شكل اتفاق أوسلو منعطفاً نوعياً في سياق الصراع ضد الاحتلال الصهيوني، حيث قامت القيادة المتنفذة بمنظمة التحرير الفلسطينية بتجيير انجازات الانتفاضة الأولى لهدف واحد، وهو الاعتراف الدولي بها لا بالدولة الفلسطينية المأمولة. عزمي بشارة: في نفي النفي، حوار أجراه صقر أبو صخر .
وأنتج هذا الاتفاق إدارة حكم ذاتي محدود، لتنمو سلطة تمتلك كافة عناصر القوة والقرار، التي مُررت بقرارات من مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، حيث خرجت السلطة عن سياقها الأول، ولم يعد وجودها واستمرارها مرتبطاً بقرارات المنظمة، وبما تؤول إليه المفاوضات، وباتت تقوم بوظائف اجتماعية واقتصادية يرتبط بها حياة قطاع كبير من الشعب، وبشكل ممنهج ومخطط، تم إحراق جسور العودة إلى ما قبل تأسيس السلطة. إبراهيم أبراش: المشروع الوطني الفلسطيني: من استراتيجية التحرير إلى متاهات الانقسام، ص109 .
جسور العودة باتت مقفلة بعد أن تم إهدار لحظة نضالية تاريخية تمثلت في الانتفاضة الأولى، وبذات الوقت اُختزل القرار الوطني في إطار سلطة إدارة ذاتية محدودة، باتت المُشغل الأول، وأحضرت كل ما نددناه واستنكرناه من ممارسات للأنظمة العربية وتمثلّتها، حيث وعلى حد تعبير فيصل دراج "انتقلنا من دائرة المستنكر إلى دائرة المستنفع".
إن مرحلة أوسلو شهدت انكشاف عناصر أجهزة حركة التحرر الفلسطيني، التي فشلت في تحقيق الهدف الذي من أجله عملت، وتعمقت أزمتها وأدواتها، بعد أن بات الجهد ينصب في اتجاه مفاهيم وسلوك الدولة التي لم تقم، حيث باتت المفاهيم مختلفة، ولم تستطع المعارضة أن تمثل حالة مناهضة وبديلاً واضحاً.
مما تأسس على مرحلة أوسلو هو الفرصة الكبيرة للاحتلال، للتوسع وشق الطرق الالتفافية والحواجز وبناء المعازل وجدار الفصل العنصري، والقضم التدريجي للحقوق الفلسطينية، وكذلك الانتقال من إرادة وثقافة ووعي المقاومة إلى التخلص من عبئه، لكن التناقض ما بين الطموح الفلسطيني والمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني بقى يحبو تارة، ويستقر أخرى بحكم مفاعيل الانتفاضة الثانية 2000، والتي بدأت ضعيفة بسبب غياب القيادة الموحدة، ويمكن عزو ذلك جزئياً إلى قرار لدى السلطة الفلسطينية، بإضفاء ضبابية على كل القرارات المتعلقة بالانتفاضة وقيادتها، وذلك لمنع أي ردود فعل سلبية من المجتمع الدولي. ساري حنفي ولينو الطبش: خروج النخبة الفلسطينية المعولمة، ص13.
بقي الرهان على أن السلطة خياراً أو أسلوباً يمكن تطويره أدائياً في ضوء تطورات الانتفاضة، وهذا ما تم، لكن في سياق يؤكد أنها في خدمة الاحتلال، وبالأخص ما يتعلق بالشق الأمني من اتفاق أوسلو، عبر ما يسمى (التنسيق الأمني)، بحيث يجري محاربة المقاومة عناصر وأدوات ولوجستيات، إلى جانب الشق الاقتصادي من خلال اتفاقية باريس الاقتصادية، وانعكاسات هذين الشقين (الأمني والاقتصادي)، وبعدهما المعنوي من خلال استهداف إرادة وثقافة وأفراد المقاومة، ونشر اتجاهات وخيارات فردية تنسجم وتوجه النخبة السياسية والاقتصادية التي أنتجها اتفاق أوسلو.
هذا الواقع السياسي المرير منذ اتفاقية أوسلو وحتى اللحظة، لم نستطع أن نغادره، حيث خرجت علينا سلطة أصبح خيار إنهائها وحلها إشكالي أو هكذا يتم تصديره، واحتلال يسيطر دون ثمن، ومفاعيل اتفاق مستمرة وقائمة حتى اللحظة، فما هو قائم نتاج اتفاق أوسلو وما نتج عنه، وبالتالي فإن بعض المطالبات بوقف التنسيق الأمني وغيرها، تتناقض وبنية إدارة الحكم الذاتي والسلطة القائمة، ومصالح نخبها، وهذا ما ينسحب على باقي المجالات السياسية والاقصادية، بل يتم تمويه الأمر، من خلال تطوير خطاب نخب السلطة، بوهم بناء مؤسسات الدولة تحت الاحتلال أو الانتقال لها، وحُمى عقد المؤتمرات وجلسات المجلسين المركزي والوطني في مناطق السلطة، وكأنها مناطق محررة، وتعميم النضال الدبلوماسي الذي لا ولن يجد له صدى دون فعل حقيقي وجدي ومثمر على الأرض.
إن ما يمكن تأكيده أننا مازلنا نعيش في مرحلة اتفاق أوسلو، فلم نستطع وطنياً أن نقيّم ونعيد القراءة لما لحق بنا من جراء هذا الاتفاق وطنياً وما لحق بقضيتنا، ولم نتمكن من أن نبدأ حواراً جاداً لا يقوم على قاعدة المحاصصة والتقسيم، وبهذا الإطار فإن الدعوة للتقييم ملّحة، وما يتأسس عليها من إعادة صياغة المشروع الوطني التحرري، وضرورة الخروج من المأزق الكبير والخطير القائم.. وعليه، فإن التحرر من قيادة أوسلو ممر إجباري للتغيير والمبادرة، حيث أننا لا نستطيع البناء على واقع مفروض، وبنية لا يمكن لها إلا أن تقوم بوظيفة أُنتجت من أجلها.