Menu

حيدر عبد الشافي والوحدة الوطنية

غازي الصوراني

بمناسبة الذكرى الحادية عشر لرحيل د. حيدر عبد الشافي، نظمت اللجنة الثقافية للهلال الأحمر الفلسطيني لقطاع غزة، يوم أمس الأربعاء، ندوة بعنوان: حيدر عبد الشافي والوحدة الوطنية،  تحدث خلالها الكاتب المفكر: غازي الصوراني، وهذا هو نص مداخلته:

المفارقة المحزنة اننا نلتقي اليوم في الذكرى الحادية عشر لرحيل رمز الوحدة الوطنية د.حيدر في ظروف وأوضاع فلسطينية مفككه ومنحطة ومنقسمة بصورة غير مسبوقة قتلت الوحدة الوطنية لحساب المصالح الفئوية الانقسامية الكريهه ، وهنا لابد من ان اعبر عن قلقي بالمعنى المعرفي ليس نتاجا لتفكك الوحدة الوطنية بل ايضا لغياب هذا المفهوم الوطني الوحدوي الجامع من الناحية النظرية عن عقول وقلوب معظم ابناء شعبنا الفلسطيني في الضفة وفي الشتات وفي 48 عموما وفي قطاع غزة سفينة نوح الفلسطينية الولادة للوطنية والهوية الفلسطينية على وجه الخصوص التي يبدو جلياً أنها لم تعد كذلك في ظل الانقسام البغيض.

قبل أحد عشر عاماً فارقنا حيدر عبد الشافي... بعد أن ودعته غزة في لحظة شعر فيها أبناء شعبنا الفلسطيني في الوطن والمنافي –وما زالوا بعد رحيله- أنهم أحوج ما يكونوا إليه مثل خيط من الضياء والعقل الحامل لرؤية وطنية توحيدية وأخلاقية جامعة، في هذا المشهد السوداوي الشديد الإظلام الذي يلف أبناء شعبنا ويسد عليهم كل الآفاق إلى حين.

الحديث عن القائد الوطني الراحل د.حيدر ليس حديثاً عن قائد وطني وحدوي كبير حاز على الاحترام والتقدير من أبناء شعبه كما في المحافل العربية والدولية الرسمية والشعبية، بل هو حديث عن العام قبل الخاص... عن الشعب قبل الأفراد، لان التاريخ لا يصنعه – في المقدمات والنتائج- سوى حركة الجماهير، وأي حديث عن قائد أو فرد كصانع للتاريخ ليس سوى عملية تزييف باهتة قد تدوم للحظات في المكان والزمان لكنها لا تملك أية إمكانية للاستمرار أو الثبات في سجل التاريخ.

من هنا أهمية التقييم الموضوعي لدور الفرد عبر التحامه الصادق والأمين بحركة شعبه في صعودها إلى الأمام دون أي تطلع للتمجيد أو العبادة الشخصية أو المصالح الأنانية أو الاستزلام والفساد والاستبداد، وهي أمور أو صفات أزعم أن فقيدنا الراحل حيدر عبد الشافي كان حريصاً طوال تاريخه ان يظل أميناً لقضايا شعبه دون أي اقتراب منه نحو المصالح الخاصة تحت أي ظرف من الظروف، ودون أن يفقد بوصلته الأخلاقية الديمقراطية الوحدوية الموضوعية على الرغم من المواقف والممارسات العدائية لشخصه ولفكره ولمؤسسته (الهلال الأحمر) من قبل قوى اليمين الديني، بل حرص على تجاوز خطاياهم معه، وأصر دوماً على دعوتهم إلى الانخراط في الإطار الوطني التوحيدي دون أي استجابة منهم.

بدأ حياته السياسية أثناء دراسته في الجامعة الأمريكية في بيروت عضواً في جمعية العروة الوثقى، وهي جمعية قومية ثقافية سياسية خلال الفترة منذ عام 1940 ثم التحق عام 1943 في تجمع "القوميين العرب" مع كل من المرحوم منيف الرزازود صلاح عنبتاوي وكان الأب الروحي لهذا التجمع هو المفكر القومي الراحل قسطنطين زريق.

وبعد تخرجه من الجامعة الأمريكية ارتبط بصداقات مع القوى الديمقراطية والتقدمية ذات الطابع اليساري في فلسطين، امتدت هذه العلاقة ضمن أبعادها السياسية والفكرية إلى ما بعد النكبة عام 1948 حيث استمر على نهجه التقدمي هذا طوال حياته، جامعاً بشكل متوازن بين الفكر والممارسة فكان بحق منحازاً للفقراء ومناضلاً ديمقراطياً عنيداً في الدفاع عن حقوقهم وأهدافهم الوطنية.

وفي أول مارس عام 1955 حينما هبت جماهيرنا الفلسطينية في قطاع غزة في انتفاضتها الأولى ضد المشروع الأمريكي لتوطين اللاجئين في سيناء وتحت شعار "لا توطين ولا إسكان... يا عملاء الأمريكان"... كان حيدر عبد الشافي واحداً من الرموز الوطنية في القطاع التي التحمت بالجماهير ضد مشروع التوطين... وعلى أثر تلك الانتفاضة تراجعت الولايات المتحدة الأمريكية عن مشروعها بعد أن أعلن القائد الخالد جمال عبد الناصر رفضه لمؤامرة التوطين استجابة منه لانتفاضة غزة الأولى.

وفي أوائل نوفمبر 1956 بدأ العدوان الثلاثي على مصر وفلسطين واحتلت إسرائيل قطاع غزة، وتنادت القوى الوطنية لتشكيل الجبهة الوطنية، وكان حيدر عبد الشافي من أبرز قيادات تلك الجبهة منذ تشكيلها... وأمام ضغوط المقاومة في الداخل والضغوط الدولية السوفيتية انسحب المحتلون من مصر وقطاع غزة في مارس 1957.

وفي بداية الستينات بدأت الإدارة المصرية بالتنسيق مع قيادة الحركة الوطنية في القطاع بتأسيس أول مجلس تشريعي، وفي أوائل عام 1962 بدأت عملية الانتخابات لعضوية المجلس وكان فقيدنا الراحل حيدر واحداً من عشرة أعضاء فازوا في الانتخابات الجماهيرية عن مدينة غزة، وتم عقد الدورة العادية الأولى للمجلس التشريعي يوم السبت 22/6/1962، وانتخب في الجلسة الأولى رئيسا للمجلس التشريعي، وباتفاق مع زملائه الوطنيين والديمقراطيين تم صياغة هذا الإعلان الصريح:

إن "مجلسنا التشريعي ليس من مهمته فقط أن يشكل لجاناً أو يقر قوانين تتعلق بالاعمار أو الشؤون الإدارية المختلفة، بل إن مهمتنا تنحصر في الدرجة الأولى بالعمل على إبراز الكيان الفلسطيني حرصاً على وحدة شعبنا التي باتت مهددة بالزوال... لقد بات من اللازم أن يجسد الفلسطينيون وحدتهم في شكل كيان فلسطيني".

هذا القرار التاريخي لم يكن بعيداً عن الحركة الجماهيرية الفلسطينية في القطاع التي هتفت بكل عفوية وصدق من اجل "إعلان جمهورية فلسطين في قطاع غزة" آنذاك وليتها فعلت!؟

وجاء عام 1964 بالإعلان عن ولادة منظمة التحرير الفلسطينية استجابة بهذا القدر أو ذاك لتطلع جماهيرنا الفلسطينية ونزوعها نحو الاستقلال والتحرر (رغم خطة النظام العربي الذي كان يسعى إلى غير ذلك)، ففي 28/5/1964 عقد المجلس الوطني الفلسطيني الأول في القدس وتم انتخاب المرحوم احمد الشقيري رئيسا للمؤتمر وحيدر عبد الشافي نائباً للرئيس، وفي منتصف عام 1964، تم اختياره عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

وجاءت هزيمة حزيران ... وخيم الظلام الدامي على قطاعنا الحبيب في الأيام الثلاثة الأولى... وفي اليوم الرابع بدأ أبناء شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة يضيئون شموع الأمل، ومنذ البداية توجه حيدر عبد الشافي مع أبناء شعبه بكل ثبات وتواضع يضيء شمعته هو الآخر ضد الظلام عبر دوره النضالي الوطني الديمقراطي.

وفي ظل الاحتلال ورغم كل ما تعرض له من ضغوط ونفي... ظل حيدر عبد الشافي صامداً يعمل بصمت دون كلل ، وفي عام 1972 قام مع عدد من رموز الحركة الوطنية في القطاع بتأسيس جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني التي مارست –وما زالت – تمارس نشاطها لصالح الفقراء في المخيمات والحارات الفقيرة في غزة وخانيونس ورفح، ثم التحق في لجنة التوجيه الوطني عام 1978.

ومع اشتعال الانتفاضة في ديسمبر 1987 ، كان د. حيدر أحد مؤسسي القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة التي كانت تجسيداً حقيقياً للوحدة الوطنية، واستمر مناضلاً دون كلل رافعاً شعار الوحدة الوطنية والتربية الأخلاقية حتى رحيله في 26/9/2007.

ومع بداية المفاوضات في واشنطن أصر رئيس الوفد الفلسطيني ، الراحل د. حيدر عبد الشافي ، على طرح وجهة نظر سياسية وطنية شديدة الوضوح، حيث أكد على:

    1. إزالة كافة المستوطنات الصهيونية.
    2. الالتزام الإسرائيلي بالانسحاب وفق قراري (242) (338).
    3. حق العودة للفلسطينيين وفق قراري (194/227).
    4. حق السيادة الفلسطينية على الأرض والمياه والموارد الفلسطينية عبر سلطة تشريعية وتنفيذية خلال الفترة الانتقالية وما بعدها.
    5. القدس الشرقية عاصمتنا.
    6. تطبيق ميثاق جنيف لسنة (1949) والإفراج عن كافة المعتقلين الفلسطينيين.
    7. الالتزام بتوفير الضمانات والحماية الدولية الواضحة التي تكفل أن تكون المرحلة الانتقالية حالة مؤقتة تخضع للإشراف الدولي والحماية الدولية والتنسيق مع القيادة الوطنية الفلسطينية في الداخل.
    8. أن تتولى (م.ت.ف) رسمياً وفعلياً التفاوض باسم شعبنا الفلسطيني وفق الشروط أعلاه وألا تستجيب لأية ضغوط تسعى إلى إشراكها في حلول وسطية أو أوهام كاذبة لن تؤدي إلا لتدمير كيان (م.ت.ف) نفسها.

إلا أن القيادة المتنفذة في م.ت.ف لم تلتزم تماماً بهذه الشروط ، بل إنها استاءت من اصرار رئيس الوفد الفلسطيني في مفاوضات واشنطن، الراحل د.حيدر، عبد الشافي وتمسكه بثوابت الاجماع الفلسطيني ، ومن ثم قررت هذه القيادة برئاسة الراحل ياسر عرفات ، البدء بعملية تفاوضية سرية في السويد ، حيث تم التوصل إلى ما يسمى بـ"إعلان المبادئ في أوسلو" بتاريخ (13 أيلول/1993) الذي شكل من الناحية الموضوعية كارثة سياسية ووطنية ، ليبدأ شعبنا الفلسطيني مرحلة جديدة من المعاناة والنضال السياسي والاجتماعي في مجابهة حالة الهبوط والتراجع التي ترافقت مع انشاء "سلطة الحكم الإداري الذاتي الفلسطيني المحدود" .

في ذكراه الحادية عشر لا نفتقده وجوداً فحسب، بل نفتقد أيضاً قيم الحرية والديمقراطية، وقيم الحق والعدل والخير والنظام واحترام الآخر ونظافة اليد واللسان والتواضع والشجاعة في الموقف، وقبل كل شيء نفتقد الاخلاق كقيمة طالما كان يرددها باعتبارها شرطاً أساسياً – إلى جانب الديمقراطية والنظام- لتحقيق أهداف فصائل وأحزاب الحركات الوطنية في فلسطين، بدونه لن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام إن لم تتعرض لمزيد من التراجعات والأزمات والصراعات والانقسامات كما هو حالنا اليوم .

في رحاب الذكرى الحادية عشر لرحيل المناضل الوطني الوحدوي، الاخلاقي الديمقراطي النبيل د.حيدر، لا نملك إلا ان نكون أوفياء له ولمبادئه مستلهمين الدروس والعبر من سيرته لكي نطرق أبواب الحوار الموضوعي الجريء الذي بات اليوم حاجة أكثر من ملحة في واقعنا السياسي المجتمعي الفلسطيني والعربي المنحط الراهن، وصولاً إلى خلق الحوافز المعرفية والسياسية والاجتماعية الكفيلة، من خلال رؤى وبرامج وطنية وديمقراطية وحدويه نقيضه للانقسام وللانحطاط والاستبداد والخضوع والتخلف والاستنباع.

فالسياسة إذا ما أدّت إلى خدمة اهداف ومصالح الشعب وفق أسس وحدويه وطنية وديمقراطية فإنّها تكون أخلاقية. وإذا ما أدّت إلى إضعاف وتفكيك الشعب والمجتمع والنظام وتحقيق مصلحة الفئة الحاكمة وحدها بقوة الإكراه والاستبداد وتركت الشعب وحيداً في مواجهة كل أشكال المعاناة والبؤس والتهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي –كما هو حالنا اليوم- فإنها تتحول إلى سياسة منحطة لا أخلاقية.

وفي هذا الجانب، لابد من مواجهة انفسنا بسؤال: ما الذي انجزته الحركات السياسية الفلسطينية؟ لا شيء سوى مزيد من الهبوط والتفكيك وصولاً إلى الانقسام الذي كان ومازال مكسباً صافياً للعدو الإسرائيلي.

إن الشعب الفلسطيني يعيش الآن مرحلة انهيار كامل للمرة الرابعة خلال أقل من سبعة عقود، فالانهيار الأول حصل عام 1948، وفقد خلاله ثمانين بالمئة من أرضه، بينما تشرد ثمانون بالمئة من أبنائه. والانهيار الثاني حصل عام 1967، وفقد فيه ما تبقى من أرضه، وتشردت شريحة كبيرة ثانية من شعبه. والانهيار الثالث حصل عام 1993 في أوسلو الذي استهدف التنازل عن حقوقنا الوطنية والتاريخية بوهم السلام المزعوم. والانهيار الرابع تجسد في الانقسام الذي جرى في 14/6/2007 وأدى إلى تفكيك وحدة الشعب وهويته الوطنية.

 لذلك فإن إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية التعددية الديمقراطية وفق رؤية الخالد د. حيدر، تشكل مدخلاً قوياً في مجابهة كل عوامل الإحباط واليأس والمخططات العدوانية صوب التحرر والاستقلال.

 إن الخروج من حالة الانقسام  والانحطاط الراهنة يحتاج إلى استعادة مجمل القيم الأخلاقية والمنطلقات الوحدوية الديمقراطية التي آمن بها القائد الراحل د. حيدر وبلورتها في إطار يجسد ما يكن أن نسميه تياراً وطنياً تقدمياً تلتف حوله الجماهير في مجابهة فريقي الانقسام فتح وحماس، لكن القوى اليسارية المعنية بولادة هذا التيار ، ما زالت لاعتبارات ذاتية عاجزة وقاصرة عن تحقيق هذا الهدف ، رغم وعي الجميع أنه في ظل استمرار هذا الصراع الفئوي بين فتح وحماس ، لا قيمة أو معنى لأي شعار وطني في ظل الانقسام وظلامه، حيث تسود حالة من الاستبداد والقمع والتخلف الاجتماعي والركود الاقتصادي، كرست –بعد 11 عاماً من الانقسام- واقعاً أقرب إلى الإحباط واليأس وانسداد الأفق، ليس بالنسبة للعملية السياسية فحسب، بل أيضاً بالنسبة للأوضاع الاجتماعية والحريات العامة وحرية الرأي، حيث بات المواطن الفلسطيني محكوماً بقيود تحد من حريته السياسية والفكرية والشخصية، وبالتالي فاقداً لدوره أو لحوافزه الذاتية للإسهام الطوعي الحر في إطار النضال الوطني أو التحرري من ناحية، إلى جانب فقدانه لدوره على الصعيد الديمقراطي والاجتماعي والثقافي العام من ناحية ثانية.

ذلك إن المتغيرات الناجمة عن الصراع على المصالح الفئوية بين الفريقين (فتح وحماس) في ظل الاحتلال، أدت إلى زعزعة وتفكيك أو إضعاف وعي شعبنا الفلسطيني بأفكاره وأهدافه الوطنية التوحيدية، كما أضعفت وعيه بوجوده السياسي الاجتماعي الموحد رغم توزعه وتباعده الإكراهي في المكان بين الضفة والقطاع من ناحية، وبين مخيمات اللجوء والمنافي من ناحية ثانية ، وذلك عبر سعي حركة حماس لتكريس الهوية الدينية أو هوية الإسلام السياسي بديلاً للهوية الوطنية الفلسطينية، في مقابل ممارسات حركة فتح وحكومة رام الله التي تصب في مجرى التوافق مع السياسات الأمريكية الإسرائيلية والعربية الرسمية ، بحيث يمكن الاستنتاج ، بأن كل من حركتي فتح وحماس ، تقدم للشعب الفلسطيني أسوأ صورة ممكنة عن حاضر ومستقبل المجتمع الفلسطيني المحكوم ، بصورة إكراهية ، بأدوات ومفاهيم التخلف والاستبداد والقهر والقمع والاستلاب وهي مفاهيم وأدوات لن تحقق تقدماً في سياق الحركة التحررية الوطنية بل على النقيض من ذلك ستعزز عوامل انهيارها والانفضاض الجماهيري عنها.

إن المأزق الراهن-في ظل استمرار الانقسام يشير إلى أن السياسة باتت فناً للفوضى أو الموت البطيء بدلاً من فن إدارة الصراع الوطني والاجتماعي، وهي حالة يمكن أن تؤدي إلى نكبة أشد خطراً وعمقاً من نكبة 48، ففي ظل استمرار الانقسام والصراع على المصالح الفئوية بين فتح وحماس، في ظروف دولية وعربية وإقليمية أفقدت الفلسطينيين بوصلتهم وقدرتهم على فرض رؤيتهم وقرارهم الوطني من اجل الحرية والاستقلال والعودة، تكرست الهيمنة الخارجية على راهن القضية الفلسطينية لإفراغها من مضامينها وأهدافها النضالية التحررية ، تلك الهيمنة التي يتزعمها اليوم التحالف الأمريكي الصهيوني، إلى جانب عدد من بلدان النظام العربي الرسمي ودعوته الصريحة للاعتراف والتطبيع مع دولة العدو الصهيوني .

إن المآل الذي وصلته قضيتنا الوطنية –في حال استمراره- ، يشير إلى وهم الحصول على دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما الدولة الصهيونية تُسابق الزمن من أجل فرض شروطها في ظل المأزق الفلسطيني الراهن، وذلك من خلال التنسيق والشراكة الكاملة بين دولة العدو الإسرائيلي والنظام الإمبريالي الأمريكي ومخططاته عموماً وفيما يسمى بـ"صفقة القرن" خصوصاً، دون الغاء وتجاوز الحديث او التخطيط لمخاطر إقامة دويلة ممسوخة في قطاع غزة ، أو "هدنة" طويلة الأمد مع دولة العدو الإسرائيلي كما تخطط وتسعى لها بعض البلدان العربية الرجعية، الأمر الذي يعني صراحة فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية ومن ثم استفراد المحتل الصهيوني بمستقبل الضفة .

إن هذا الواقع يفرض على الحركة الوطنية الفلسطينية أن تعيد تظهير الصراع بصفته صراعاً بين حركة تحرر وطني وحركة استعمارية احتلالية، وتركيز أولوية الفلسطينيين اليوم، على هدف انهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية لتوفير مقومات الصمود والمقاومة بكل أشكالها لإنهاء الاحتلال، وإقامة النظام الوطني الديمقراطي الفلسطيني والدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس.

وللخروج من هذا المأزق البشع لا بد ان نجيب على سؤال لماذا هزمنا في كل المحطات..؟ وبوضوح الاجابة - مهما كانت مؤلمة - يمكننا بالتأكيد صياغة رؤى استراتيجية وبرامج راهنة وارادات طليعية وشعبية تتصدى للانقسام وتستعيد الوحدة الوطنية التعددية على اساس ثوابتنا الوطنية الكفيلة باستعادة وحدة شعبنا في الضفة وغزة والشتات و48 واستعادة النظام السياسي الوطني الديمقراطي الفلسطيني الذي يكفل توفير عوامل الصمود والمقاومة وفق رؤية التحرر الوطني والديمقراطي النقيضة لصفقة القرن والمخططات الصهيونية، مدركين أن تلك الصفقة ليست سوى تجسيد الرؤية الصهيونية عبر يافطة أمريكية تستهدف تصفية قضيتنا الوطنية.

لكن على الرغم من كل هذه التحديات والمخاطر ، إلا أننا نقول بوضوح، ان تصفية قضيتنا وحقوق شعبنا ليست بهذه البساطة التي يطرحها عدونا الأمريكي الصهيوني وحلفائه، هذا إن كانت قابلة للتصفية دون حلول عادلة ولو نسبياً، وهنا بالضبط تتجلى افكار القائد الراحل الوحدوية الأخلاقية في أن وحدة شعبنا الوطنية ضد الانقسام وضد الصفقة وضد التصفية هي التجسيد الحقيقي لذكرى د. حيدر عبد الشافي والوفاء الحقيقي له ولمبادئه.

فالقضية الفلسطينية لم تكن يوماً على هشاشة أو ضآلة تجعل تصفيتها سهلة ، لان ذلك لو كان صحيحاً لصُفِّيت منذ زمن، لأنه لم ينقص إسرائيل يوماً الرغبة ، ولا حلفاء دوليين يناصرونها في رغبتها تلك، وعلى رأسهم الولايات المتحدة برئاساتها المتعاقبة.

كما أن شعبنا الفلسطيني، وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي يعيشها، أو تحيط به وقضيته، لم يستنفذ طاقاته بعد ، وأنه لا زال يختزن عناصر قوة كامنة هائلة قابلة للتفعيل، ونوعية أساساً، لم تستثمر في صراع الوجود الذي يخوضه.

إن الحديث عن حيدر عبد الشافي ليس على الإطلاق حديثاً ذاتياً رغم كل هذه العلامات التاريخية المضيئة في حياته التي تحمل طابعاً خصوصياً فهو حديث موضوعي في المطلق، لان شكله ارتبط بحركة الجماهير التي حددت منذ البدء مسار الدكتور حيدر عبد الشافي دون أن يكون له أي دور كفرد في صنع الأحداث وإنما عبر اندماجه الواعي والطوعي معها بعيداً عن مصالحه الخاصة بل على حسابها... من هنا جاء إجماع القوى الوطنية الفلسطينية على اختياره رئيسا لوفدنا الفلسطيني ليمثل في جوهره امتداداً لإجماع جماهيرنا الفلسطينية وتقديرها واحترامها – سواء بحسها العفوي أو الواعي للقائد الراحل د. حيدر ، حيث رأت فيه مجسداً ومدافعاً صلباً عن الهوية الوطنية والمشروع الوطني الديمقراطي.

إن القول بان قيم وسلوك حيدر عبد الشافي مثلت – وما زالت- "صمام الأمان" للأهداف الوطنية الكبرى لشعبنا، إنما يؤكد على حقيقة موضوعية، لان التزامه بحق تقرير المصير والبناء الديمقراطي للمجتمع الفلسطيني وحق شعبنا في السيادة على أرضه ووطنه بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية هو التزام بحركة ومستقبل جماهيرنا الفلسطينية التي كانت – وستظل- دوماً المعلم والمراقب الكبير لكل قياداتنا الوطنية في الماضي والحاضر والمستقبل.

لقد كان الراحل د. حيدر – ومازال- ضميراً صادقاً وأباً روحياً للحركة الديمقراطية في فلسطين.. ومناضلاً وطنياً عنيداً من أجل ترسيخ المفاهيم والأسس الحضارية للوحدة الوطنية التعددية في إطار م.ت.ف رغم أية اختلافات سياسية أو فكرية.

الوحدة الوطنية التي تستجيبُ لطبيعةِ معركَتِنَا ضد هذا العدو ، وتستجيب في نفس الوقت لقواعد الاختلاف والتعددية الفكرية والسياسية والتنظيمية ، هي الوحدة التي آمن بها ودعا إليها الراحل د.حيدر على أسس ومبادئ تلتزم بالديمقراطية هدفاً ومنهجاً يضمن حرية المعتقد والرأي الصريح لأي اختلاف وأي نقد بين أطياف ومكونات الساحة الوطنية الفلسطينية، شرط أن يكون في إطار الوحدة ومعززاً لها، انطلاقاً من وعينا بأن الكفاح الفلسطيني ضد العدو الصهيوني من جهة والنضال الديمقراطي في اطار حرية الرأي والعقيدة من اجل انهاء الانقسام البغيض واستعادة الوحدة الوطنية التعددية من جهة ثانية ، لن يكون اي منهما مُجدياً ، إلا إذا كان كفاح ونضال مواطنين حُرّرت إرادتهم وعقولهم وأقلامهم وإبداعهم، فلا معنى ولا قيمة أو مصداقية لأي نضال وطني سياسي أو كفاحي في ظل الانقسام والاستبداد والقمع السلطوي المستمر من حكومتي غزّة ورام الله.

 

عاشت الوحدة الوطنية التعددية لشعبنا في إطار م.ت.ف مطلباً ملحاً لدفن الانقسام

عاش نضال شعبنا من أجل الحرية والاستقلال والعودة

المجد والخلود لروح د. حيدر وكل شهداء شعبنا