Menu

القدس... فلسطين: الضمير وحده لا يكفي...!

نصّار إبراهيم

القدس... فلسطين: الضمير وحده لا يكفي...!

"الضمير لا يمنعك من فعل الخطيئة، لكنه قد يمنعك من الاستمتاع بها".

"أين ضمائركم...!" أين إنسانيتكم..!" هذان الندءان من أكثر النداءات استهلاكا واستخداما من قبل الناس سواء في حياتهم اليومية أو في القضايا الوطنية الكبرى.

منذ سبعين عاما وكلما تعرض الشعب الفلسطيني لكارثة أو اقتلاع أو مجزرة أو حصار أو حرب وحشية يتوجه بالنداء إلى أمته العربية برؤسائها وملوكها وأمرائها وشيوخها: أين ضمائركم...!

هذا السلوك أو الممارسة يعكسان ثقافة ووعيا محددين يقومان على ثابت أن "الضمير" هو بحد ذاته قوة إنهاض ومواجهة... وبالتالي تجري مخاطبة ذلك "الضمير" بصورة مباشرة حين تتعرض القيم أو الحقوق لانتهاك صارخ، ذلك لأن "الضمير" هو الحد الأقصى الذي يكثف الوجدان والالتزام الأخلاقي عند الفرد الذي يعتقد بأنه سيقود مباشرة وفوراً لرد فعل أو مواجهة سريعة  ضد الانتهاكات والتحديات التي يتعرض لها الإنسان أو الوطن في الواقع.

ولكن هل هذا الفهم  وهذا الرهان صحيحان؟ وما هي الشروط الابتدائية التي يجب توفرها لكي يصبح "الضمير" قوة فاعلة ومجدية؟.

   "الضمير أو ما يسمى الوجدان هو قدرة الإنسان على التمييز فيما إذا كان عمل ما خطأ أم صواب أو التمييز بين ما هو حق وما هو باطل، وهو الذي يؤدي إلى الشعور بالندم عندما تتعارض الأشياء التي يفعلها الفرد مع قيمه الأخلاقية، وإلى الشعور بالاستقامة أو النزاهة عندما تتفق الأفعال مع القيم الأخلاقية، وهنا قد يختلف الأمر نتيجة اختلاف البيئة أو النشأة أو مفهوم الأخلاق لدى كل إنسان" (ويكيبيديا).

يشرح د. مضر بركات من سورية هذه الفكرة بصورة أكثر وضوحا يقول "الضمير هو آلية فكرية لحظية لتمييز الصح من الخطأ والخير من الشر..، تعمل على تفنيد مُعطياتِ مُدركٍ واحدٍ فقط في اللحظة الواحدة..، وهذا المُدرَكُ هو مُعطياتُ الحَواسّ الستة في تلك اللحظة..، والضمير (الوجدان) يكون في تلك اللحظة محكوماً بعوامل كامنة في اللاوعي، منبعها تربوي مبني على تراكم خبرة الفرد في التمييز بين منعكسات نتائج السلوك على الفرد ذاته ثم على محيطة الجماعي، وهي البهجة والارتياح أو الألم، البهجة ممثلة بالمكافأة أو النجاح، والألم ممثلاً بالعِقاب أو الفشل..، وبالتالي تكون هذه العوامل هي منعكس طبيعي للمزاج الآنيّ للفرد، وتتعدد وتختلف باختلاف الأفراد، لذا يتعذّر إحصاؤها وتحليلها وترجمتها إلى قواعد رياضية ثابتة، فيُستعاض عن ذلك بالمَعيَرة والقياس للتعميم.." (د. مضر بركات – 2017).

جوهر الفكرة هنا هي أن الضمير وحده ليس كافيا لإدارة المجتمع والتصدي للتحديات الهائلة التي يتعرض لها، كما ليس كافيا لمواجهة مشاريع الاحتلال والهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية، أو واقع الاستغلال والنهب والتخلف، فهذه كلها نتاج بنى اجتماعية تعكس مصالح وعلاقات قوة لا تكفي مناشدة الضمير لمواجهتها والتصدي لها.

  فالضمير بدون منظومة سياسية وثقافية وقانونية سيكون مجرد استجداء لا أكثر، هذا يعني أن الضمير يجب أن يستند لرؤية اجتماعية وسياسية توفر الإطار الاجتماعي والثقافي والسلوكي الذي يتيح المجال لفاعلية الضمير كإحدى آليات الضبط والرقابة الذاتية.

فمن تجربة الحياة نلاحظ أنه وبالرغم من أن الخطاب السياسي والأعلامي والثقافي والاجتماعي في المجتمعات العربية مثقل  بالأخلاق والضمير كمقدس.. إلا أن كل ذلك لم يوقف الفساد ولم يستنهض الأمة لمواجهة مشاريع الاحتلال والنهب والهيمنة، كما لم يستطع أن يوقف ثقافة التمزيق الطائفي والاجتماعي وثقافة الأقصاء ونهب ثروات الشعب وتبديد مقدرات الوطن الطبيعية وعدم احترام الملكية العامة وحقوق الناس الثابتة.

ولنا اليوم فيما يجري في مدينة القدس من عدوان ومشاريع إسرائيلية وحشية برهان آخر على أن كل النداءات الموجهة لضمير الأمة والإنسانية والقادة لم يحرك ساكنا...

فما الذي يمكن للضمير أن يفعله  للقدس ولقضة فلسطين وحقوق شعبها مثلا، في واقع سياسي واقتصادي  يقوم على المساومة وتبديد حقوق الشعب الفلسطيني وغياب استراتيجية وطنية فلسطينية جامعة وإرادة سياسية جوهرها مقاومة الاحتلال بكافة أشكال المقاومة وصولا لإنهائه واقتلاعه!!!؟.

إذن هناك شروط ابتدائية حاسمة بدون توفرها تبقى مخاطبة الضمير وحده كقوة مواجهة وتصحيح أقرب للسذاجة منها لوعي رصين.
ركيزة هذه الشروط  بناء أو السعي لبناء منظومة سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية وتربوية وتعليمية وإعلامية وحقوقية تلتزم بحقوق الناس وتدافع عن مصالح الأمة، إذ يستحيل أن يتأسس النظام السياسي على التبعية والخضوع للقوى الاستعمارية الخارجية ثم نأتي لنطلب من الضمير الفردي  وحده أن يواجه ما يترتب على هذا النظام من كوارث، أو أن يكون الوطن مزرعة لطبقة ثرية تبدد ثرواته وتنهبها ثم نطلب من الضمير أن يتصدى..

ما اريد قوله أن الضمير لكي يفعل فعله كقيمة إيجابية مضافة مشروط بتوفير رؤية وبرامج وبنى وقوى سياسية وثقافية تستهدف تنظيم وحشد القوى الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير أو مواجهة الاختلالات... بمعنى أن الضمير يحتاج لقوة اجتماعية وسياسية وثقافية منظمة لكي يكون مجديا...

وبهذا المعنى كانت أمي تقول: "المال السّايب بعلِّم السرقة...!"... وأحيانا كانت تضيف بسخرية مُرّة"شو بدها تعمل الماشطة في الراس العِكِش..!"... والماشطة هنا كما أفهم تعادل "الضمير" الذي نتحدث عنه ونناديه ونناشده ليتصدى لويلات الواقع...  بمعنى أن الضمير بدون قوة تسنده سيداس ويسحق بلا رحمة تحت أقدام همجية الواقع وعلاقاته وموازين القوى المختلة.