28 سبتمبر 2000 و25 يناير 2011.. يومان تفصل بينهما حوالي 10 سنوات، ولكن يربطهما حبل سري، فالثورة المصرية لم يضع حجر أساسها سوى الأطفال والشباب الفلسطينيين الذين واتتهم الجرأة على إلقاء الحجارة والمولوتوف ولاحقاً الصواريخ في وجه المحتل الصهيوني في السنة الأولى من الألفية الجديدة.
التسعينيات:
سنوات أوسلو في الأراضي المحتلة، كانت سنوات عجافاً أيضاً في مصر، كان نظام حسني مبارك قد وصل إلى ذروة قوته وبطشه، واستمر تدفق الدعم العسكري والدبلوماسي والاقتصادي على مبارك لإتقانه دور كلب حراسة المصالح الأمريكية في المنطقة.. يرسل قواته ضمن تحالف دولي لـ"تحرير الكويت " في مقابل إلغاء الديون العسكرية؛ يوقع على "برنامج الإصلاح الاقتصادي والتعديل الهيكلي" بالشراكة مع البنك الدولي وصندوق النقد وبموجبه تبدأ أكبر عملية خصخصة وقطع للإنفاق الاجتماعي وحزمة سياسات ليبرالية جديدة لم يجرؤ من سبقوه على تطبيقها؛ يعسكر جهاز وزارة الداخلية ويشن حرباً على "الإرهاب" متبعاً تكتيكات "الحرب القذرة" المستعارة من أمريكا اللاتينية، فيبني سجوناً جديدة امتلأت بحوالي 40 ألف معتقل، وقتل المئات واختفى مثلهم ولم يعرف مصيرهم لليوم.
كانت حقبة التسعينيات أيضاً من أسوأ الفترات التي مر بها اليسار المصري، الذي بدأ ينهار بعد قمع انتفاضة يناير 1977، وأعلنت وفاته رسمياً بانهيار الاتحاد السوفيتي في 1991، وحوصرت بقاياه مع تصاعد مد الإسلام السياسي الذي سيطر على النقابات المهنية وساحات الجامعات.
وكان الحراك العمالي ضعيفاً، فلم تتعاف الحركة العمالية بعد 1977، وكنا نشهد إضراباً في أحد المصانع الكبرى لغزل النسيج أو الحديد والصلب أو النقل العام كل بضع سنوات وغالباً ما كان ينتهي نهاية مأساوية بقمع وحشي على أيدي قوات الأمن المركزي والقوات الخاصة مثل اعتصام حلوان للحديد والصلب 1989 أو إضراب غزل كفر الدوار في 1994.
في كل مرة يُعتقل العشرات من المناضلين ويتعرضون للتعذيب في أقبية جهاز مباحث أمن الدولة، وعموماً كانت الحركة العمالية في حالة إنهاك وتفتيت بسبب الهجوم الاقتصادي عليها بحزمة السياسات الليبرالية الجديدة، التي دفعت بعشرات الآلاف من العمال إلى صفوف العاطلين عبر التسريحات والمعاش المبكر.
لم يكن الحراك اليساري في الجامعات أفضل حالاً، كانت الجامعات المصرية تحت حصار أمني، وجّه قبضته إلى الإسلاميين وغيرهم، ودأب الطلاب الإسلاميون آنذاك أيضاً على مواجهة وتخريب فعاليات المجموعات اليسارية الصغيرة التي حاولت أن تنشط.
وكان السقف السياسي للعمل متدنياً للغاية، كان الكل يخشى ذكر مبارك وعائلته في أي مقال أو هتاف، وكان الأكثر جرأة وشجاعة هو من يهتف ضد "الحكومة" أو "الداخلية"، وظل مبارك صنماً لا تستطيع الاقتراب منه، أو حتى ذكر اسمه على محادثة تليفونية، وإن سخرت منه أو انتقدته يجب أن تتلفت حولك لتتأكد أن لا أحد يسمعك.
الانتفاضة تقلب كل الموازين:
بعد أن بلغ الإحباط مداه في صفوف المعارضة المصرية، جاءت الانتفاضة الفلسطينية لتقلب كل الموازين، فجرت الانتفاضة موجة عاتية من التظاهرات بالجامعات المصرية في الأسبوع الأول من أكتوبر 2000، غالبية التحركات كانت عفوية وتخطت ساحات الجامعات لتصل إلى المدارس في مشاهد لم تعهدها مصر منذ عقود، عقود نجح فيها مبارك في قتل الحراك الجماهيري بكل أشكاله، وامتد السخط إلى النقابات المهنية.
أثناء المظاهرات كنا نسمع مراراً جملة: "إذا كان الأطفال الفلسطينيون لا يخافون دبابات إسرائيل، هل سنخشى نحن شرطة مصر؟!"
السيناريو الذي كان يتكرر في المظاهرات أياً كان هو: تبدأ المظاهرة بهتافات تضامنية مع الفلسطينيين ومناهضة للصهاينة وأمريكا، ثم يتحول اهتمام المتظاهرين وهتافهم إلى التساؤل: لماذا لا تفعل حكومتنا أي شيء لمساعدة الفلسطينيين؟! لماذا لا تغلق مصر السفارة الصهيونية بالجيزة؟ لماذا تصدّر مصر الأسمنت لإسرائيل ويستخدم في بناء المستوطنات؟! لماذا يبعث النظام بجنوده المدججين بالأسلحة لمحاصرة وقمع الحراك السلمي المتضامن مع الانتفاضة بدلاً من إرسالهم للحرب ضد الصهاينة؟!... ورويداً رويداً تتحول مظاهرة التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية إلى مظاهرة مناهضة لنظام الحكم في مصر مطالبةً بإسقاطه، وتعقد المقارنات سريعاً بين مبارك ونظرائه في تل أبيب.
خلق الحراك المفاجئ رقعة خصبة لنمو اليسار الثوري المصري آنذاك وعلى رأسه الاشتراكيون الثوريون، بعد عقد عصيب من العمل الدؤوب على محاولة إعادة تأسيس قواعد لليسار مرة أخرى بعد اندثاره، لم تكن المجموعات اليسارية الناشئة ومنها الاشتراكيون الثوريون كبيرة الحجم، ولكن على قلة عدد أفرادها نجحت في التدخل وأحياناً قيادة الحراك في عدة مواقع مهمة بالعاصمة، رافعةً شعار "الطريق إلى القدس يمر من القاهرة."
قوبل الحراك الجماهيري في 2000 بالقمع الوحشي المعتاد، واعتقلت قوات الشرطة المئات من النشطاء في القاهرة والمحافظات، وهدأ الحراك بعض الشيء تحت وطأة القمع، ولكن عاد لينفجر مرة أخرى في مارس/إبريل 2002 باجتياح دبابات شارون لمدن وقرى الضفة الغربية. عمّت المظاهرات الحاشدة والاشتباكات جامعة القاهرة ومحيطها لأيام، فيما عرف باسم "انتفاضة جامعة القاهرة"، وامتدت المواجهات للإسكندرية والدقهلية ومحافظات أخرى، وأذكر جيداً إنها كانت المرة الأولى في حياتي آنذاك التي أرى فيها الآلاف من المتظاهرين يرددون هتاف "حسني مبارك زي شارون.. نفس الشكل ونفس اللون" ولم أكن أصدق نفسي أن الجرأة وصلت إلى هذا الحد، بدأ الصنم في السقوط.
وجاء الغزو الأمريكي للعراق ليولّد موجة تظاهرات هي الأكبر في مارس 2003، بنزول عشرات الآلاف من المصريين في مظاهرات مناهضة للحرب رافعين أعلام العراق وفلسطين، وتحوّل وسط القاهرة إلى موقعة حربية بمعارك واشتباكات وكر وفر بين المتظاهرين وقوات الأمن من منطقة الحسين إلى ميدان التحرير، ولأول مرة تحرق صور حسني مبارك في مكان عام.
وما بين تلك الانفجارات الجماهيرية الضخمة في السنوات الثلاث تلك، كانت هناك فعاليات شبه يومية في الجامعات و خارجها تضامناً مع الانتفاضة الفلسطينية ومظاهرات أقل حجماً، ولا يمكن فهم صعود حركة كفاية في 2004 بمطالب واضحة وصريحة ضد حسني مبارك والتوريث بدون النظر لما كان يحدث في السنوات الثلاث قبلها، وليس من المصادفة أن نجد بين مؤسسي كفاية آنذاك وجوهاً مألوفة من قيادات حركة التضامن مع الانتفاضة ومناهضة الحرب.
لولا الانتفاضة الفلسطينية لما وُجد هذا الهامش الذي استطعنا التحرك فيه والتنظيم ضد مبارك وتكسير صنمه.
لم تنجح كفاية في إسقاط حسني مبارك، ولكنها حطمت هيبته وصنمه وخلقت أيضاً هامشاً أكبر للحراك بشكل عام، ولاحقاً بدأت الطبقة العاملة المصرية في الدخول على الخط بإضرابات المحلة ومصانع الغزل والنسيج بدايةً من ديسمبر 2006 وانتشار "فيروس الإضرابات" -كما أسماه مسؤولو النظام- آنذاك إلى جميع القطاعات في البلد باستثناء الشرطة والجيش، أذكر حديثاً بيني وبين إحدى القيادات العمالية في 2009 وكنت أسأله: أين كنتم حينما كانت كفاية تقوم بمظاهراتها ضد مبارك في 2004-2006؟ فأجابني: كنا في بيوتنا نشاهد هؤلاء "المجانين" الذين يحرقون صور مبارك في وسط القاهرة علانية!
قد تكون كفاية فشلت في الإطاحة بمبارك أو تكوين جذور جماهيرية إلا أنها خلقت حالة من الزخم السياسي وهامشاً للحريات شجع الطبقة العاملة لاحقا على كسر قانون الطوارئ وتنظيم إضرابات واسعة ومحاولة تأسيس نقابات مستقلة.
ثورة يناير والقضية الفلسطينية:
عمد البعض إلى تصوير حراك الـ18 يوم بميدان التحرير وخارجه بأنه حراك حول قضية الديمقراطية وانتهاكات الشرطة فقط، وأنه لا توجد أية أهداف تتعلق بالسياسة الخارجية لدى المتظاهرين. يتغافل ذلك التحليل عن جذور الحراك التي ترجع إلى عقد كامل، ويتجاهل أيضاً هتافات الميدان التي اتهمت مبارك بالعمالة لتل أبيب وواشنطن، واليافطات التي رفعها الثوار المنددة بتصدير الغاز المصري لإسرائيل، وأعلام فلسطين التي اكتظ بها الميدان.. ولاحقاً نظم الثوار أكثر من مليونية للتضامن مع الفلسطينيين واقتحموا سفارة العدو بالجيزة مرتين، وظل مطلب إلغاء معاهدة كامب ديفيد ورفع الحصار المصري-الإسرائيلي عن قطاع غزة من المطالب التي رفعوها وتظاهروا من أجلها.
انقلاب السيسي على الثورة المصرية تبعه هجوم على كل قضية تبنتها الثورة، ومنها القضية الفلسطينية.. وحرب السيسي على الفلسطينيين من تشديد للحصار على غزة، وتآمر مباشر مع الصهاينة في حرب 2014، ودعم دبلوماسي في أروقة الأمم المتحدة وخارجها، ما هو إلا جزء من انتقام السيسي من الثورة المصرية.. وعند بوادر أي تحرك جماهيري بفلسطين ضد الاحتلال مثل الهبة الشعبية الأخيرة، تخفق قلوب ثوار مصر - الذين تعرضوا لهزيمة ساحقة بالانقلاب وقتل منهم الآلاف ويقبع أكثر من 40 ألفاً منهم في السجون والآخرون ممن نجوا بالهروب خارج البلاد - تخفق بأمل أن يؤدي الحراك الفلسطيني مرة أخرى إلى إعادة إحياء روح الثورة بمصر بتأثير الدومينو الذي عهدناه.
أملنا بالفلسطينيين يظل كبيراً، والفلسطينيون كما عهدناهم دوماً خط الدفاع الأخير لشعوب المنطقة عن مبادئ التحرر والمساواة والثورة التي تحاول الأنظمة بكافة جهدها لوأدها يومياً.
