Menu

ازمة الموصل .. تركيا وولاياتها العربية

ازمة الموصل .. تركيا وولاياتها العربية

خاص بوابة الهدف الاخبارية

لا يمكن فصل الازمة الحادثة اليوم بين الحكومة التركية ونظيرتها العراقية عن التاريخ، فالمناطق التي ترمي القوات التركية للتدخل فيها اليوم أي الموصل، وكذلك المناطق التي تتواجد فيها هذه القوات فعليا كانت محل مطالبات تركية قديمة اقدم من قيام الجمهورية التركية ذاتها، وهو ما يعطي الرغبة التركية في التدخل العسكري ابعاد اكبر من التدافع الاقليمي الحالي حول النفوذ في العراق.

واذا كان الاعلان الرسمي العراقي عن القوات التركية المتواجدة اليوم في العراق كقوات احتلال وطلبه منها الخروج فورا من اراضيه يصنفه بعض المتابعين بوصفه جزء من التأثير الايراني، فإن ثمة وجوه للقصور في هذه القراءة وهو اغفال تاريخ هذه المنطقة، وكذلك التجاوز عن حقيقة كيفية تشكل الدول وترسيم حدودها وتغييرات هذه الحدود في عالمنا اليوم.

انبثقت الجمهورية التركية من انهيار الدولة العثمانية بنهاية الحرب العالمية الاولى، ولكن لتنال هذه الجمهورية استقلالها والاعتراف بها كان على حكومة انقرة انذاك ان تخوض حرب دامية في مواجهة الحلفاء، وما كان لهذه الحرب ان تنتهي الا بتوقيع اتفاقية لوزان الثانية 24 يوليو 1923 والتي رسمت فعليا حدود هذه الجمهورية، واجبرتها على الاستغناء عن أي مطالبات اخرى بحدود ما عرف ذات يوم بالامبراطورية العثمانية.

احدى النقاط التي بقيت عالقة في خلفيات تلك الاتفاقيات كانت المطالبة التركية بالسيادة على منطقة الموصل العراقية، فتلك المدينة الزاهرة تجاريا قد تضاعفت اهميتها بفضل اكتشاف النفط في محيطها، هذا الخلاف اجبرت تركيا على التنازل فيه لبريطانيا التي كانت تسيطر على العراق انذاك وتحتكر تمثيله دوليا ليتم ترسيم الحدود بين "المملكة العراقية" و الجمهورية التركية بما يشمل سيادة العراق على الموصل وفي المقابل تطوعت بريطانيا بتقديم نسبة من العوائد النفطية الموصلية العراقية لتركيا كنوع من الترضية.

لم تتنازل الجمهورية التركية عن "الاملاك العثمانية" فحسب بموجب هذه الاتفاقيات، بل اعادت تشكيل هويتها كدولة قومية ذات ولاء وتحالف واضح مع الغرب يشمل تبني القيم الغربية في كل مناحي الحياة في هذه الجمهورية الوليدة، وهو امر لم ينقطع في ظل كل تلك التبدلات التي مرت على الحكومات التركية، ولكن منذ صعود "العثمانيين الجدد" كما يطلق قادة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا على انفسهم وحزبهم، تجري مقاربة الامور على نحو مختلف في تركيا.

فعلى النقيض من الجمهورية الكمالية "نسبة الى مصطفى كمال اتاتورك مؤسس الجمهورية التركية" تمضي مؤسسات الحكم واقطابه في تركيا منذ عدة سنوات في مقاربة السياسة الخارجية كورثة للامبراطورية العثمانية، وهذا الامر لم يقتصر انعاكاسه على الشأن الداخلي التركي، وعمليات اعادة تشكيل الهوية التركية وما يمكن ان يصطلح عليه عملية " اسلمة تركيا" او ميلها لاحياء الصلات القديمة مع محيطها المشرقي كما نظر احمد داوود اوغلو.

فمنذ بضعة سنوات يجري النقاش في تركيا حول شرعية تلك الاتفاقيات التي ارغمت تركيا فعليا على توقيعها مع الحلفاء كثمن لاستقلالها، ومن التناول في كتب هامشية انتقل هذا النقاش الى موائد مراكز ابحاث حكومية وشبه حكومية، لتطفو الى سطح السياسة الرسمية وبشكل معلن من خلال تصريحات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في كلمة له أمام رؤساء الإدارات القروية في أنقرة الخميس 29 سبتمبر/أيلول 2016:" قاموا بإجبارنا على التوقيع على معاهدة سيفر عام 1920 وأقنعونا على التوقيع على معاهدة لوزان عام 1923. لقد حاول البعض خداعنا بتصوير هذه المعاهدة كانتصار، لكن كل شيء كان واضحا. في لوزان، تخلينا لليونان عن جزر في بحر إيجه، على الرغم من أن الصرخة من هناك تسمع على الشواطئ التركية ( قريبة جدا من الساحل التركي). هناك توجد مساجدنا ومقدساتنا" ، واذا كان حديث اردوغان قد صوب تجاه المناطق الاوروبية من الامبراطورية العثمانية السابقة، فان جنوده قد تحركوا بالفعل ليجتاحوا مناطق عربية في شمالي سوريا والعراق.

فخلال فترة قصيرة باتت القوات التركية تسيطر فعليا على حوالي 5000 كليومتر مربع في الشمال السوري ناهيك عن تلك المناطق التي يسيطر عليها حلفاءها، و تعلن الحكومة التركية بوضوح عن رغبتها في الحصول على التأييد الدولي لتنفيذ مشروع " المنطقة الامنة" شمال سوريا والذي يعني عمليا وضع هذه الاراضي تحت السيطرة التركية.

لا يمكن ربط الرغبة التركية بالسيطرة على المناطق المتاخمة لها في سوريا والعراق بالهوية الايديولوجية للحزب الحاكم حاليا في تركيا فحسب، فلتركيا تجربة سابقة مع الشمال السوري، تم فيها ضم مناطق معروفة تاريخيا بهويتها السورية الى الجمهورية التركية، كان اخرها وليس اولها لواء الاسكندرونة السوري الذي جرى اقتطاعه من سوريا، فيما تجري حاليا مشاريع طموحة لتكييف النظام السياسي التركي باتجاه اللامركزية وتعزيز دور الولايات والمحافظات داخل هذا النظام ، وفي المقابل يجري تكييف هوياتي يقول ان كل ابناء الامة التركية اخوان في الاسلام أي كانت هوياتهم العرقية، هذه المقدمات التي يبدوا انها لا تسبح في الفراغ ولا يمكن قراءتها بمعزل عما يجري على الارض او عن تاريخ هذه المنطقة.

يمكن القول كخلاصة ان حالة الضعف العربي التي اغرت العديد من فرقاء الاقليم بمد نفوذهم في الدول العربية عبر التحالف مع بعض القوى المحلية بداخل هذه الدول، تم تجاوزها باتجاه التدخل العسكري المباشر لانتزاع اجزء من هذه الدول خارج حقل سيادتها على الاقل في الطور الاول بما قد يشكل تمهيدا لضمها، انتقال المشهد في الاقليم الى هذا الطور ينذر بمرحلة مقبلة اكثر سخونة، قد تجعلنا نتذكر ان الحرب بالوكالة او الحرب الاهلية مقارنة بما هو قادم ما كان الا جولة اولية لصراع يبدو انه كفيل بتفجير المنطقة والحكم على مستقبل الكثير من اجيالها القادمة.