Menu

أوسلو والتنمية الضائعة

غسان أبو حطب

صورة أرشيفية.jpg

خاص بوابة الهدف

أثارت اتفاقيات أوسلو حالة من الجدل على مدى العقدين ونصف المنصرمين، وقد خلا هذا الجدل من تناول العلاقة الشائكة والمعقدة بين نموذج التنمية والطابع الاستيطاني الكولونيالي، وعلاقة ذلك بالتوجهات النيوليبرالية التي تحكم النموذج التنموي السائد.

وأغلب الأدب التنموي المتداول لا يعترف بالظروف البنيوية التي فرضتها اتفاقيات أوسلو، علاوة على تماهيها مع الأجندة السياسية التي يتبناها المشروع الصهيوني، وبالتالي أصبحت مشاريع التنمية تساهم في استدامة هياكل القوة والاضطهاد، التي تسم المشروع الاستيطاني الكولونيالي، كما أنتجت التنمية خلال عقدين ونصف طبقة معتدلة وتابعة، من خلال تشكيلها محوراً لمصالح أصحاب رأس المال والنخب السياسية والمنظمات غير الحكومية المحلية ومنظمات التنمية الدولية، والتي تعمل مجتمعة على إعادة استعمار حركة النضال الفلسطيني.

من أخطر ما ينطوي عليه المشروع الاستيطاني منطق الإقصاء، حيث تجري ممارسة الهيمنة الصهيونية بصورة متزايدة، مما يتسبب بإنتاج ظروف معيشية لا يمكن تحملها ومعازل يعمها البؤس والحرمان، فقد استطاعت قوى الاستعمار الاستيطاني وعبر اتفاقيات أوسلو، تحديد كمية السعرات الحرارية الضرورية للإبقاء على الفلسطينيين على حافة المجاعة، وباستعراض سريع لحجم المساعدات الإنسانية الموجهة للأمن الغذائي ما بين عامي 2006-2016 يتبين بوضوح تراجع هذا الحجم من المساعدات من 77% إلى 54% ، وهذا يشير لمسار المساعدات الإنمائية عامة وكيف توظف كأداة لاستدامة هياكل السيطرة الاستعمارية؟

لقد تراجع مستوى المساعدات الخارجية بنسبة 81% من الناتج المحلي الاجمالي في الفترة 2008-2015، وأضر هذا التراجع بالاقتصاد الفلسطيني، وقيد من قدرة السلطة على متابعة برامج الإصلاح التي أطلقتها منذ عدة سنوات.

إن تراجع مستويات التمويل الدولي قد يتمخض عنه وقف العملية التنموية، خاصة فيما يتعلق ببلورة سياسات اجتماعية واقتصادية متماسكة، من ضمنها استراتيجيات وطنية لمكافحة الفقر والبطالة وانعدام الأمن الغذائي، بحيث تجمع هذه الاستراتيجيات ما بين الإغاثي والتنموي .

وتقر أجندة السياسات الوطنية باستحالة تحقيق التنمية المستدامة دون تحقيق الاستقلال والسيادة على الموارد الطبيعية والبشرية، كما أن الهيمنة الاستعمارية تعرقل اشتراطات الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية بفعل الآليات الكولونيالية التي يوظفها المشروع الاستعماري الاستيطاني .

هذا الإطار التنموي السائد ينطوي على مجموعة من العناصر التي تعمل على إعادة تعريف المشروع الاستعماري، بهدف طمس معالمه الفعلية وهي:

أولاً: إنكار كامل للتاريح، حيث أن هناك فصلاً كاملاً بين احتلال إسرائيل للضفة وغزة، والمشروع الاستعماري الشامل، والذي بدأ قبل العام 1948، وما زال يشرذم الشعب الفلسطيني برمته.

ثانياً: تغييب مفهوم الهيمنة وعلاقات القوة عن تحليل السياسات والممارسات الاحتلالية، واعتبار المستعمر شريك في التنمية .

ثالثاً: تبنى السلطة لليبرالية الجديدة بناء على تصور أن الأسواق محايدة، وأن عجلة التنمية سوف يقودها القطاع الخاص، وأن التنمية عملية محايدة تسمو على علاقات القوة والسيطرة.

إن عمليات الشرذمة لا تقتصر على التقسيم المكاني، بل ترتكز أيضاً إلى احتلال الفضاء الزماني وإعادة تشكيله بما يخدم أغراض المشروع الاستعماري، فالهجوم على التاريخ بات جزءاً لا يتجزأ من آليات الاستعمار التي تهدف إلى التسليم بالوضع القائم حالياً، فيصبح تناول الحديث عن الغزيين مثلاً دون الرجوع إلى الأسيقة التي ساهمت ببناء هذه الفئة من الشعب الفلسطيني من خلال فرض الشرذمة بالقوة على الشعب الفلسطيني، ويعاد هنا تركيز تدخلات التنمية من هذا المنظور والذي يُبقي عمليات التشظية وتغذيتها بفعل استراتيجية التنمية .

وما يحدث الآن من إنكار لحقوق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم التي هجروا منها، والهجمة الشرسة على حقوق الفلسطينيين، يمس قدرة الفلسطينيين على تصور بدائل للتغيير، وهذا بدوره تسرب إلى قلب خطاب التنمية .

ساهمت المساعدات الإنمائية في تعزيز حالة التمزق، فقد شهدت مرحلة ما بعد توقيع اتفاقيات أوسلو بروز تكتلات اقتصادية، لعبت دوراً في تركيز رأس المال السياسي والاقتصادي في يد نخبة مرتبطة بالسلطة ونظامها، وقد تجلت ملامح النيوليبرالية في سياسات الإقراض التي أغرقت المجتمع الفلسطيني، لا سيما موظفي السلطة، حيث تشير الدراسات إلى أن ما نسبته 46% من موظفي السلطة حصلوا على قروض من المصارف ومؤسسات الإقراض الفلسطينية المختلفة .

هذه السياسات النيوليبرالية عملت على إعادة هندسة الشرائح والفئات الاجتماعية، ارتباطا بحركة ومسار المساعدات الإنمائية، ويحدد جيمس سكوت أربعة عناصر توضح طبيعة مشاريع الهندسة الاجتماعية:

العنصر الأول: هو التنظيم الإداري للطبيعة والمجتمع، والعنصر الثاني: ممارسة الإيدولوجيا الحداثية ويطلق عليها وصف " المزيج الخبيث"، ويظهر هذا المزيج عند وجود إيمان قوي بالتقدم العلمي والتكنولوجي على حساب واقع المجتمع، يؤدي هذا الإيمان إلى النظر نحو التقدم من ناحيته الجمالية – الحداثية وليس من ناحيته الفعلية، أما العنصر الثالث: فهو متعلق بأن الدول ذات طبيعة استبدادية، ومن ثم فهي مستعدة لاستخدام كافة مصادر القوة لتنفيذ خطط الهندسة الاجتماعية، أما العنصر الرابع: فيتمثل بوجود مجتمع مدني هش وضعيف غير قادر على مواجهة خطط المتنفذين بالسلطة وحلفاؤهم، صانعي السياسات التنموية بالمنظمات الدولية، لا سيما البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية، والأنكى من ذلك هو استمالة الشريحة المتنفذة في مؤسسات المجتمع المدني وتحالفها غير المقدس مع المتنفذين بالسلطة والمنظمات الدولية، هذا التحالف ينطوي على امتيازات ومصالح لها علاقة بكيفية توزيع السلطة والثروة داخل المجتمع الفلسطيني، وكيفية إعادة إنتاج الخارطة السيسيو/اقتصادية خدمة لأغراض ومشاريع الليبرالية الجديدة، والتي تتماهى تماماً مع سياسات الاستعمار الكولونيالي .

هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى فقد تمادى الاستعماري في فرض ممارساته الهادفة إلى تقطيع أوصال المجتمع الفلسطيني بكافة مكوناته، لا سيما فرض سياسة العزل التام على المجتمع الفلسطيني بقطاع غزة، حيث أنه يعيش عزلة عن بقية التجمعات الفلسطينية الأخرى، مما يعمق الشرذمة والتشظى، بحيث أصبح لدينا جيلا كاملا لا يعرف نظرائه في الضفة الغربية وفى القدس وفى الشتات وفى المستعمرة الأولى في 1948 "اسرائيل". فأثناء الأزمات تتصاعد التعبيرات الجهويّة التي يتخيل من خلالها كل سكان منطقة بأن لديهم خصوصية وتفوق، ويصاحب ذلك تنميط ذاتي إيجابي لأفراد المجموعة، وتنميط سلبي متخيّل جمعي للمجموعة الأخرى، وبفعل الأزمة في المشروع الوطني الفلسطيني، وبفعل عوامل خارجية لعب الاستعمار الكولونيالي دوراً فيها، أي سياسة الفصل الجغرافي بين الوحدتين، وتلاشي العلاقات بين المكونين، وتنميط محلى مرتبط بتكوّن الهويّة الفلسطينيّة، كما عزّز الانقسام الداخلي بين أكبر فصيلين الحساسيات الجهويّة بفعل ممارسات السلطتين/الفصيلين فى المنطقتين.

إن التحرك الدولي لتجسيد الليبرالية الجديدة في السياق الفلسطيني، أمر يتعلق باستخراج الريع السياسي فالحكومات الغربية والمؤسسات المالية الدولية تستثمر بشكل أساسي في مشروع سياسي وليس فقط بمشروع اقتصادي.

ولقد وجه إدوارد سعيد انتقادات لاذعة لاتفاقيات أوسلو، حيث تعمل فيها السلطة كجهاز متعاقد من الباطن مع الاحتلال الاسرائيلي على مستويين وهما: الأمن والمستوى الإداري المتعلق بالصحة والتعليم والخدمات الأساسية وغيرها، وهذا التعاقد يتوافق مع تجسيد الليبرالية الجديدة لأنه يفضي لاستخراج الريع السياسي. وكما ذكر مشتاق خان: "في حين أن السلطة الفلسطينية قد حازت على صلاحية ممارسة العمل الشرطي على سكانها، فإنها غير قادرة على ممارسة العمل الشرطي على حدودها، والتفاوض على اتفاقيات تجارة مستقلة؛ فهي لم تحصل على عملتها الخاصة ولا تستطيع منح مواطنة محددة. نتيجة لذلك ظل بقاؤها الاقتصادي وعلاقاتها مع العالم محكومة من خلال إسرائيل بطرق غالباً ما تزيد سوءاً من الوضع الهش أصلاً لكثير من الفلسطينيين" (خان وجقمان 2004).

لقد عمل البنك الدولي بنشاط مفرط في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث قاد ما لا يقل عن 74 مشروعاً بين 1994-2004، وتسارعت وتيرة مشاريعه بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات ، وتناولت هذه المشاريع البنية التحتية والمياه والصحة والإصلاح القانوني وأنظمة التقاعد وتطوير المنظمات غير الحكومية، وقد صادق الرئيس محمود عباس على قرابة 30 مشروعاً للبنك الدولي عام 2007، كما أن خطط التنمية الفلسطينية منذ ذلك التاريخ تعبر بوضوح عن المنحى النيوليبرالي، كما أن القانون الأساسي في مادته 21 يشير بوضوح إلى تبني السلطة لاقتصاد السوق المفتوح أحد أهم أعمدة إجماع ما بعد واشنطن .

المساعدات الإنسانية لم تنجح في تحقيق الأهداف الثلاثة التي حددت لها : تنمية الاقتصاد، بناء مؤسسات الدولة، الترويج للديمقراطية، فبعد ربع قرن على انطلاقة عملية أوسلو، والكم الهائل من المساعدات التي تدفقت على الأراضي الفلسطينية المحتلة، لا زال الاقتصاد الفلسطيني غير قابل للحياة ومشرذم وتابع للاقتصاد الإسرائيلي، كما أنه يكابد العديد من الأزمات المتمثلة ب:

أولا: أزمة بنيوية تترتب عليها خسارة سنوية في الناتج المحلي.

ثانياًَ: أزمة مديونية متراكمة مع فوائدها.

ثالثاً: أزمة العجز الجاري في موازنة السلطة.

رابعاً: "الأزمة بالعدوى" بمعنى كل تغيير سلبي يصيب الاقتصاد الإسرائيلي ينعكس على الاقتصاد الفلسطيني.

خامساً: "الأزمة الاحتياط" المتأتية عن تحكم إسرائيل بمفاتيح الاقتصاد الفلسطيني ليخدم سياساتها العليا.

أما مشاريع دمقرطة الشعب الفلسطيني، فلقد استهدف التمويل المقدم لها لمشاريع ثلاث مجالات وهي:

1- الدعم والإشراف على الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبلدية.

2- تعزيز المجتمع المدني وحقوق الإنسان .

3-تعزيز الحكم الرشيد وبناء قدرات الدولة.

ولقد أخفقت هذه المشاريع في الترويج للديمقراطية على أربع مستويات:

1- قبلت هذه المشاريع بالاحتلال والحصار المفروض على غزة كحقائق ولم تسع لمقاومتها.

2- فشلت مشاريع الحكم الرشيد في تعزيز شفافية السلطة الفلسطينية.

3- سعت ولا تزال هذه المشاريع لتفريغ المجتمع من مضمونه السياسي، بدلاً من العمل على تمكينه.

4- إن مشاريع الحكم الرشيد تقود إلى كبح جماح مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، وهذه المشاريع ليست فقط (لا ديمقراطية)، بل لها تداعيات اقتصادية واجتماعية غاية في الخطورة.

لا بد من العمل الجاد لتحقيق الأتي:

أولاً/ استعادة الوحدة الوطنية، عبر إعادة الاعتبار لدور ووظيفة منظمة التحرير الفلسطينية، وتجديد بناها وهيكلتها بما يتناسب ومهام التحرر والبناء الوطني.

ثانياً/ التحلل من اتفاقيات أوسلو وتوابعها، مع العمل على بناء الاقتصاد البديل (اقتصاد الصمود).

ثالثاً/ العمل على تبني منظور تنموي مغاير للمنظور الليبرالي الجديد.

رابعاً/ التوافق بين مكونات الشعب الفلسطيني بمختلف مواقع تواجده، على رؤية تنموية قادرة على تحقيق تطلعات الفلسطينيين في الانعتاق والتحرر، والتعامل مع التنمية بوصفها أداة للنضال الوطني الفلسطيني.

خامساً/ التوافق على استراتيجية عمل ناظمة للعمل التنموي، وتحدد بدقة أدوار ومسؤوليات كل طرف.

سادساً/ تقوية وتعزيز ودمقرطة البنى المؤسساتية الجماهيرية كالنقابات واتحادات الفلاحين والمزارعين والأطر والمنظمات الشعبية الفاعلة في مجالات الأرض والزراعة، بحيث تساهم هذه البنى في اتخاذ القرارات الاقتصادية – التنموية والزراعية والسياسية الفعالة على صعيد التخطيط والتنفيذ.

سابعاً/ إعادة النظر بوظيفة السلطة والتعامل معها على أساس أنها أحد روافع العملية النضالية.

*مدير مركز دراسات التنمية التابع لجامعة بيرزيت في قطاع غزة.