Menu

خديعة أوسلو والمأزق التاريخي

خالد بركات

سننتصر.jpg

منذ تأسيس السلطة الفلسطينية في العام 1994 ويحرص الكيان الصهيوني على بقائها واستمرارها وتوفير متطلبات الأجهزة الأمنية ودوائر السلطة العاملة في “المناطق” خاصة في الجانبين الأمني والاقتصادي، ولو أنه يغضب ويعاقبها في بعض الأحيان خاصة إذا لم تؤدِ واجبها وتقوم بدورها ومهامها. فما يطلبه الاحتلال من السلطة “مُقدّس” أي يُعتبر أولوية رقم واحد للسلطة، كذلك ما يطلبه السوق وتستدعيه المصلحة المشتركة، ملاحقة كوادر المقاومة الفلسطينية. وبدورها تضمن وتحدد “اسرائيل” حُرّية البضائع وحُريّة التحويلات وحُرية تنقل وكلائها من حملة بطاقات” في. آي . بي ” وفقط!.

يرى كيان الاحتلال في وجود السلطة ضرورة ومصلحة استراتيجية له وإلا لما أبقى عليها يوماً واحداً. إنه لا ينهي وجودها حتى لو وصلت دباباته إلى بوابات المقاطعة برام الله. سيدافع عن وجودها ويحميها، فهذه سلطته في نهاية الأمر، هو الذي أسسها في العام 1994 واعتبرها انجازه التاريخي الأهم بعد تأسيس الكيان الصهيوني في العام 1948. يريدها سلطة مَحلّية، واسطة بينه وبين جمهور وسكان المناطق، تأتي إلى بيت الطاعة الصهيوني وتعمل وفق البرنامج المُعّد والمرسوم لها سلفاً، هكذا تحددت العلاقة بحسب “الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين “. فالعدو الصهيوني لديه الاستعداد أن يلغي ويشطب بنود ونصوص ” الاتفاق ” ويمزقها كل يوم لكنه لن يشطب ( كيان أوسلو/ السلطة) فهذا جزء عضوي يحمي كيانه الاستعماري الأشمل المسيطر في عموم فلسطين المحتلة.

وعليه، فإن قبول أو رفض محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية الذهاب إلى طاولة المفاوضات مثلاً، لن يقدم أو يؤخر شيئاً في ميزان السياسة والقوانين المقررة الحاكمة لوجود السلطة، لا فرق إذا استمرت عملية التسوية أو توقفت، الأمر سيان، لأن هذا كله لن يمنع تسارع عجلة الاستيطان ولا يوقف سياسة الهدم والقضم والهضم والنهب، ولا بناء الجدران ولن يؤثر على قدسية التنسيق الأمني وعجلة “السلام الاقتصادي” وتبادل الزيارات والمصالح بين اقتصاد الكيان الصهيوني وبين أصحاب المال و “رموز” العشائر الكبيرة في “المناطق الفلسطينية” إذ تبادله المنفعة والمصلحة، يشّد العدّو من أزرهم ويربُت على كتفهم، ففي نهاية الأمر “بزنس إز بزنس” طالما أن زمن “جيفارا غزة” و “إبراهيم الراعي” و “محمود ابو هنود” لن يعود، هكذا على الأقل يبشرهم أصدقائهم وشركائهم من ضبّاط العدو وجنرالاته ومخابراته!

إذن تحرص “إسرائيل” على وجود السلطة/ كيان أوسلو، وليس على وجود إدارة لهذه السلطة، فلا قيمة لمحمود عباس وفريقة، ويمكن أن يحرد صائب عريقات يومياً ويصرخ على شاشات الفضائيات لو أراد، فهذا الفريق الفلسطيني الذي هيمن على المؤسسة الفلسطينية الرسمية إنما يمثل نفسه فقط، العالم كلّه صار يعرف هذه الحقيقة، فريق لا شرعية له ويمكن إستبداله دائماً، إن المهم بالنسبة للصهاينة هو استمرار فعّالية كيان أوسلو و القيام بوظيفته داخل المناطق في “يهودا والسامرة ” وأن يظل كيانًا هَشاً هزيلاً وتابعاً، لا حول له ولا قوة، هذه السلطة ترجمة فعلية لمشروع روابط وشبكة البلديات والمجالس القروية، سلطة الحكم الذاتي المحدود، لا أكثر ولا أقل.

كأن العدو يقول: “إما أن تقبلوا أيها الفلسطينيون بهذه السلطة ودورها وفق هذه الشروط التي نحددها أو اذهبوا وقدّموا شكوى ضدنا في المؤسسات الدولية. إذا فعلتم سنعاقبكم، ولن نجتاح جنين ورام الله وبيت لحم وأريحا والخليل ونابلس إلا إذا اضطررنا لذلك. هل تذكروا ياسر عرفات ومشهد دبابات الميركافا أمام مقر المقاطعة؟ …هذه سياسة العدو وقوانينه ومواقفه المعلنة.

أوسلو: المأزق التاريخي:

ربما من الأهمية بمكان التذكير بحقيقة قد تسعفنا على تفكيك المشهد الفلسطيني الراهن، فلا يوجد حركة تحرر وطني في هذا العالم قاومت الاستعمار الاستيطاني الأجنبي ولم تقع في مأزق تاريخي يشبه حُفرة أوسلو في فلسطين، هذا الكيان جاء نتيجة حتمية لمسار ونهج التسوية الكارثي بالشروط الأمريكية والصهيونية، وجاء بعد مقدمات وخطوات سبقته. اتفاقيات أوسلو وملحقاتها وتوابعها السياسية والأمنية والاقتصادية كانت المحطة الطبيعية التي ستصل إليها قاطرة “الثورة” الفلسطينية بعد هيمنة اليمين الفلسطيني المتنفذ بقيادة ياسر عرفات وأنصار “الدولة المستقلة” على كل مؤسسات م.ت.ف ومفاصل القرار الوطني الفلسطيني منذ العام 1974.

ولكن حدث مثل هذا في الجزائر وجنوب أفريقيا وايرلندا وغيرها وغيرها. واجهت الشعوب وحركات التحرر حالات مشابهة، يمكن للقيادة أن تخون ،هداف الشعب وتشطب جوهر المشروع الوطني وتنحاز لمصالحها وخاصة إذا لم تجد من يحاسبها، وإذا انعدمت الآليات الديمقراطية التي تمكّن الشعب من إزاحتها. ويعرف الشعب الجزائري مثلاً دور “الحِركيين” الذين تعاونوا مع المستعمر الفرنسي ضد شعبهم وقتلوا وعذّبوا أبناء وبنات جلدتهم. لقد كانت كتائب مسلحة من العملاء القتلة تتعاون مع الاستعمار، يتفرجون على ضباط فرنسا كيف يغتصبون الجزائريات، كان يلعب الجنود لعبة “الرهان على جنس الجنين” في بطن المرأة الجزائرية الحامل قبل أن يبقروا بطنها ويعرفوا من هو “الفائز” !.

اليوم بعد 25 سنة على الخديعة الكبرى (أوسلو) نقول الحمد لله دائماً، لم تعد الأصوات الرّافضة لإتفاقية أوسلو الخيانية وكيانها المسخ هي أصوات الأقلية الفلسطينية، بل تقف الأكثرية الشعّبية الفلسطينية في الوطن والشتات ضد مشروع التصفية وتعرف تماماً ماهية أضلاعه، هذه الحقيقة على مرارتها، إلا أنها تبشر بالخير، وتشيع أجواء من التحفز والأمل، والبحث عن الخلاص الجماعي للخروج من مأزق أوسلو، الذي طال كل المجتمع والشعب، ولم تقتصر آثاره على شعبنا في الضفة والقطاع.

الاحتلال يريد إدامة سلطته الفعلية الشاملة في عموم فلسطين المحتلة ويعمل على تعميق الأزمة الفلسطينية الدّاخلية واستمرار حالة الشرذمة والتفكك في صفوف الحركة الوطنية، كما يسعى إلى اضعاف وضرب بنية قوى المقاومة في الضفة و القدس ومنع أي نهوض للحركة الوطنية مجدداً أو استعادة المبادرة، يريد أن تبقى السلطة المحلية تابعة له ويظل مرجعيتها الوحيدة في المناطق، يريد تنفيذ مشاريع الاستيطان وتأبيد جدار الضم وتكريسه كحقيقة غير قابلة للتغيير والنقاش، يريد حسم القدس كعاصمة موحدة وأبدية لكيانه العنصري واستكمال مشروع التطهير العرقي الشامل، وعليه، يجب أن تكون أي سلطة فلسطينية تابعة له سلفاً، وتديرها شريحة فلسطينية وكيلة للاحتلال، طبقة محددة ارتبطت مصالحها بمصالح الاحتلال، وشركاته ومستعمراته وفي عملية متشابكة ومتداخلة يصعب الفكاك أو الخلاص منها.

أمريكا وكيان السلطة:

الولايات المتحدة والغرب الإمبريالي الاستعماري عمومًا لا يحترمون قيادة سلطة أوسلو ولا كيانها التابع الذليل في رام الله المحتلة، ولا تقيم أمريكا أي وزن لهؤلاء، ولا تأخذهم في ميزان حساباتها أو تصغي لما يقولوه على محمل الجد، إن فريق أوسلو أصبح غير ذي صلة في إطار معسكر العدو وترتيباته الآنية والاستراتيجية للمنطقة.

ولكن لماذا؟

أوليس من مصلحة أمريكا تغليف وتجميل العلاقة مع الفلسطينيين والظهور ولو شكلا على الأقل أنها ” تحترم” السلطة الفلسطينية؟ تستطيع أمريكا تمثيل دور الواسطة بين ” الطرفين ” الإسرائيلي والفلسطيني، كما كانت تفعل ادارة بوش الأب وكلينتون وبوش الابن وأوباما.

الإدارة الجديدة تلعب بالأوراق على المكشوف حتى لو أحرجت سلطة رام الله، وتتعامل الإدارة الأمريكية مع فريق السلطة في رام الله، باعتبارهم مجموعة الموظفين والوكلاء المنتفعين لا أكثر ولا أقل، وإذا فشلوا في أداء المهمة الموكلة إليهم يجرى تغييرهم واستبدالهم بوكلاء وشخصيات فلسطينية أخرى ومن داخل الجوقة والطبقة الفاسدة ذاتها ، تماماً كما يفعل صاحب شركة تجارية مع موظفيه. وفي مرحلة أمريكية جديدة يحتل فيها تاجر العقارات الجشع “دونالد ترامب” المكتب البيضاوي في البيت الأبيض فلا وقت للدبلوماسية والكلام الناعم مع وكلائه وتابعيه.. من يدفع المال هو المرجعية والمعلم!.

أمريكا تحاول ترجمة وفرض عملية التصفية واقعاً على الأرض، تشطب القدس وحق العودة، وتعرف الإدارة الامريكية أن في رام الله سلطة هزيلة وضعيفة ومتورطة إلى أذنيها. يقول دونالد ترامب في خطابه الأخير بولاية ساوث ديكوتا في 7 سيبتمبر الجاري لمن يعارضوا خطته بشأن بناء الجدار على الحدود الأمريكية المكسيكية: ”الجدران تعمل، نعم، الجدران تعمل، ليقولوا لإسرائيل إن الجدران لا تعمل، شيّدت جدارها ونجحت تماماً”.

هكذا يُعلن ترامب أن جدار الضم والنهب في فلسطين المحتلة، هو نموذجه الذي يحتذي به لبناء الجدار بين الولايات المتحدة والمكسيك، ويكرر ترامب مقولاته عن الجدار في وقت لم نعد نسمع كلمة واحدة من قيادات السلطة عن ”قرارات الشرعية الدولية بشأن الجدار”، فهل قُضي الأمر؟

أمريكا والنظام العربي النفطي وأوروبا قدّموا للسلطة “الفلسطينية ” مليارات الدولارات خلال عقدين ونصف، ليس من أجل عيون عرفات وعباس وعريقات بل لتغطية مشروع استعمار فلسطين عبر ”عملية السلام”. وتفهم الولايات المتحدة أن دور السلطة هو مواجهة حركات المقاومة المسلحة، حماية الأمن الإسرائيلي ومستعمراته، هذه وظيفة السلطة، أن تكون أداة قمع وخادما للاحتلال وجسراً للتطبيع مع العرب. مجرد بُرغي صغير في هيكلية واستراتيجية استعمارية متكاملة، هدفها القديم الجديد الهيمنة على شعوب وثروات المنطقة، انطلاقا من فلسطين المحتلة.

إن الخروج من مأزق أوسلو يشترط انطلاقة متجددة للثورة الفلسطينية والمشاركة الشعبية الفلسطينية الواسعة والانتفاض على هذا الواقع كله، وهذا يعني القطع مع كيان أوسلو المتداعي على كافة الأصعدة، ويشترط أيضا بناء شرعية وطنية قائمة على مؤسسات واتحادات نقابية موحدة، وإعلان القوى الرئيسية تشكيل جبهة المقاومة والتحرير وتعزيز صمود الحاضنة الشعبية للمقاومة في الوطن والشتات، وإعلان مواثيق تصون وتحمي الثوابت والحقوق الوطنية، وتعمل على تجديد الميثاق الوطني بمشاركة كافة تجمعات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. إن هذه التحديات هي في الواقع مهام وطنية كبرى ذات طبيعية مباشرة واستراتيجية، ولن تأتي دفعة واحدة أو تتحقق في أسابيع وشهور وبضع سنين.