Menu

منتصر زعاقيق: يا عاشق فلسطين حتى العظمة

ثائر أبو عياش

هي الكلمات تأتي متأخرة، ليس القصد أن القلم قد فاق من الغيبوبة، بل على العكس، حيثُ مشهد الرحيل ما زال يجرف القلم نحو هاوية الألم بكل جنون، وما زال الصمت القاتل أمام لحظة الوداع يجعل القلم عاجزاً عن الصراخ، لكن الرصاص وحدة من يجعلنا في ذروة الملحمة نؤمن أن هناك رجالً هم عاشقون من نوع آخر، نقصد أولئك المحبون للوطن حتى التقديس، لا الأقلام، وأكثر أولئك الثابتون أمام الرصاص وجهاً لوجه، دون خوف، دون قلق، بل يمارسون الشجاعة كأنها لحظة تجلي المؤمن في صلاته، هنا يبكي العاشق عندما يُدرك أنه كان منفياً، ولم يحصد إلا الظلم في حياته، ولكن قلبه كان قدره أن يمنح الحب دوماً كما كان يقول الفيلسوف أفلاطون، وهؤلاء العشاق بالدم يكتبون الرواية.

إذن، إلى صلب الحكاية، يرحل العاشق وهو يحتضن الرصاص، القصد عن العشق القائم كقوة بذاته، وعليه لا يأبى الشهداء بالألم، فالحب للحظة الشهادة يستحق الألم، ولربما أكثر لا عشق أبدي، وسرمدي دون ألم، حيثُ أينما وجد العشق الحقيقي وجد الألم، ولذلك لا يُدرك الشهيد معنى الخيانة، وأكثر هو يبغضها، إذ الشهيد هو التجلي الحقيقي لمعنى التضحية، بل لمعنى الموت في سبيل ما تُحب، ولذلك أمام رهافة هذا العشق يرحل الشهيد، وتتطاير روحه كما الفراشة المحروقة.

هكذا إذن، يرحل العاشق، ومنتصر زعاقيق كان عاشق ل فلسطين حتى العظمة، إذ ناضل، وقضى سنين في السجن، حتى أنّ الأخير قد حرمه من وداع أمه، هذه الأم التي كانت عاشقه لمنتصر حتى العظمة، ولكن لم يكتفي منتصر بهذا، فقوة الشهيد أنه يستمر في النضال، هذه خصال الشهيد، القصد يُقاتل، ويُجسن، ويُجرح، وفي النهاية يصبح شهيد، هي معادلة لا يُدركها إلا الشجعان، ومنتصر كان من الشجعان.

لا بأس أذن، هي رصاصة واحدة كانت تكفي لتحقيق الحلم بأن يفقد الجسد السيطرة على الروح لحظة تحررها الأخيرة، بل الأبدية، هنا يصبح العود هو الثقل، أما عن عدم العودة هي الخفة، إذ الروح تُعانق الوداع نحو السماء، هي لحظة عشق لا يٌقدم فيها العاشق الورود، بل يُقدم الروح، تلك هي عظمة الرحيل، حيثُ يقتطف فيها الشهيد مجده الخاص، ومنتصر تفوق في تلك اللحظة، إذ أنتزع دون خوف خلوده الشخصي عندما عانق الرصاص.

إذن، هي ملحمة العشق التي يُسطرها الشهيد بالدم، وأكثر هي الملحمة التي نستفيق بعدها من نقمة النسيان، إلى نعمة الوعي بضرورة وخيار القتال، بل هي الملحمة التي نكف من بعدها عن السقوط في دوامة الاحلام، والأهم أنها الملحمة التي تُحررنا من الأوهام، حيثُ الشهيد في ذروة هذه الملحمة هو القادر وحده على انقاذنا من التيه من خلال عقيدته الخاصة، هذه هي الحقيقة التي علينا عدم إخفائها، وأنّ لا نخجل منها، ولذلك علينا أنّ نجد أنفسنا مدفوعين دوماً بنداء الملحمة، بل والمهمة، والأكثر الأبحار تحت شموس مختلفة، ولربما هذه الكلمات هي وصية الشهيد منتصر زعاقيق، القصد أنّ نُقاتل لا أنّ نفعل شيء آخر.

لا مناص، كان يؤمن منتصر كما كل الشهداء، أنَّ عليه الاحتراق من أجل إنارة الطريق للشعوب المقهورة، بل وصناعة التاريخ بمنجل الصبر، والإرادة، والتضحية، فالشهداء يعتادون القتال حتى تحقيق الحلم، ويمارسون النضال حتى النصر، إذ في قاموسهم لا مكان للهزيمة، إذ قوة الإيمان هنا هي مخزون استراتيجي، ومن عمق هذا الايمان يدركون جيدًا أنهم في نهاية اللعبة هم مشاريع شهادة، فالشهادة هي درسًا للباقين هنا، القصد أولئك المنتظرون دورهم بمرارة كما وصف من قبل الشهيد غسان كنفاني .

حتماً، لقد أنهار النص بالفعل، وسقطت الكلمات على ركام الفكرة، وبالعودة إلى لحظة العشق الأخيرة، بالعودة إلى الطلقة الأخيرة قبل الرحيل، لم يتبقى حلول على الأرض لمنع ارتطامها في الجسد، حيثُ رُفع كل شيء إلى السماء، أما عن النص نقول: أنت يا منتصر النص الأخير، بل والأبدي الخالد، أنت النص الحقيقي، لا الوهم، أنت من تقود الكلمات نحو حتفها، وانت أيضًا من تُغربل الأفكار في زمن الإبادة، والجوع، والتشريد، والحصار، والموت، والمجازر، أنت القلم، والورقة، والكاتب، بل وأكثر أنت النص المقدس.

هي حرب الوجود، يرحل فيها الشهيد منتصر زعاقيق معانقًا الفرح لأنه تمكن في النهاية من تحقيق الحلم الذي يراوده بأن يكون شهيدًا، إذ الأمنية هي بذاتها جزء من المقاومة، فالشهادة ها هنا هي سؤال دائم عن الثبات، والجرأة، والشجاعة، والتصميم...، والأهم أنها سؤال دائم عن الصدق، والشهيد منتصر كان صادقًا حتى في الموت ذاته، وهذا ما جعل النصر يلتحم مع الروح التي تحررت من الجسد، تلك الروح التي سبقته إلى بوابات العظيمة، بعد أن جددت العهد والوفاء، وها هي الآن تغفو في مقابر العظماء ما وراء الشمس.

أخيرً وليس آخرً، إلى متى سيبقى النص يستمر في النزيف؟، هو السؤال التائه في صندوق الوعي، رافضًا حتى البحث عن حقه بالإجابة، وحتى يعود السؤال إلى رشده، نقول لك منتصر ما قالته الجماهير الفلسطينية التي رفضت تغيير مسار النعش في مشهد العشق الأخير: "يا بيت أمر طلينا معنى منتصر الغالي، سمرا تزغرد بإدينا، منتصر المجد العالي".

_____

*تم اقتباس العنوان من نص للروائي الفلسطيني مروان عبد العال.