بقلم الأسير عاهد أبو غلمة
بعد انتفاضة شعبية عملاقة شارك فيها كل أبناء شعبنا وأطره وقطاعاته المختلفة واستمرت لسنوات، واستطاعت أن تغرس اسم فلسطين عميقاً في ذاكرة العالم، وتضع القضية على الأجندة الدولية بشكل دائم، وثبتت مصطلح انتفاضة في قواميس ولغات العالم أجمع وأعطت لقيادة العرب وشعوبه الثقة بأن الشعب الحي المقاوم في فلسطين قادر على انتزاع حقوقه ويجب احتضانه ودعم قضيته، ورسمت مستقبلُ مشرق لأبناء شعبنا وقيادته، وفرضت مفهوماً بأن الحقوق لا تضيع مهما طال الزمن أو قصر، وعلّمت العدو الصهيوني معنىً جديداً في المقاومة والنضال، وأن إرادة الشعب أقوى من كل الترسانة العسكرية التي يمتلكها العدو.
بعد كل ذلك وغيره مما حققته الانتفاضة الشعبية في سنوات قليلة، أطلت علينا القيادة المتنفذة في م.ت.ف وأرادت أن تستغل هذا الحدث والإنجاز العظيم في صالح برامجها، تحت عنوان "إحقاق حقوق شعبنا في إقامة الدولة المستقلة" في إطار الموافقة على المفاوضات مع العدو مستخدمةً ذرائع التطورات والأحداث العالمية والإقليمية، حيث انهيار "الاتحاد السوفييتي" وحرب الخليج الثانية وتراجع الدعم العربي والدولي للقضية الفلسطينية، لتهرول أمام أول فرصة تعرض، حيث عقد مؤتمر مدريد "للسلام" بمشاركة فلسطينية منضوية تحت راية الوفد الأردني، وهذه كانت بداية التنازل عن التمثيل الفلسطيني في المؤتمر، واستمرت سياسة التنازلات في كل اجتماع أو لقاء، فكانت اشتراطات على شكل وتشكيل الوفد الفلسطيني، وعلى مكان وزمان اللقاءات، والمسموح بالتعايش أو على ما يقدم ويؤخر في المواضيع المطروحة للتفاوض، وقد تدخلت تلك القيادة بكل التفاصيل حتى وصلنا إلى تجاوز الوفد الفلسطيني الرسمي، الذي "في الأصل فصل بثه عن الوفود العربية المشاركة في المفاوضات" ليتم استبداله من قبل القيادة المتنفذة بواسط سري استطاع أن يعقد اتفاقا أولياً في أوسلو ثم باتفاق إعلان مبادئ موقعة لهذه التفاهمات في إطار اتفاق واشنطن مثل: اتفاق أوسلو.
جاءت كل تلك الأحداث لتعبر عن نهج قديم جديد ومتجدد، يعبر عن مصالح طبقة ذات محدودية في الرؤية وقصيرة النفس، ولا ترى إلا ذاتها، ومصالحها فوق مصالح الجميع، وقد تجاوزت شركاء الدم والسلاح والموقف والقرار والرؤية، حيث لم يكن مضى على المجلس الوطني التوحيدي وقت قليل، ولذلك ضربت بعرض الحائط كل ما تم التوافق عليه حول إدارة الصراع مع العدو، متبعةً سياسة بائسة في فهم الصراع وإدارته، تجلت في رؤية قاصرة تراكمت تاريخياً لتأكد شكل ديمقراطية عاجزة ومدمرة، وهو ما قاد إلى تفكيك كثير من مكونات القوى الفلسطينية، وأدى إلى عدم امتلاك رؤية شاملة وبعيدة النظر لتحفيز البنية الداخلية للمجتمع الفلسطيني في مختلف مواقع انتشاره، حيث عملت على تحطيم وتمزيق أهم إطار وطني فلسطيني م.ت.ف، وهذا عبر عن خفة التعامل مع هذا الإطار الهَرِم.
وقد تجاوزت كل الأحداث والقوى المشاركة في م.ت.ف، مستخدمةً إمكانياتها وعلاقاتها واحتضان بعض الدول العربية المتساوقة مع المشروع الإمبريالي الأمريكي في المنطقة، لتذهب باتجاه توقيع اتفاق لا يمكن أن يقال عنه سوى اتفاق خنوع لكل مخططات الاحتلال وأعوانه، مما يعني الاستجابة لمقتضيات الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية، وسمحت لديناميات تلك الاستراتيجية بأن تتحكم بها، ولم تكتفِ القيادة المتنفذة في م.ت.ف بذلك بل أخذت تدافع عن هذا الاتفاق أثناء تنفيذه بقبضة من حديد، حيث لاحقت المناضلين واعتقلتهم وصادرت الحريات وأغلقت المؤسسات وتعاونت مع العدو تحت عنوان التنسيق الأمني، التي أرادت منه تثبيت أقدامها بالسلطة، واستخدمت الحركة الشعبية بانتهازية، وحاولت تكييف المعارضة مع سقف خطتها، وعندما حانت اللحظة المناسبة للخلاص من هذا الاتفاق المشؤوم وبعد أن تبين هو أن الاتفاق وهم، وأنهم يزحفون خلف سراب لم تجرؤ تلك القيادة على اتخاذ الموقف المناسب عند انتهاء السقف الزمني لاتفاق إعلان المبادئ في أيار عام 1999 واستمرت في التزاماتها بمبررات لا صلة لها بالواقع وجاءت الفرصة مرة أخرى بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، التي لم تترك مجالاً للشك بأن هذا النهج الذي استخدم في إدارة الصراع لم يكن صالحاً بل جاء ليخدم المشروع الإمبريالي الصهيوني في المنطقة، ومع ذلك لم تتراجع القيادة المتنفذة عن نهجها ومشروعها إلا في إطار تُرجِمَ بانتفاضة الأقصى التي خرجت عن سيطرت تلك القيادة من شهرها الأول وتحولت إلى معركة مسلحة استمرت لسنوات.
وبعد أن خفت حدتها واستشهد واعتقل مناضليها، وهوجمت تلك الانتفاضة من كل صوبٍ وحدب، ومنهم رجال تلك القيادة المتنفذة والطغمة الحاكمة، التي رأت في انتفاضة الأقصى بأنها خطأ استراتيجي أعاد القضية الفلسطينية والنظام السياسي الفلسطيني سنوات إلى الوراء، هذا الموقف المُهترئ والمنساق حتى النخاع مع المشروع الإمبريالي أنعش تلك الطغمة ودورها ونهجها المتساوق مع مشروع السلام المزعوم والمفرغ من مضمونه، وقد تُرجم بتزعم السلطة لأبرز شخصيات محورية لأصحاب هذا النهج، الذي أصبح بمواقفه المعلّنة المعادية للمقاومة المسلحة الصفة الملازمة لإخفاق السلطة وأجهزتها الأمنية، معتقدين بأن مثل هذا الخطاب سيعيدهم إلى الواجهة، وللسيطرة من جديد على كل مفاصل العمل وعلى مقدرات الشعب الفلسطيني، ولكنهم لم يستطيعوا أن يحيّدوا المقاومة في قطاع غزة ويمنعوها من القيام بدورها الوطني في مواجهة الاحتلال، واستعاضوا عن ذلك بفرض قبضتهم على الضفة الغربية في إطار خطط أمنية أمريكية إسرائيلية عنوانها "دايتون" ضابط المخابرات الأمريكية.
رغم كل ما قدم من تنازلات في إطار التنسيق الأمني، فلم يرتقِ إلى مستوى القبول لدى العدو الصهيوني، وتبين لهم أن كل ما قدم وسيقدم لا يمكن أن يضعهم في مسار المرضي عنهم، ورغم ذلك ظلوا يلهثون خلف سراب معتقدين بأن الحقوق تُأخذ بهذا النهج، مع تعزيز خطاب لعل وعسى أن يساهم في تحسين شروط العودة للمفاوضات، لأن شعارهم الوحيد والأوحد المفاوضات بديلها المفاوضات فالمفاوضات.. ولهذا فكل القرارات التي اتخذت في الفترة الأخيرة من مقاطعة أمريكية وعدم الجلوس على طاولة المفاوضات وبعض قرارات المجلس المركزي التي تدعو إلى قطع التنسيق الأمني بقيت حبراً على ورق.
ولم تبقَ الأمور عند هذا الحد، بل تحول هذا النهج إلى منهج حياة وعمل عند كل أتباع هذه القيادة المتنفذة في م.ت.ف والسلطة الفلسطينية على كافة المستويات، وأصبحت حالة التهميش والإبعاد والتفرد والمساومة وتجاوز الشركاء وسيادة المصلحة الخاصة والتنازلات والهرولة للإنجاز السريع دون النظر للعواقب هو الصفة الملازمة لأصحاب هذه الطبقة أو الفئة في علاقاتها وعملها مع الآخرين، وأصبحنا نلاحظ لغة التنسيق الأمني موجودة في كل مكان وزمان، وفي كل مؤسسات العمل الفلسطينية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والتمثيلية للشعب الفلسطيني، وما حدث مؤخراً عند اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني والمجلس المركزي من تهميش وتجاوز القوى والفصائل، وإبعاد أغلبية ممثليي الشعب الفلسطيني، والتفرد بالقرار هو مؤشر على هذا المنهج، بل ذهبت هذه القيادة المتنفذة أبعد من ذلك، عندما شاركت بشكل مباشر بحصار أكثر من اثنين مليون من أبناء شعبنا في قطاع غزة ومنعت عنهم رواتبهم، والمواد الأساسية للحياة، والمضحك المبكي أن العدو الصهيوني والإمبريالية الأمريكية، هي التي أصبحت تتوسط لدى السلطة من أجل تخفيف الحصار عن أهل غزة.
والأكثر من ذلك فإن قيادة السلطة تعلن ليل نهار مقاطعة حركة حماس حتى تنساق لشروطها في المصالحة، في الوقت الذي يعلن فيه قائد تلك السلطة أنه يجتمع بشكل دوري مع قائد مخابرات العدو الصهيوني، التي لم تتوقف للحظة عن ملاحقة أبناء شعبنا، فالخلط بين التناقض الرئيسي والثانوي هي صفة ملازمة لأصحاب هذا المنهج، وهدفنا هنا ليس تسليط الضوء على هذا المنهج فقط، حيث لا يجوز الاكتفاء بالتشخيص وكشف المخاطر، لأن ذلك يعني جعل الحالة الوطنية رهينة دوامة الديناميات التي أطلقها ويطلقها مشروع أوسلو.
لذلك المطلوب الارتقاء بالرؤية والممارسة، من مستوى المناهضة الدعوية أو رد الفعل إلى مستوى المجابهة الفعلية، وعلينا استثمار كل عنان القوة الفاعلة والكامنة، على قاعدة التواصل مع الماضي بما يمثله من أهداف وحقائق تاريخية وطنية وقومية، والقطع مع الثغرات والأخطاء في الرؤية والممارسة الفكرية والسياسية والعملية وامتلاك رؤية سليمة ودقيقة ضمن هذا الواقع المعقد والمتشابك والمتحرك، ووجود أداة فكرية سياسية تنظيمية قادرة على تلبية الشروط الواجبة بما يستوفي بذلك ويقتضيه من مناهج تفكير وذهنية علمية وتغذية معرفية سليمة ومتواصلة تشمل مختلف جوانب الواقع التاريخي الراهن، ومختلف المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وخلاصة القول إن طبيعة الصراع تتخطى السياسات القاصرة وما يحكمها من ممارسات سياسية وفكرية باهتة وارتجالية، إلى رؤية سياسية شاملة تقرأ لوحة الصراع جيداً وتدير العملية بصورة واعية على أساس مبدأ التمكين والاستمرارية والتكامل وتشغيل كافة الطاقات الكامنة.