Menu

المخيم خزان الحكايا والنضال

تغريد عبد العال

جريدة الـأخبار اللبنانية

بالنسبة إلينا، نحن الذين ولدنا وعشنا في مخيّم، فقد تكوّنت لدينا نظرة خاصة إلى العالم حولنا. ربما تأتي تلك النظرة من حقيقة الوجود في مكان قادم من التاريخ ومطرود من الجغرافيا. لذلك تهمّنا دوماً تلك الحكايات الخفية عن ولادة هذا المكان من رحم الجريمة التاريخية التي ارتكبتها عصابات مارقة نتناقض معها في كل شيء، فأصبحت القضية وجودية تستدعي أن نحفظ التاريخ المكتوب في عمق الذاكرة الشعبية. والحقيقة أن السردية الفلسطينية، تواجه اليوم بكل ثقة وإيمان السردية الإمبريالية والصهيونية في غزة، محدثةً تغييراً في الوعي على صعيد العالم. ولعل أهم ما حقّقته «معركة الطوفان» أيضاً، هو تلك العودة إلى معنى «المخيم» الحقيقي، إذ خرج المقاومون المقاتلون من مخيم الشاطئ وجباليا والنصيرات. أعادت المعركة الانتباه إلى سردية المخيم النضالية المقاتلة التي خرجت منها حكايات المناضلين والمقاومين كغيفارا غزة الذي أرق الاحتلال وتحوّلت سيرته إلى فيلم، جعلت المخرج محمد المزين يتتبّع قصته من خلال الشهادات الشفوية والتاريخية.

ومع ضياع الأرشيف الفلسطيني، برزت تلك الأسئلة حول الاهتمام بالتاريخ الشفوي وحكايات الناس، لأنّ مصادر هذا الأرشيف نهبها العدو الصهيوني بعد تدميره مركز الأبحاث التابع لـ«منظمة التحرير الفلسطينية»، حيث نهب الجنود الإسرائيليون محتويات المكتبة نهباً ممنهجاً. بعد كل ذلك، ربما علينا أن نعمل على إعادة جمع تلك الحكايات على طريقتنا. وقد أصبحت حكايات النكبة واللجوء مادةً لروايتنا الجماعية والتاريخية، حتى إنّها أصبحت النسيج الذي يغذّي آدابنا وفنوننا أيضاً، فالأهم هو المساهمة ليس الفردية فقط، بل الجماعية في مأسسة التأريخ والتوثيق والأرشفة. لذلك تقوم الكثير من المؤسسات الثقافية الفلسطينية بالاهتمام مجدّداً بالإرشيف بكل معانيه. وأخيراً صدر كتاب جديد لجمعية «ناشط» الثقافية الاجتماعية تحت عنوان «كتاب المخيم» (دار نلسن). هكذا يجعلنا العنوان نذهب بعيداً إلى فكرة أنّ المخيم يصبح حقاً بالنسبة إلينا كما كان منذ تشكّله: «خزان الحكايات والقصص»، فعند كل جدار من جدرانه ستصطدم الروح بحكاية لعائلة تشرّدت. وهو أيضاً قد مرّ واستكمل فترة تاريخية مهمة، إذ حضن حركات التحرر الوطنية (فصائل المقاومة) وكان كتاباً مفتوحاً للجيل الأول للثورة التي نهلت ثقافتها ووعيها من رموز ثقافية وفكرية ومن وعي بالنضال. وقد أُنجز هذا الكتاب بالتعاون مع «مؤسسة أورسولا هوسر» وبدعم من أسرة سعسع.
يذكر ظافر الخطيب في مقدمة الكتاب أنّ هناك ضعفاً في عملية التوثيق، ما يفسّر غياب الوثيقة التاريخية عن معركة سرديتنا. ورغم وجود جهود فردية تُعنى بجمع الوثائق، الا أنّ ذلك لا يخفف من مدى خطورة غياب الوثائق، بالإضافة الى غياب الباحث والمؤرّخ. ومع أنه يؤكد أنّ هناك جهوداً فردية في مجالات الكتابة التاريخية، يستدرك قائلاً بأنّها ظلت قاصرة عن تشكيل السردية الفلسطينية لأنها جهود أفراد تحمّلوا المسؤولية عن غياب المؤسسة. ولذلك، فهو يستنتج أنّ مسؤولية التأريخ هي مسؤولية وطنية تتحمّلها الأطر السياسية والاجتماعية كافةً. ثم يتحدث عن التوثيق المتعلق باللاجئين الفلسطينيين، كونهم يعيشون في المخيمات وينتشرون في المدن، وتغيب المصادر الرسمية والوثائق التي تدعم كتابة هذا التاريخ ما عدا تلك التي تمتلكها الدولة اللبنانية والأونروا وهناك صعوبة في الحصول عليها. لذلك كان الطريق الأفضل هو اللجوء إلى التاريخ الشفوي، فبدأ البحث عمّن عاصر مراحل من تاريخ المخيم. سرد هؤلاء بدايات تشكّل المخيم منذ النكبة وما عاشه من معارك وكيف وصلت حركة القوميين العرب إلى مخيم عين الحلوة.
لا شك في أنّ اللجوء الى التاريخ الشفوي خطوة هامة جداً، إذ تقول الباحثة الفلسطينية في مجال التاريخ الشفوي مي صيقلي إنّ التاريخ الشفوي شعار لإعادة بناء التاريخ ومنصة لنشاط الضمير. كذلك، تساءلت الباحثة روز ماري صايغ التي عملت كثيراً على التاريخ الشفوي الفلسطيني: «كيف يمكن أن يتوارى شعب بأكمله خلف قضيته السياسية؟» سؤال ورد في كتابها «الفلاحون الفلسطينيون من الاقتلاع إلى الثورة» حيث لاحظت أنّ التركيز كان على تاريخ الفلاحين الكادحين والمتمردين. وأما النساء فكنّ من نساء النخبة. وفي «كتاب المخيم»، هناك شهادة لامرأة هي راغدة شناعة التي تصف روح المخيم، قائلة: «الحياة كانت بسيطة وغير معقّدة، كنا شباباً وشابات نتحدّث معاً». وتقول أيضاً: «مع صعود نجم الفدائي الفلسطيني كان الناس يحلمون ويقولون إنه أملنا».
ما يغيب هنا في الكتاب أو في سردية التاريخ الشفوي هو ما ذكرته روز ماري عن «المرأة في النضال الفلسطيني». هذا ما غُيّب فعلاً، لأن هذا التاريخ يعكس جوهر القصة الفلسطينية التي يعمد الاحتلال إلى تغييبها ونسيانها، وأيضاً تشكل هذه السردية مرجعاً لنا لدراسة أنثروبولوجية للمخيم وتأثير القيم الوطنية على سيرورة المراحل التاريخية للثورة فيه.

تشكل السرديات في «كتاب المخيم» وثائق مهمة، وجهداً مميزاً، وكم نطمح إلى توحيد تلك الجهود كي لا تبقى محصورة في مؤسسة واحدة وأن يتم العمل باستراتيجيا ذات أفق جماعي وطني لاستعادة الوثائق بشكل جديد، لأن غيابها لا يعني غيابها الفردي كما أشار الكاتب، بل يجب مأسسة العمل عليها لتكوين سردية توثيقية فاعلة، تشكل اللبنة الأساسية لتكوين مكتبة شاملة تطّلع عليه أجيالنا. ومن الكتب التي تضم تاريخ ما حدث في المخيمات، كتاب «أزمة مخيم نهر البارد» لأحمد حسين الشيمي، وكتاب «مخيم تل الزعتر»، و«وقائع المجزرة المنسية» لمحمد داوود العلي، وكتاب «صبرا وشاتيلا» لبيان نويهض الحوت... ولعل من المهم أيضاً ذكر أنّ جزءاً كبيراً من التاريخ الشفوي تحوّل إلى روايات أدبية وأعمال فنية مثل كتاب «حب من المخيم» الصادر عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» الذي أشرف عليه الكاتب الياس خوري وأيضاً روايات المخيم التي كتبها غسان كنفاني والياس خوري ومروان عبد العال وإبراهيم نصرالله وسامية عيسى وحزامة حبايب. لكنها تحوّلت إلى أعمال إبداعية من مهمتها ليس التوثيق فقط بل أيضاً إظهار معاني الوجود الفلسطيني العميق في هذا العالم.
ومن هنا نعلم أن المخيم سيتسع حين تعرف تلك الحكايات المختبئة أنّ لها مكاناً في أوراق التاريخ البيضاء، التي حين تتشرّب كل تلك القصص، ستواجه بعمق رواية الأكذوبة.

Ad