Menu

الوطن أكبر بكثير من همومنا الفردية

المصالحة

بقلم / أبو فايز

بدل محاولة الخروج من نفق أوسلو والذي ثبتَ فشله وباعتراف صانعيه ومؤيديه، ما زال أولئك يصرّون على السير بتلك العتمة والرهان على أمريكا والمحتل !، يرونها نوراً ما دامت تحقق أحلامهم هم لا أحلامنا نحن ( والفارق كبير بين الحلمين )، بدل ذلك تزايد التهافت على بابه حتى ممن رفعوا شعارات وطنية كبيرة، وانتقدوه وجرّموا وخوّنوا أصحابه، لن تعنيني البدايات الجميلة والكلمات الحماسية والشعارات الوطنية وحتى البنادق إن كانت النهايات ستكون هنا بذات النفق، حتى وإن اختلفت صورتها أو أنكر أصحابها أنها كذلك أو ساقوا لها تبريرات كثيرة، فالأسوأ من الخيانة والسقوط هو تبريره، والفضيلة الكاذبة رذيلتان لا واحدة.

 ما نعانيه ليس بسبب أزمة حركة فتح أو حماس أو اليسار، بل أزمة المشروع الفلسطيني برمّته، وأزمة المنطقة العربية ككل، وما الوصول لمرحلة أوسلو بكل مصائبها سوى نتيجة لتلك الأزمات فلسطينياً وعربياً، لم يقف التدهور بالمشروع الفلسطيني هنا بل تجاوزه لمرحلة أكثر سوءاً تمثّلت بانقسامٍ فلسطيني، قيلَ أنه صراع بين مشروعين أحدهما مقاوم وآخر مفرّط مساوم ! انقسام أتت شروره على كل ما هو فلسطيني سياسياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، ساهم في تشويه صورة هذا الفلسطيني وفتح الباب أمام أقزام كثيرة للتطاول عليه وعلى نضالاته وشهدائه، راكمنا خلال سنينه التي تجاوزت العشرة خيبات كثيرة، وراكم خلالها هذا المحتل إنجازات أكثر، وبدل أن ننشغل بصياغة خطط وبرامج لإنهاء هذا الاحتلال الجاثم على صدورنا، انشغلنا بصياغة مبادرات لحل الإشكال الفلسطيني، وطفنا عواصم كثيرة في محاولاتنا لإنهاء هذا الانقسام، واختزلنا القضية برواتب وأعداد موظفين وتوزيع مناصب وحصص في وزارات ومؤسسات وساعات كهرباء ومعبر وكيس إسمنت !

 لم يكن الانقسام قراراً فلسطينياً كما هي المصالحة التي هبطت فجأة من السماء، ولو كنّا بالأصل نمتلك قراراً فلسطينياً مستقلّاً لما وصلنا هنا منذ البداية. طرفا الانقسام كلاً منهما رأى في نفسه حاكماً شرعياً ومخوّلاً لممارسة كل عقده في منطقة حكمه، وما الآخر سوى خصم خارجٍ عن شرعيته، وما على الشعب سوى السمع والطاعة لولي أمره ! حتى بات الخروج بمسيرة مطالبة بحريّة الرأي جريمة يقف خلفها " الانقلابين " ومسيرة مطالبة بمحاسبة المسؤولين عن مشكلة الكهرباء تآمراً على المقاومة تحرّكها " مخابرات السلطة المرتبطة بالمحتل "، هكذا بسهولة وتحت هذه التبريرات تمت مصادرة وكسر ما لم تقدر على كسره أو مصادرته كل آليات المحتل العسكرية وحروبه. 
اليوم وفي الحلقة الجديدة من مسلسل المصالحة والتي لن يُجيبك أحدٌ من المدافعين عنها عن سبب توقيتها المفاجئ أو بنودها ومدى ارتباطها بالمشروع الوطني التحرري الأكبر والأهم، أو عن جديّتها وضمان نجاحها وعدم عودتنا للمربع الأول وبصورة أكثر سوءاً من سابقاتها، وهل ستذهب بنا سفينتها لاحقاً نحو حريتنا أم أنها ستأخذنا لهاويةٍ أخرى لن نقدر بعدها على النهوض مجدداً؟

 أسئلة كثيرة بلا أجوبة ! وعليكَ أن تنتظر لتكتشف بنفسك وتجيب الأيام القادمة على أسئلتك. الفلسطيني ككل و غزة تحديداً تجرّع مرّ هذا الانقسام ويتطلع لمصالحة تنسيه هذا المرار وتمحو كل ما خلّفه الانقسام من آثار، مصالحة " والأمنيات لو كانت وحدة " تكون لبِنة صلبة يُبنى عليها أخريات مثلها قادرة على إحداث تغيير جذري في المشهد السياسي وعلى الذهاب خطوة للأمام في مشروعنا التحرري، من حقنا جميعاً أن نتساءل وكل الأسئلة مشروعة، والأسوأ اليوم أن يُتّهم المتسائل ويشكك في وطنيته ويهاجم وكأنّه عدو لشعبه ولوحدته ! كأنهم يقولون لك : " لا تبحث في التفاصيل، الوقت غير مناسب لهكذا أسئلة، لنذهب معهم الآن ونرى،... " ! تهاجم وتخوّن وأنت الحريص ؟؟ تتّهم باللامبالاة بعذابات شعبك وبأنك ربما كنت منتفعاً من هذا الانقسام ؟؟ عبارة قرأتها مئات المرات " أنتم لا تشعرون بحجم معاناة أهل غزة، أتركوا الناس لتعيش، لو كنتم هنا لما كان هذا حديثكم،... " هكذا الجميع يتحدثون باسم غزة وكأن غزة الغنيّة عن التعريف مستعدة للقبول بأيّ شيء ! لا يعرف مثل أولئك كم يظلمونها وينتقصون من قدرها ومن عظمة أهلها، أحاديث وعبارات تقرأ فيها سعياً لخلاصٍ فردي بأي ثمن وشكلاً مناطقياً أبعد ما يكون عن الصورة الوطنية الجامعة والهم والهدف المشترك، وبدون قصد ينزلق البعض لهذا الطرح، وكأن الفلسطيني الآخر في الضفة تحديداً أو الداخل المحتل أو مخيمات اللجوء والشتات ينعم بكامل حريّته وحقوقه ؟ ابن الخليل الذي لا يستطيع الوصول لمسجده الإبراهيمي وأحياناً لبيته بسبب الاحتلال هو الآخر يتطلع لخلاصه ويتمنى أن تكون هذه المصالحة سبباً في ذلك، فهل تكون ؟ وابن العراقيب التي هدّمت أكثر من مئة مرة، وابن الجليل الذي أجبره المحتل على هدم بيته المقام على أرضه لأنه بدون ترخيص، وابن نابلس الذي يتمنى ولو لمرة أن ترى عيناه شاطئ حيفا، وابن مخيم الدهيشة الذي يحلم بالعودة لصفد، وابن جنين الذي لا يستطيع الوصول للقدس للصلاة فيها، وفقير لا يجد ثمن دواءٍ لصغيره، ومهندس يشتغل عاملاً في ورشة بناء ليعيل أسرته، وسبعينية تنتظر السماح لها بزيارة ابنها المبعد للأردن، وفتاة تحلم بالحصول على موافقة العدو كي تسافر لتلتحق بخطيبها في ألمانيا، ووو، هو ذات الهم وذات الحلم يا أحبتي، إياكم أن يفصّله أحدٌ منكم على مقاسه، أو يشتكي وكأن البقية لا بلا همٍ ولا يبالون بهمّه.