Menu

خاشقجي: الجريمة والإعلام؟

هاني حبيب

خاشقجي.jpg

اكتسبت جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، تغطيةً إعلامية غير مسبوقة مقارنةً بأحداثٍ مماثلة، سيل متدفق من المعلومات والإشاعات على مدار الساعة، تسونامي إخباري هائل تدفع عبر وسائل الإعلام المختلفة، في مشهدٍ أكد مجددًا على مقدار ما تتمتع به وسائل الإعلام على اختلاف أشكالها وتقنياتها من أهمية، ليست فقط في صناعة الرأي العام؛ بل بالتأثير المباشر على قرارات الساسة والقادة، حتى أنها تجبرهم على اتخاذ خطواتٍ لم يكونوا ليتخذوها، لولا هذا التأثير الضاغط، وبحيث يمكن القول أن وسائل الإعلام هي التي تتخذ الخطوات والقرارات، وأن الساسة والمسؤولين أدوات مجبرة على التوقيع عليها، ليس إلا.

مع ذلك، فإن هذا التدفق التسونامي من معلوماتٍ وإشاعاتٍ وتقارير ووثائق وصور وفيديوهات، لم يكُن في الحقيقة من صناعة الإعلام من الناحية المهنية البحتة، فإذا ما راجعنا طبيعة المادة الإعلامية الأساسية، في سياق تغطية هذا الحدث، هذه الجريمة، لوجدنا أن في بعضها، إن لم يكن كلها، جاءت من خلال تسريباتٍ قامت بها جهاتٍ رسمية لم ترغب بالكشف عن نفسها إلى وسائل الإعلام التركية في بداية تغطية هذا الحدث، وسائل الإعلام اكتفت بنقل ما أرادت أجهزة الأمن التركية أن تسربه لها، وبينما اكتفت معظم وسائل الإعلام بنصبها أطقم تصوير لها على أبواب القنصلية السعودية وبيت القنصل، كانت الشبكات تبث هذه التسريبات المتدحرجة ساعةً بعد ساعة، وأحيانًا دقيقة تلو دقيقة، اكتفت هذه الوسائل بالنقل والبث من دون أن تتحرك للقيام بمهامها المهنية الأساسية، في التقصي والتحقق من الأخبار المسربة إليها.

في مرحلةٍ لاحقة، اكتفت وسائل الإعلام في معظمها بالحصول على وثائق وصور من جهات التحقيق، هذه المرة ليس تسريبًا من جهاتٍ رسمية بقدر ما هو قدرة هذه الوسائل على "شراء" الصور والوثائق والفيديوهات، بما فيها الصور التي التقطتها كاميرات الشوارع، لم يكن هناك جهد إعلامي في هذا السياق، بقدر ما كان جهدًا ماليًا في عملية الشراء، في سياق مواهب العلاقات العامة للمؤسسة الإعلامية، والفرق بين دورٍ إعلامي لمؤسسة ما مقارنة مع مؤسسة أخرى، هو بقدرتها على دفع ثمن مقابل الحصول على هذه الوثائق والصور، في غيابٍ تامّ لدور هذه المؤسسة من خلال إعلامييها وصحفييها على الحصول بأنفسهم على مثل هذه الصور والوثائق، على اختلاف أشكالها وأنواعها، وباختصار، ورغم هذا التدفق للأخبار والمعلومات والإشاعات والصور والوثائق والفيديوهات، فإنّ الأمر يعود إلى القدرة الشرائية لكل هذه المكونات في غياب القدرة الصحفية والإعلامية المهنية.

دحرجتنا وسائل الإعلام لمتابعةٍ حيثية لتطورات التغطية لهذا الحدث – الجريمة، ووضعت المتلقي في إطار من التشويق الحثيث وسلبت إرادته في التحقيق والتدقيق من خلال هذا التدفق السريع، بحيث لم يكن هناك من الوقت الكافي لتأمل وتأويل ما تم تلقيه.

لم تنتبه وسائل الإعلام، في ظل هذه التغطية الممولة، إلى جانبٍ بالغ الأهمية في سياق هذه العملية الإعلامية، ونقصد هنا الجانب الآخر من أطراف هذه الجريمة، الدور الاستخباري السعودي، كان من الواضح أن هناك فشلًا ذريعًا في تخطيط وتنفيذ هذه الجريمة، باعتقادنا أنها كان يجب على وسائل الإعلام تغطية هذا الجانب لجهة قصوره، وشحة ذكاء القائمين عليه، وتدحرج توريط العملية خطوة بعد خطوة، إذ أن هذه العملية كانت فاشلة، منذ لحظتها الأولى، عندما لم يدرك هؤلاء أن هناك من ينتظر خاشقجي في الخارج، خطيبته المنتظرة، والتي لديها أرقام هواتف للاتصال بها في حال تأخر أو لم يخرج من السفارة، ومنذ تلك اللحظة كان ينبغي أن تلتفت وسائل الإعلام للقيام بدورها في ملاحقة هذا الغباء والتعقيد الذي تدحرج إلى النهاية المعروفة لدى جهاز يفترض أن يجمع العقول المخططة والمنفذة بدون ترك آثارٍ واضحة على الجريمة، والتحسب المسبق والاستطلاع الجيّد، إضافةً إلى اتباع أسلوب يتجاوز أساليب العصور الوسطى، هنا أيضًا، لم يقم الإعلام بواجبه ودوره وتجاهل هذا الأمر منغمسًا في عملية تغطية منقولة ومصغرة في الأصل.