Menu

مقابلة خاصة مع ميشيل خليفي

ميشيل

إسلام السقا

نُشرت هذه المقابلة في الملحق المطبوع لمهرجان أيّام سينمائيّة في دورته الثالثة

في أيار من عام 1987 تسلّم ميشيل خليفي الجائزة الأهم في حياته عن فيلم عرس الجليل وهي جائزة النقّاد في مهرجان كان السينمائي الدولي. قبلها بسبع سنوات كان قد أطلق خليفي فيلمه الأوّل بعنوان الذاكرة الخصبة معلناً عن بدء مشروعه الشخصي في إعادة صياغة الذاكرة الفلسطينية واقتناص لحظاتها التاريخية، بل يذهب لأبعد من ذلك فيتنبأ بأهم أحداث القضية لاحقاً. مع الذاكرة الخصبة وما تبعه من أفلام، بلور ميشيل خليفي عنوان الهوية الحديثة في السينما الفلسطينية، عدا عن كونه صاحب أول فيلم يصدر من داخل الأراضي المحتلة عام 1948. ليتحول بعدها بسنوات إلى واحد من أهم مخرجي السينما الثالثة في العالم، فتُدرّس أفلامه في أهم المعاهد السينمائية حول العالم بينما يُحاضر هو في معهد السينما في بروكسل حيثُ يقيم. يؤمن خليفي بإعادة خلق العلاقة الروحية بين الإنسان وثقافته، فمن أجل الدفاع عن شيء يجب أن نحبه، ولكي نحبه علينا أن نفهمه، كما يقول. صاحب مقولة أن السينما هي فن المدن الكبرى يحدثنا عن علاقته بهذا الفن. فيقول “أنا من جيل يخاف النرجسية” قبل أن يلقي بعض الأبيات الشعرية لمحمود درويش من قصيدة نشيد “وكل جميلة في الأرض تقبّلنا، وكل حديقة في الأرض نأكل حبّة منها، وكل قصيدة في الأرض إذا رقصت نخاصرها، وكل يتيمة في الأرض إذا نادت نناصرها” في سياق تأكيده على اهتمامه بالفلسطيني كإنسان قبل كل شيء، وأن هويتنا وثقافتنا هي منبع أعمالنا الفنية ولا يمكننا الانسلاخ عنها مهما حاولنا.

على هامش أيّام سينمائيّة في فلسطين نلتقي بالمخرج ميشيل خليفي الذي حضر لتقديم ماستر كلاس،  ونجري معه الحوار التالي.

في المشهد الأخير من فيلم عرس الجليل يخرج الحاكم وسط أهالي البلدة ويرمون أمامه الأشياء، ما دلالة هذا المشهد خصوصاً وأنه يُعتبر اليوم المشهد الذي تنبّأ باشتعال الانتفاضة الأولى، كما تقول الباحثة آنا بال؟

أرى بأن الانسان عليه أن يكون أذكى من أي سلطة في العالم. وهذا يعني عدم الدخول في أي لعبة يفرضها النظام عليك. لا يكفي التمرد هنا ولكن يجب أن تكون ذكياً. هي علاقة ندية عليك أن تفوز بها، وهذا يقودنا إلى فكرة النضال السلمي واللاعنف، وهكذا قد بدأت الانتفاضة فعلاً. عرس الجليل كان بعد طرد الفلسطينيين في لبنان وبعد الانقسامات داخل الحركة الوطنية الفلسطينية. وقد حاولت أن أربط الفيلم بتلك المرحلة التاريخية قدر المستطاع.

استخدمت في عدد من أفلامك ممثلين عاديين، وقمت بالتصوير في أماكن عادية مثل أراض زراعية. هل تعتبر نفسك قد تأثرت بأي من الموجات السينمائية العالمية أو بعض التجارب العربية؟

للأسف لم أكتشف السينما العربية إلا متأخراً. بالطبع قد تأثرت بالسينما العالمية. ليس لدي مخرج مفضل لكن هناك عدد من المخرجين الذين أحبهم من ضمنهم المخرج الهندي ساتياجيت راي، عليكم أن تكتشفوه. أحب روسوليني وبازوليني وفيلليني وانطونيوني من السينما الايطاليّة. هم زملاء ومعلّمين وقد نقلوا تجارب إنسانية مذهلة. أحب مخرجين فرنسيين من الموجة الجديدة وما قبلها وآخرين من ألمانيا والاتحاد السوفييتي وغيرها.

مرّت السينما الفلسطينية بعدد من المراحل المختلفة، وقد قسمها جورج خليفي في كتابه إلى أربع مراحل تنتهي بك. ماذا تسمّي المرحلة التي نعيشها اليوم؟

نحن اليوم في مرحلة سينما ما بعد أوسلو. وهي مرحلة تحمل تأثيرات نتلقاها من الآخر خلقنا من خلالها جدلية معينة. وهي أننا لم نعد مجموعات بل نحن أفراد تجمعنا حالة مشتركة. لهذا توقفت مدة طويلة عن صناعة الأفلام. لم أجد أن هذه الحالة الصحية لصناعة الأفلام.

قمت بتصوير أكثر من فيلم في قطاع غزة، فيلم حكاية الجواهر الثلاث وفيلم نشيد الحجر. ساعياً لتوحيد فلسطين سينمائياً لكن من الملاحظ أن السينما الفلسطينية تنقسم جغرافياً كلّ بحسب مكانه ومشاكله وهمومه بانفصال عن بقية المناطق وكأنه استسلام للواقع، هل ترى هذا صحيحاً؟

كان فيلم “حكاية الجواهر الثلاث” هو الفيلم الوحيد في ذلك الوقت الذي استخدمنا فيه الإمكانيات الكاملة لتصوير فيلم محترف من طواقم ومعدات وادارة انتاج. بالنسبة لي كان الهاجس هو توحيد فلسطين فلسطينياً والوعي بهذه النقطة أتى من خلال الأدب الفلسطيني، فسداسية الأيام الستة لإميل حبيبي وحّدت فلسطين أدبياً. كان لدي وعي توثيقي لتلك المرحلة، أحببت أن أصوّر للفلسطيني تلك المرحلة بجمالها ومشاكلها كما هي كي أثري المحتوى المرئي الفلسطيني.

بعد مهاجمتك في أكثر من مرحلة، عربياً، خصوصاً بعد فيلم عرس الجليل. هل تشعر بأنك لا تملك حريتك الكاملة هنا؟

هناك مقولة أحبها لبرتولد بريخت في كتاب حوار المنفيين وهي أن المنفي هو أكثر إنسان جدلي، كونه قد جاء من داخل المجتمع الذي احتواه ولكنه الآن خارجه. وهذا ما يخلق علاقة جدلية بين الفرد وبين مجتمعه الأول، فيكون دائماً إنساناً نقدياً. كل ما أفعله هو أنني لا أخجل من إظهار غسيلنا أمام أعين الناس. وكل ذلك في ظل الاحتلال. مثلاً “الذاكرة الخصبة” هو فيلم عن الذاكرة تحت الاحتلال، فيلم “معلول تحتفل بدمارها” يُعتبر قراءة للتاريخ تحت الاحتلال، فيلم “عرس الجليل” هو الفرح تحت الاحتلال، “نشيد الحجر” يمسك بالألم تحت الاحتلال، حكاية الجواهر الثلاث كان عن الطفولة تحت الاحتلال. وهذا هو مشروعي الأساسي.. التجربة الإنسانية الفلسطينية تحت الاحتلال.

عدد من المخرجين استخدم اسلوبك في تصوير الأفلام ما بين الوثائقي والروائي. لماذا اعتمدت هذا الأسلوب؟

عليك أن ترتكز على الوضع العام، نحن أتينا من مجتمع فقير، لا بأس بأن يحلم البعض بإنتاج أفلام أمريكية لكنني أملك مقولتي الخاصة “أنا مع ثقافة الفقراء ضد فقر الثقافة” بالتالي عليك أن تصنع أفلامك بما تملكه من إمكانيات محدودة.

إن كانت الإمكانيات ليست عائقاً؛ ما رأيك بمن يسعى للحصول على تمويل الأفلام الفلسطينية من وزارة الثقافة الإسرائيلية؟

أنا مع تعددية التجارب، وتراكمها. وأيضاً أقف إلى جانب ضمير ووعي الآخرين ولا أتهم أحداً في وطنيته. لكن لا ننسى أن هنالك حركة مقاطعة وتمتلك مبادئها. أنا اتفهّم مطلب فلسطينيو أراضي 48 باسترجاع أموالهم التي يدفعونها كضرائب. من اختار ذلك هو حر لكن عليه أن يتحمل مسؤولية أفعاله. إذا وضعت إسم “إسرائيل” في فيلمك فهناك مشكلة ستواجهها لا محالة مع حركة المقاطعة ولهذا فعليك تحمّل مسؤولية أفعالك. ولكنني مع حق الإنسان في ارتكاب الأخطاء، فبدونها لن يتعلم. وهذا كله يبني لنا مستقبلاً أكثر فهماً ووعياً. وبهذا نوع من أنواع تحرر الإنسان. فحرية المرء تزداد بحريّة الآخرين.

ما الفيلم الذي تفضله عن غيره مما صنعت طوال مسيرتك السينمائيّة. وكيف ترى علاقتك مع الجمهور؟

ليس لديّ فيلم مفضّل. لكن هناك تجارب ومواقف حدثت لا تُنسى أثناء التصوير، وتذكّرها اليوم يبعث على الضحك. أمّا الجمهور فإنه بوجهة نظري لا يمتلك هاجس الإبداع، وهو مُستهلك. يشبه حبّة التين، يكون في بعض الفترات رائع فيشارك الكثير في قطفه، وهذا قد لاحظته في بعض المراحل كان الجمهور يمتلك ثقافة رفيعة فعلاً. أنا أعتقد أن المؤسسات الثقافية تنهار في العالم لأن المسيطر اليوم هو عالم التسويق، بالتالي يستقبل المُشاهد ما يعتقد أنه يريده لكن هناك من يفكّر عنه في عقله فيعتقد أن هذه كلها من بنات أفكاره. لذا نلاحظ رواج برامج التلفزيون والمسلسلات، فهي تخلق النسيان بينما السينما تخلق الذاكرة، وهذا أقتبسه من غودار. التلفزيون يورثنا فعلاً النسيان أما مشاهدة فيلم فهي وعي قبل أن تكون طقساً.

إذا اتفقنا أن سينما ما بعد الاستعمار هي التي تحاول تفكيك وتحدّي الرواية الاستعمارية وطعن مخلفات الاستعمار، ومواجهة السينما الامبرياليّة مثل “السينما الثالثة” والتي تُعتبر السينما الفلسطينية نشطة جداً فيها. فهل حققنا في أفلامنا هذه الحالة أم لا؟ أي التسميات تلائم واقع السينما الفلسطينية أكثر؟

أنا لا أتفّق على هذه التسمية، وأحب تسميتها بسينما الاستقلال لأن “سينما ما بعد الاستعمار” كمصطلح يلغي سعينا المستمر لوجود دولة، وهو مصطلح دعمته الاكاديميا الأمريكية. لم يكن التفكيك بالنسبة لنا هو المهم، كانت له مرحلته في الستينيات وبداية السبعينيات، لكن بعدها أصبحنا في مرحلة تعكس الصدمة التي أصابت شعبنا. وقد سيطرت حالة من الحنين على السينما الفلسطينية، وهذا قد لاحظناه في الشعر والأدب وأيضاً على مستوى الفكر السياسي الفلسطيني. فالفقدان باعث على الحنين. لدينا علاقة عضويّة مع الماضي من أجل بناءه. أنا أعتقد أننا نحتاج إلى مدرسة ماركسية لإعادة علاقتنا مع زماننا الصحيح، فأنا ضد إلغاء المفاصل التاريخية التي عشناها ودمجها بخانة تبدو فيها الأزمنة تشبه بعضها البعض. التجارب تختلف باختلاف الأجيال. ولكل مشروعه، فالمشروع السينمائي الذي كنت أقوم به أنا هو مشروع جاء نتيجة مواقفه وديناميكية معينة وخاصة، أي لا ينتمي لحالة معممة بل هو مشروع شخصي فمن غير الممكن تعميم مصطلح سينما ما بعد الاستعمار على كل التجارب. مثلاً، صنعت أول أفلامي، الذاكرة الخصبة، وتعمّدت فيه النظر إلى الماضي من خلال الحاضر من أجل مستقبل أفضل. أنا أفضّل كتابة تاريخي الشخصي، واعتبر أننا في حالة استعمار ولكن هذا بالتأكيد لا يمنع قراءة الواقع في ضوء حالة ما بعد الاستعمار.

سؤال أخير حول تركيزك على قضايا المرأة في أفلامك. ترى الناقدة النسوية غياتري سبيفاك أن التخلّص من حالة التابع لا يتحقق إلا بعد كسر قهر المرأة وخلاص تبعيتها جذرياً كشرط أساسي للتخلص من حالة التابع التي هي من مخلفات الاستعمار. هل ترى أنك تشترك بنفس الرؤية مع هذا الرأي خصوصاً وأنك ركزت في أفلامك على معاناة المرأة تحت الاحتلال؟

قلت هذا في الذاكرة الخصبة، وفي عرس الجليل ربما بصيغة أخف، لكنه كان واضحاً أكثر في الفيلم الأول. لطالما ردّدت أن فلسطين هي من وصلني بالمرأة وأن المرأة هي من وصلني بالحريّة. كان الذاكرة الخصبة من أوائل الأفلام التي صنعها رجال في سياق الدفاع عن المرأة. وأعتقد أن هذا جاء انطلاقاً من العالم المحيط بي. مراقبتي لأمي وأختي وأبي وجدّي هي المورد الأول لصنع أفلام كهذه تحمل أفكار كتلك. حاولت التركيز على موضوع تحول الضحية إلى جلّاد، فانزعج الناس مني. لكن ألا نرى هذا في محيطنا كل يوم؟ المرأة تناضل مثلنا من أجل العدالة الإنسانية وأرى أنه من المنطق الأخلاقي أن لا نقبل وضعها في مرتبة إنسان من درجة ثانية لأنه إن فعلنا فإن ذلك لن يختلف عن تصنيف الاحتلال لنا كبشر من درجة ثانية.

المصدر: مدونة شريط سينما