدم وجود أي خدمات إنقاذية هناك".
ومن تهجير السكان عنوة، إلى تعمد الاحتلال إحداث مجاعة حقيقية هناك لإجبار السكان على النزوح نحو مدينة غزة وجنوب القطاع، انتهج أيضاً سياسة التجويع، حيث لأكثر من شهر لم يسمح العدو بدخول أو وصول الإمدادات الإنسانية للسكان هناك، بالإضافة إلى قصف المستشفيات ومراكز الإيواء وإخراج جهاز الدفاع المدني قسرياً عن الخدمة منذ نحو ثلاثة أسابيع بعد اختطاف عدداً من عناصره.
وطبقاً للمتحدث باسم الدفاع المدني في غزة محمود بصل، فإنّ "جيش الاحتلال يقصف المنازل في شمال القطاع على رؤوس الفلسطينيين، ومن يُستهدف ويتعرض لإصابة يُستشهد لصعوبة إنقاذه، في ظل الإبادة والتطهير العرقي المستمر منذ أكثر من عام على القطاع".
"الأونروا": الاحتلال يستخدم الجوع سلاحاً
بدوره، حذّر المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" فيليب لازاريني، من احتمال حدوث مجاعة في شمال قطاع غزة الذي يشهد حصارًا وتطهيرًا عرقيًا "إسرائيليًا" منذ 5 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، معرباً عن أسفه من أنّ احتمال حدوث مجاعة "ليس مفاجئًا".
وأكد لازاريني في بيان، أنً الاحتلال "الإسرائيلي" استخدم الجوع سلاحًا في الحرب على غزة، مبيناً أنّ الناس في غزة تُحرم من الأساسيات، بما في ذلك الطعام للبقاء على قيد الحياة.
وأوضح مفوض الوكالة، أنّ المساعدات التي تدخل إلى قطاع غزة ليست كافية، وهي بمتوسط يزيد قليلاً عن 30 شاحنة يومياً، بما يمثل نحو 6% فقط من الاحتياجات اليومية للفلسطينيين، مطالباً بخطوات عاجلة، للسماح بدخول القوافل إلى شمال غزة بانتظام ودون انقطاع.
وفي الإطار نفسه، أكّد مدير مستشفى "كمال عدوان" حسام أبو صفية، أنّ "الأوضاع في شمال القطاع تتجه إلى المجاعة الجماعية، حيث بدأت تصل إلى المستشفى حالات سوء تغذية من الأطفال والبالغين، وسط نقص حاد في المواد الغذائية، وهجوم منهجي على النظام الصحي".
ويُشار إلى أنّه في الأسابيع الماضية، بدأت أزمة حقيقة تلوح في وسط وجنوب قطاع غزة، بسبب نفاذ الدقيق والمواد الأساسية من الأسواق ومنازل الفلسطينيين، واضطرارهم لاستخدام الدقيق الفاسد لإطعام عائلاتهم، والبحث عن بدائل غير صحية.
مركز حقوقي يدعو إلى إعلان المجاعة رسمياً في شمال القطاع
بدوره، طالب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان الجهات الرسمية المعنية والمنظمات الدولية والأممية المختصة إلى إعلان المجاعة رسميًّا في شمال قطاع غزة، مع مرور أكثر من 50 يومًا على منع "إسرائيل" إدخال أي مساعدات أو بضائع لمئات آلاف السكان المحاصرين هناك، والذين يتعرضون لأعنف حملة إبادة جماعية للقضاء عليهم بالقتل والتهجير القسري.
وقال المرصد الأورومتوسطي، في بيانه، إنّ "عشرات الآلاف من الفلسطينيين، بمن فيهم عشرات المرضى في ثلاثة مستشفيات شمال قطاع غزة، يواجهون خطرًا محدقًا بالموت جوعًا، أو الخروج بتداعيات صحية دائمة، جراء الحصار الإسرائيلي غير القانوني"، مضيفاً أنّ "الاحتلال منع منذ 25 سبتمبر/ أيلول الماضي إدخال أي مساعدات إنسانية لشمال القطاع".
وأشار المركز الحقوقي، إلى أنّ "السكان الذين ما يزالون في شمال غزة يقبعون تحت حصار خانق ويتعرضون لقصف متواصل ومتعمد، ويبقون بلا إمدادات طعام أو ماء أو علاج، فيما يصبح هدفًا للاستهداف المباشر والقتل من الطائرات المسيّرة كل من يحاول الخروج بحثًا عن طعام أو ماء"، محذرًا من أنّ ذلك ينذر بارتفاع معدلات الجوع وسوء التغذية الحاد والأمراض المقترنة بهما، واتساع رقعتها خاصة بين كبار السن والأطفال والحوامل.
ويواجه الفلسطينيون حاليًّا أسوأ أيام التجويع والقصف والتهجير، إذّ لم يتعافوا أصلًا من موجات التجويع السابقة التي برزت في محطات مختلفة نهاية العام الماضي وعدة مرات في الأشهر السابقة، وفقاً للمرصد.
وطالب المرصد الأورومتوسطي، باستعادة وصول المساعدات الإنسانية إلى كامل قطاع غزة، بما في ذلك السماح بدخول المواد المنقذة للحياة وانتقالها عبر المعابر والطرق البرية بشكل فوري وسريع وفعال، واستعادة الخدمات الصحية والمياه والصرف الصحي، وتوفير الغذاء الآمن والمغذي والكافي لكامل السكان، وحليب الأطفال، وتوفير العلاج لحالات الجوع وسوء التغذية والأمراض المقترنة بهما، واستعادة نظم الإنتاج المحلي ودخول البضائع التجارية.