Menu

قناع الصهيونية القبيح: ديمقراطية ويهودية وتطهير عرقي

هدم أم الحيران

بوابة الهدف/ أحمد.م.جابر

ربما لم يواجه تاريخ الاستعمار من قبل كذبة مشوهة للواقع، أكثر من كذبة "اليهودية والديمقراطية" المميتة، التي تحاول دولة "إسرائيل" ترويجها والتي تستخدم كذريعة ليس فقط نهب الأرض الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967 بل أيضا، لنهب أرض الفلسطينيين، داخل الخط الأخضر التي تزعم أنهم مواطنون كاملوا الحقوق فيها.

تستغل المؤسسة الصهيونية حقيقة أن العالم يركز أنظاره على الأراضي المحتلة والاستيطان والنهب الدائر هناك، ولايعير انتباها لما يحدث حقا داخل حدود "إسرائيل" التي يتم الاعتراف بها كدولة ذات سيادة، حيث تتم ببطء عملية سحب الأرض من تحت أقدام سكانها الشرعيين، وتكريس نظام مشين للفصل العنصري تتحول فيه القرى والبلدات العربية داخل الخط الأخضر إلى معازل محاطة بالوجود الاستيطاني اليهودي، وتصادر أراضيها وتمنع من التوسع وتحجب عنها إمكانية التخطيط الهيكلي المستقبلي.

ذلك ما يحدث في أم الحيران، مثلا، كنموذج بسيط لقرية هدمت وأعيد بناؤها عشرات المرات في مواجهة مستمرة ومفتوحة، ولكن صمود أم الحيران لايعكس في الواقع عدم جدية الاحتلال، بل اصراره المريع بآلة هدمه الجبارة على تنفيذ مآربه، لطرد البدو الفلسطينيين واحلال اليهود مكانهم، في النهاية هذا هو المنطق الاستعماري البغيض الذي طبق في كل مكان: لامانع من انزياح السكان الأصليين قليلا ليكون هناك امكانية للرجل الأشقر ليسكن ويمد قدميه تحت شمس الغزو الحارقة.

لكن هذا ليس صراعا من أجل البقاء كما زعم منظرو الاستعمار وهي المقولة التي بقيت حاضرة في أدبياتهم، بل هي حرب إبادة، حرب إزاحة شاملة، واحلال، هذا جوهر المشروع الاستيطاني الصهيوني: إجلائي واحلالي، وليس بالضرورة أن ينفذ الشق الأو "الإجلاء" بدون دم، بل طالما كان الدم محبذا ومطلوبا كدرس اضافي "للهمد والبدو" كما ذطرت تقارير العصابات الصهيونية.

كتب كالب كار  carr  كتابا عن انتفاضة الهنود السيوكس Sioux في مينسوتا عام 1862 مؤكدا أن المواجهة في مينسوتا كانت حربا شاملة بين أمتين متنازعتين على السيطرة على منطقة كانت كلتاهما مستعدة للموت في سبيلها. «بالنسبة لإحداهما كان الاستيطان أملا أخيراً، فقد كانوا لا يخاطرون بأموالهم فحسب بل بأرواحهم ذاتها، من أجل إقامة حياة جديدة في بلد بكر، أما بالنسبة للسكان الأصلين، ففي البداية على الأقل كانت شروط الصراع أقل مصيرية، بوسعهم - بعد كل حساب - أن يرحلوا إلى الغرب قليلاً!!»

يتجاهل كار ، أن هؤلاء المستعمرين لم يكونوا أمة أبدا بعد، لم تكن أرضا بكرا، لم تكن أرضا "متنازع عليها" طبعا، وهو يدرك تماما أنه كلما رحل الهنود السيوكس غربا سيطلب منهم الرحيل من جديد، أنظروا إلى أم الحيران، وبدو الجهالين في الخان الأحمر !

ورغم أن المسألة ليست أبدا كما عرضها كار، إلا أن طبيعة الصراع تجعل بالفعل المسألة مسألة حياة أو موت، و استعداد المستوطنين للموت في سبيل الأراضي المنتزعة هو جوهر الإلغاء، هنا يتقمص الغازي عقيدة فاسدة تتحدث عن « أرض بكر» جوهرها (إما نحن أو هم) وطبعا سيزيد احتدام هذه المعادلة أن السكان الأصليين لن يتخلوا عن حقهم الشرعي في أرضهم بسهولة الحل إذن في أبادتهم، يذكرنا هذا بمقولة الإحلال الصهيونية بوجهها القبيح فالحرب حرب وجود، على أرض يتنازعها (اليهود) مع (العرب) وهي (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) وإمكانية الرحيل إلى الغرب قليلاً بمقال المستوطنين الأوربيين تعادل تماما مقالة الصهاينة أن العرب يملكون الكثير من الأرض، ليستوعبوا الفلسطينيين عندهم إذن، ولكن كما أن الغرب لا نهائي وسيتمدد باستمرار ويدفع الضحايا إلى البحر والموت كذلك سيكون دائما لدى العرب المزيد من الأرض ليحصل اليهود على بعضها.

وبالتالي لايعود غريبا أن يكون قسم الاستيطان التابع للوكالة اليهودية هو أكثر مؤسسات الكيان تنظيما وكفاءة عملية نظرا للمهمة المنوطة به التي هي في النهاية مهمة حياة أو موت للدولة "اليهودية" المرغوبة.

تتعمد الشعبة المذكورة "شعبة الاستيطان" وضع مخططات المستوطنات الجديدة على صدر المناطق العربية في النقب والجليل، بنحو يخنق هذه المناطق ويمنع توسعها، فاستعمار النقب والجليل مهمة استراتيجية للدولة اليهودية، ولايمكن القول بدولة يهودية دون تهويد النقب والجليل.

تأسست شعبة الاستيطان عام 1967، كسلاح مميت ضد الوجود العربي الفلسطيني في الأراضي المحتلة،  والبديهي أن يظن أن الغرض منها العمل في المناطق المحتلة ذلك العام، ولكنها في الحقيقة تم تأسيسها لعمل مزدوج وإن كان جوهره "تصدير" المعرفة والخبرة الإسرائيلية في "استرداد الأرض"، في مسعى لهندسة البلاد جغرافيا وديمغرافيا لصالح السيادة اليهودية، لاحقا جاءت الأوامر لهذه الشعبة لبدء العمل أيضا في الجليل والنقب.

الهندسة الديمغرافية تعني اعادة التجميع، الضبط، الحصر، والتحكم اللمطلق بالأقلية العربية الفلسطينية، ليس في حركتها ونموها الاقتصادي فقط بل في نموها العددي أيضا، وبالتالي يصبح التضييق الاقتصادي السكني، وسيلة لضبط النمو السكاني واجهاض الزيادة الطبيعية في عدد السكان.

يترافق مع هذا مع ابتلاع الأرض ونهبها: حدائق وطنية، ضرورات عسكرية، أهمية استراتيجية، وفجأة يجد الفلسطيني كتلا استيطانية تنبثق أمام عينيه وعلى أرضه، فهي حقا ديمقراطية .. ولكنها ديمقراطية يهودية، لليهود فقط.

ويقول كاتب إسرائيلي أن تزاوج الديمقراطية واليهودية، في شعار دولة "إسرائيل" ضرورة دعائية لابديل عنها للتغطية على نظام أبارتهايد وممارسة جميع اجراءاته دون رقابة عالمية صارمة، فقد كان مصطلح "ديمقراطية" ضروريا للتمويه على طبيعة النظام واجراءاته القاتلة. وتمكن النظام من اتخاذ "إجراءات استثنائية" دون رقابة، ودون تدقيق في جوهرعا العنصري.

وقد قامت "إسرائيل" فعليا بفضل هذه  "التدابير الاستثنائية". التطهير العرقي لمئات الآلاف من الناس الذين طردوا أو هربوا من أراضيهم دون أن يتمكنوا من العودة. عرب أقل، أرض أكثر، يهود أكثر تلك هي المعادلة الاستراتيجية في مشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين.

يقول نعوم تشومسكي مستندا إلى كلمات كار أعلاه، « يمكن أن نتصور لو أن النازيين انتصروا في الحرب الأوربية إذن لربما كان مؤرخ ألماني متأخر ليكتب أن المواجهة بين الألمان والسلاف على الجبهة الشرقية لم تكن مرتبطة بأفكار ذات شأن، مع انه من أجل الظهور بمظهر متوازن يمكن أن يتذكر أنها كانت حربا شاملة بين أمتين تتنازعان السيطرة على منطقة كانت كلتاهما مستعدتين للموت في سبيلهن أما السلاف فكانت شروط الصراع أقل مصيرية بالنسبة لهم مقارنة مع الألمان الذين كانوا بأمس الحاجة لمجال حيوي، وكانوا لا يخاطرون بأموالهم فحسب بل بأرواحهم ذاتها بأمل إقامة حياة جديدة في بلد بكر، فقد كان بوسع السلاف بعد كل حساب أن يرحلوا إلى سيبيريا». ولنتأمل ما يمكن أن يكتبه مؤرخ صهيوني عن أن بوسع الفلسطينيين والعرب أن يرحلوا إلى صحرائهم!!

 كلمات كار لم تكن مجرد تهاويل مؤرخ بل أن جورج واشنطن قائد أمريكا المستقلة كان قد سبقه منذ عام 1783 «إن التوسع التدريجي لمستوطناتنا سيجعل المتوحشين يتراجعون تدريجيا، كذلك الذئاب فكلاهما طرائد للصيد مع أنهم مختلفين شكلاً» وها هو صدى الكلمات يتردد على لسان داني روبنشتاين «على الفلسطينيين أن يقبلوا حكما ذاتيا على غرار معسكرات أسرى الحرب، يستطيعون في ظله أن يجمعوا الزبالة في المناطق المخصصة لهم».