منذُ عقودٍ، والشّعبُ العربيُّ الفلسطينيُّ يحمل على عاتقه جرحاً لا يندمل، معاناةٌ مستمرةٌ يختلط فيها الألمُ بالأملِ، والظلمُ بالمقاومةِ. يعيش الفلسطيني يوميّاً تحت وطأةِ احتلالٍ يُحاول انتزاعَ هويتِه، يُناضل من أجل بقاء جذورِه راسخةً في أرضِه وتاريخِه. في كلّ زاويةٍ من هذا الوطن، تروي الأحجارُ قصصاً عميقةً عن صمود الأجيال، وتعلو أصواتٌ تعاهدُ الأرضَ والسّماءَ على عدم الرّضوخ، والمقاومةِ ثم المقاوة للتحرير.
إنّها معاناةٌ يتجرعها الشعبُ منذُ النّكبةِ حتّى اليوم، والشعبُ العربيُّ الفلسطينيُّ ليس مجردَ شعبٍ عربيٍّ، وإنّما هو كيانٌ محدّدٌ داخلَ التّشكيلِ الحضاريّ العربيّ، ولذا كان هذا الجهدُ لفصل هذا الشّعبِ عن حضارتِه وأرضِه بالقوة، بالسيطرة عليها وتحويلها إلى عدّة مناطقَ خاضعةٍ لاعتباراتٍ وتقسيماتٍ أمنيّةٍ متبدّلة، مع تاريخٍ لا ينتهي من المفاوضات والاتفاقيات "الرّماديةِ الهشّة" التّي لم يُرجع أيّ منها لهذا الشّعبِ حقّه.
فمنذ النّكبةِ عامَ 1948، توالت الثوراتُ عبرَ الأجيالِ توقاً للحريّة وتعطشاً لاسترجاع الأرض المحتلة؛ حيث اشتعلت الانتفاضة الأولى عام 1987، التي عُرفت بانتفاضةِ الحجارةِ، وكانت رمزاً لصمودِ الشّعبِ الأعزلِ في وجه قوة الاحتلال الصّهيونيّة الغاشمة. وتبعها الانتفاضة الثانية عام 2000، التي اندلعت إثرَ اقتحامِ المسجد الأقصى، حيثُ استُشهد آلافُ الفلسطينيين وأصيب الآلاف.
وعند فوز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالانتخابات التشريعيّة الفلسطينيّة عام 2006، ولعلّ هذا الفوز مثّل تحديّاً للواقع السّياسي في المنطقة وللحسابات الإقليميّة والدوليّة، وكأنه إعلانٌ جريءٌ بأن الفلسطينيين، برغم كل ما مرّوا به، قادرون على اختيار مسارهم بأنفسهم. ففرض الاحتلال حصاراً سياسياً واقتصادياً على الضّفة الغربيّة وقطاع غزة، هدف من خلاله معاقبةَ الفلسطينيين على انتخاب حركةٍ ترفع شعار المقاومة بما يمنعهم من تكرار فعلٍ كهذا، إضافةً إلى محاولة تغيير فكر وإستراتيجية حماس للقبول بالانخراط في مسار التسوية السلمية والتخلي عن العمل المقاوم، إلّا أنّ هذا الفوز لم يكن مجردَ حادثةٍ عابرةٍ، بل مثل نقطةَ تحولٍ قد تشير إلى بداية انكسار المشروع الصهيوني، وانّ فكرة "أرضٍ بلا شعبٍ" قد انهارت تماماً.
وما عملية طوفان الأقصى من العام الماضي إلا تأكيد على استكمالِ نضالاتِ المقاومةِ الفلسطنيّةِ على كافة الأراضي المحتلّة، في الوقتِ الذي كان بعضُ حُكامِ العربِ يُمدون العونَ والدّعمَ الى هذا الكيانِ الظالِمِ، الى جانبِ الأنظمَةِ الأميركيّة والأمبريالية. انّما، أثبتت أن إرادةَ التّحرر أقوى من كل ممارساتِ التضييقِ، والقتلِ، والاستيطانِ، والمصادرةِ، والتّرحيلِ، والتّحرشِ، والاعتداءاتِ المتكرّرةِ، الإهالةِ الصّهيونيّةِ، أي الدفن بالحياة للفلسطينيينَ.
45 ألفَ شهيدٍ تقريباً ، وارتفاعُ عددِ المصابينَ إلى مئةِ ألفِ مصابٍ، سقوط ما يقاربُ 19 ألفَ طفلٍ شهيدٍ من بين شهداء العدوان الإسرائيلي على غزة، شقيقاتٌ وأشقاءٌ بعمر الزّهور ارتقوا شهداءَ في مجازر يرتكبها العدو الصّهيوني يوميّاً بحقّ الشّعب الفلسطيني منذ بدايةِ الطوفان، في وقتٍ تُشاهد فيه شعوبُ الأرضِ جميعُها ما يجري، وتسمع مواقفَ الحكوماتِ الغربيّةِ التي ضربت بعرض الحائط كل المفاهيم الإنسانية والحقوقية التي لطالما اتحفَتنا بتكرارها، لا بل سارعت لإسقاط صفةِ البشرِ عن أهل غزة وأعطت الصهاينةَ الحق الكامل في الإبادة الحاصلة.
الا أنه من الضروري ألا نعتادَ المشهد ولكن من الضروري أن نخرج قليلاً من الغرق في الالام الجسيمة والعظيمة التي يتعرض لها شعبنا في فلسطين المحتلة لنشير إلى أن السّابع من أكتوبر كان بمثابةِ صفعةٍ تاريخيةٍ أحدث بوسائِلها المحدودة وتكتيكاتِها البّسيطة زلزالاً استراتيجيّاً، هزّ جيش العدو وأسسه وعقيدته للحفاظ على مشروع الاستعمار الاستيطاني، كما استطاعت أن تحطم الهالة المحيطة بالجيش (الإسرائيلي)، كذاك أثبتت خلخلة النّسيجِ الفكري والأيديولوجي للعدو الصهيوني فضلاً عن هشاشة النّسيج الاجتماعي والسّياسي، مع مواصلة أعماله الإجراميةِ غير الإنسانيّة والتي تصلُ الى جرائمِ حربٍ.
فحين تذرِفُ الأرض دموعها، وتمتزِجُ دماءُ الشهداء بتراب الوطن، يبقى الجرحُ الفلسطيني ندبةً خالدةً في قلب كل من أحب الحرية. هناك، حيث تصدح الآلامُ من كل زاوية وتتنفسُ الحجارةُ تاريخاً لا يُمحى، تنبض الأرض بحكايات الصمود، ويخفِق الأمل في صدور أجيالٍ وُلدت على أنين المعاناة؛ ولكن من رحمِ المعاناةِ، كان الفلسطينيون وما زالوا يقاومون ليس فقط الاحتلال، بل كل محاولاتِ طمسٍ لهويتهم وحضارتهم. في كلّ يومٍ، تروي أرواحُ الشّهداءِ وأفواه الأسرى قصة جيلٍ بعد جيل، يكافح من أجل حقه في الحرية، وفي الحفاظ على كرامته؛ وكأن الأرض التي يزرعون فيها أملهم، تختزن قوةً لا تُقهر تنبع من عمق التّاريخ ومن إيمانهم الرّاسخ بحقّهم في الحياة، في وطنٍ حرٍ وشعبٍ سعيد.
فلا يمكن إلا القول أن حرب غزة - رغم خسائرها البشريّةِ والماديّةِ والنّفسيّةِ الفادحة، وبالرّغم من كلّ أعمال البطش وسياسات التّطهير العرقي والإبادة الجماعيّة التي يمارسها العدو الصّهيوني بحق الشعب العربي في قطاع غزة بصفةٍ رئيسيّةٍ وفي الضّفة الغربيّة، فقد حققت هذه الحرب العديدَ من المكاسبِ غير المسبوقة للقضيّة الفلسطينيّة وللشّعب الفلسطيني.