Menu

بعد سبعين عاماً.. فلسطين الأَبقى

عبد الإله بلقزيز

70

ما من قضيّةٍ في العالم تفضح العالم كقضية فلسطين. في مختبَرها يُمتَحَن كلّ شيءٍ ممّا أنتجته البشريّة المعاصرة من مبادئ ومؤسّسات ونُظُمٍ وقرارات: «المجتمع الدوليّ» وأممه المتحدة؛ القانون الدوليّ وإلزاماته المدَّعاة؛ مجلس الأمن وأعضاؤُه الدائمون وأكوام قراراته؛ المعاهدات والاتفاقات الدوليّة حول تقرير مصير الشعوب على أراضيها ومقدّراتها وحقّها في صون حقوقها غير القابلة للتفويت؛ النظام الدوليّ السابق (نظام العظمييْن) والنظام الدوليّ «الجديد»؛ مؤتمرات «السلام» في جنيف ومدريد ومتفرّعاتها من اتفاقات جزئيّة ممسوخة؛ الحكومات الغربيّة المتشدّقة «باحترام» قيم الحقّ والعدالة والسلام؛ الرأي العامّ الغربيّ والعالميّ «المساند» لحقوق الإنسان وحقوق الشعوب؛ الإعلام العالميّ الذي يقوم ولا يقعد لاستنكار عمليةِ طعنِ مستوطنٍ يهودي، ولا يرفّ له جفن أمام عمليات الإبادة الجماعيّة اليومية لشعب بأكمله ! كلّ ذلك الغلاف من الوقار الزائف، المضروب على هاتيك النُّظم والمؤسّسات والمبادئ والقرارات، يتمزّق أمام حقيقة الكارثة الإنسانية التي حلّت ب فلسطين وشعبها منذ أنِ اغتصبت «إسرائيل» هذا البلد، وأقامت عليه دولتها العنصريّة قبل سبعين عامًا.

وما من قضيةٍ تفضح معظم العرب، وتُزري بصورتهم، كقضية فلسطين. كلّ «نخوتهم»، وعروبتهم، وجامعتهم، ودولهم، وقرارات حكوماتهم، وجيوشهم، واتفاقية دفاعهم المشترك، وسياساتهم الخارجيّة، وأحزابهم، ونقاباتهم، ومجتمعهم المدنيّ، وإعلامهم، وفقهائهم... في الميزان. وفي حساب الميزان ما يفيد أنّ ما من شيءٍ قدّموه للقضية، منذ زمنٍ ما مضى، إلاّ ما يمكن عدُّهُ في حكم الرمزيّ، وأنّ أكثرهم لم يعد -حتّى- يذْكُر فلسطين: التي كانت، إلى عهدٍ قريب، من مصادر الشرعيّة، ومن مسوِّغات التكليف السياسيّ والوطنيّ؛ سواء أكان ذلك على صعيد النخب الحاكمة أم النخب المعارضة والمنظمات والأحزاب.

إنّ الظلم الذي وقع على شعب فلسطين باغتصاب أرضه، وتشريده في المنافي، وسرقة ثرواته، لا سابق له في الحدّة والفداحة، ولا يُقاس به أيُّ ظلمٍ حلَّ بشعبٍ آخر مستعمَر في العالم؛ إذِ الأمرُ فيه لا يتعلّق باحتلالِ أرضٍ يمكن الجلاءُ عنها يوما وتمتيع شعبها باستقلاله- كما جلت جيوشٌ استعماريّة عدّة عن أوطان كثيرة محتلة فتمتعت الشعوب المستعمَرة باستقلالها- بل يتعلّق باستعمارٍ استيطانيّ إحلاليّ يُنكِر وجود الشعب الأصليّ، ويُنكِر حقّه في أرضه، ويستولي عليها بالقوّة المسلّحة ويشرّد شعبها؛ وحين لا يترك له من أرضه إلاّ النزر القليل، الذي لا يَسَعُ جغرافيا عُشرهُ البشريّ، يُغرِقُ ذلك القليل بالمستوطنات، ويمزّقه بالطرق الالتفافية، على مرأى ومسمَعٍ من العالم والقانون الدوليّ والنظام العربيّ، فيما الخرس واللامبالاة سيِّدا الموقف؛ وكأنما الذي يجري على أرض فلسطين المغتصبَة والمحتلّة «شأن داخليّ» «إسرائيليّ»!

لو كان الفلسطينيّون نوعاً من الحيوانات التي توشك على الانقراض، جرّاء إبادتها، لَهَبَّ العالم إلى إنقاذها من الزوال! ولكن يبدو، من أسفٍ، أنّ محنتَهم الوجودية لا تستدرّ عطفَ أحدٍ في العالم ممّن تحدِّد لهم دويلة الاحتلال نوع مشاعرهم، وكيف يصرفونها، ولِمَن، ومتى! ولذلك خَلَتِ السياسات الدوليّة والعربيّة تجاه المأساة الفلسطينيّة من أيّ عاطفة تضفي المعنى الإنسانيّ على الموقف السياسيّ!

الفلسطينيّون وحدهم -وبعضُ العرب معهم في ما مضى- واجهوا مأساة الاغتصاب بالتشرُّد بما أوتوا من قليلِ الموارد والإمكانيات. مَن قَوِي على البقاء منهم في أرضه بقيَ فيها، تحت عنف الحديد والنار، وتمسَّك بالبقاء رغمًا عن العسف «الإسرائيلي» اليوميّ وسياسات التبديد والقمع والميْز، وأنشأ مؤسّساته السياسيّة الوطنيّة يناضل بها دفاعاً عن حقوقه كسكانٍ أصليّين، وكأقلّية قوميّة مهضومة الحقوق. وهذا القسم الباقي من الشعب في فلسطين المغتصبة عام 1948 يوشك أن يبلغ تعداد المليون ونصف المليون إنسان. ومَن أجبرتهم الغزوة اليهودية على الهجرة القسريّة والنفي والإبعاد، واللجوء إلى الجوار العربيّ أو إلى الشتات الدوليّ، أسّسوا الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، في صيغتها السياسيّة والتنظيميّة الحديثة، وأطلقوا الثورة المسلّحة من مراكز عربيّة على تخوم فلسطين. ومَن ظلّ من الفلسطينيين تحت حراب الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزّة و القدس ، بعد احتلالها في العام 1967، أشعل انتفاضتين كبيرتين في العامين 1987 و2000، وموجةً من عمليات المقاومة الوطنيّة المسلّحة وصلت إلى العمق «الإسرائيلي».

وهكذا، بعد سبعين عامًا من مأساة الاغتصاب، والتشرُّد، والاحتلال، والقمع، والميْز العنصريّ، والقتل اليوميّ، ومصادرة الأرض، وسرقة المياه، وتهويد الأرض والمقدّسات، والاعتقالات الجماعيّة وآلاف الأسرى، وهدم المنازل وجرف المزارع والأشجار، والحصار والتجويع والموت البطيء...، واللامبالاة الدوليّة والعربيّة، تظلّ فلسطين في قلب خريطة العالم، ويظل شعبُها في طليعة الشعوب المناضلة من أجل الحريّة. حقيقةٌ هي أشبه ما تكون بالأسطورة بل، قُل، هي الحقيقة التي تقارِع كلّ أسطورة من أساطير القوّة والعنف والتفوُّق العنصريّ.