ظهر مفهوم "المصالحة" كأحد نتائج الانقسام، واستُحضر على ما يبدو من خزين الذهنية القبلية، التي تغلغلت في الساحة الفلسطينية، بفعل أن الصراع الذي جرى وصولاً للانقسام، بدأ وكأنه أقرب إلى صراع بين "قبائل" لا أحزاب وحركات سياسية تتحمل عبء مسؤولية وطنية كبيرة بحجم المسؤولية عن القضية الفلسطينية، واستحقاقات الصراع مع المشروع الصهيوني.
لذلك ورغم كل ما أنجز من حوارات وما ترتب عليها من اتفاقات موقعة، قبل الانقسام وبعده، لم تفلح في إنهائه، بحيث نجد أنفسنا نعود إلى المربع الأول أو نقف على نتيجة "صفر"؛ فنحن لا نزال محكومين لنهجيْن في الساحة الفلسطينية، النهج التوحيدي القائم على مبدأ الحفاظ على المصلحة الوطنية بمستوياتها المتعددة، وتعزيز الشراكة الوطنية، وبين نهج الإمساك بالسلطة وامتيازاتها والتفرد والهيمنة والإقصاء من جهة، والتقاسم والمحاصصة من جهة أخرى، الذي يؤدي إلى مزيد من إضعاف وتبديد الطاقات والمقدرات الفلسطينية، الأمر الذي يفاقم من الأزمات الداخلية بمختلف عناوينها، ويعزز ويولد واقع الصراع والانقسام باستمرار، وهذا ما يطرح سؤال مُحقّ: هل ما كان يجري، حوارات تهدف للوصول لاتفاقات وطنية توضع موضع التنفيذ، أم صراع من نوع جديد، يبرز ثقل أوزان طرفيْ الصراع والانقسام؟!
في كل الأحوال، ما هو محل اتفاق، أن الجهد الضائع على الصراع والانقسام الداخلي، وبحكم منطق الأمور، هو على حساب الجهد الذي من المفترض أن يُبذَل ضد العدو الإسرائيلي المسنود على نحو غير مسبوق من قبل الولايات المتحدة الأميركية.
ما سبق من قول، يطرح أولوية ترتيب أوضاع البيت الفلسطيني (الوحدة الوطنية)، حيث لا تتقدّم عليها أولوية اليوم. وإن لم يُنجَز هذا على أسس سليمة وواقعية، فإن المواجهة والصراع مع العدو الصهيوني تفتقد لشرط رئيسي من شروط العقل السياسي الناجح. فالنجاح في مواجهة العدو، مشروط بالقدرة على توحيد الطاقات الفلسطينية، واستثمار مكونات القوة لدى الشعب الفلسطيني، بأعلى درجة من الكفاءة والاقتدار.
في ضوء ما تقدم، ماذا يعني مفهوم الوحدة الوطنية الفلسطينية بالنسبة لنا؟ وكيف تعاملنا مع هذا المفهوم؟
ترسخ مفهوم الوحدة الوطنية وارتقى في الوجدان الفلسطيني، باعتباره يعني قوة وتواصل وشراكة وثقة بالذات واحتراماً لها كما حمايتها، وحفظاً للذاكرة الجمعية كما الرواية التاريخية الفلسطينية، وأيضًا استثماراً وتحشيداً وتوحيداً لمكونات وطاقات وكفاءات الشعب الفلسطيني، كونها- أي الوحدة- تعبر عن حالة نفسية عاطفية اجتماعية، وردّ فعل دفاعي على واقع الاقتلاع والتمزيق الذي تعرض له الشعب الفلسطيني بعد أن تم ضرب بنيته المادية على أرض وطنه.
فالوحدة الوطنية في هكذا حال، تعادل التماسك والمنَعة والقوة الوطنية والسياسية أمام استحقاقات الصراع مع العدو الصهيوني والقوى الإقليمية والدولية، والاستهداف المستمر لحقوق وأهداف ومكتسبات شعبنا، ومحاولات كي وعيه وتزييف تاريخه، على طريق التبديد والطمس والتمزيق والتذويب والتصفية.
هنا يمكننا التفريق بين نظرتين مختلفتين جوهرياً: الأولى، هي أن مفهوم الوحدة الوطنية أخذ عند الشعب الفلسطيني أبعاداً وتجلياتٍ نفسية عاطفية واجتماعية وسياسية فكرية كبيرة جداً، في محاولة منه لتعويض فقدان قاعدته المادية والاجتماعية وتطوره الطبيعي، جراء تهجيره عام 1948 واحتلال أرض وطنه.
أما الثانية، فهي أن مفهوم الوحدة الوطنية اتخذ عند فصائل العمل الوطني، شكل الائتلاف السياسي لتلك الفصائل على أساس برنامج الإجماع الوطني أو القواسم المشتركة أو التوافق. بمعنى أنه تم اختزال مفهوم الوحدة الوطنية في حدود الوحدة الفصائلية- بعيداً عن أهميتها وضرورتها على الصعيد الوطني/الاجتماعي- وليس باعتبارها رد فعل شامل على واقع الاقتلاع والتشرد الذي تعرض له الشعب الفلسطيني، كما ضرب وجوده المادي، لهذا بقي مفهوم الوحدة الوطنية أسيرًا للتعاطي القاصر معه ومع مدلولاته وتجسيداته الوطنية والاجتماعية.
ما يجب وعيُه هو أن الوحدة الوطنية كمبدأ يرقى من الناحية النظرية إلى مستوى الهدف الوطني، ومن ناحية عملية، بقدر ما ننجح في تحويلها إلى وسيلة اجتماعية سياسية- تنظيمية فاعلة، من خلال تحشيد وتنظيم الشعب الفلسطيني وطاقاته وكفاءاته، لإدارة الصراع ضد العدو الصهيوني.
فالوحدة الوطنية كمفهوم وممارسة، ليس مسألة اختيار فقط، بل هي ضرورة وطنية واجتماعية، إن لم تكن ممرًا إجباريًا مطلوبٌ منا أن نولجه، وبما يتخطى الفهم والممارسة الفصائلية القاصرة والضيقة التي جسدتها أطراف الانقسام وغيرها. بهذا المعنى تغدو الوحدة الوطنية ناظماً للنضال الوطني بالمعنى الدقيق للكلمة، والوصول للوحدة الوطنية بمعناها الواسع والشامل، يستدعي حوارًا وطنيًا حقيقيًا بين كل مكونات الشعب الفلسطيني السياسية والمجتمعية، فإذا كانت الوحدة الوطنية هي الهدف، فإن الحوار الوطني الشامل هو الوسيلة، التي نصل من خلالها إلى وضع القواعد والأسس والنواظم التي ستقوم عليها هذه الوحدة.
وعندما نقول حوار وطني شامل كشرط وضرورة لهذه الوحدة، نعني أننا بحاجة لإعادة النظر في مجمل السياسات والخيارات التي حكمت الأداء الفلسطيني خلال المراحل المختلفة السابقة، بما يضعنا أمام مراجعة جدية وشاملة، للرؤى والاستراتيجيات والسياسات المختلفة، والذي دون تحقيقه يصعب الحديث عن جدية "حوارارت مصالحة الانقسام".