مع الزحف الهائل لمنظومة التخريب الاستعمارية في منطقتنا، والدمار الكبير الذي ألحقه بالعقول كما بالبشر والحجر، نشأت سياقات للحط من مكانة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لاعتبار أولوية الاستقلال الوطني ابتداءً ثم الحقوق السياسية العامة، هذا الخلل المفاهيمي خلقه بالأساس الصراع بين نخب مأزومة تسعى لفرض إجابات مرتبطة بمصالحها، فيما تغيب المصلحة الحقيقية لغالبية الجماهير ويجري ازدرائها.
حين يتنافس اللصوص على سرقة رغيف خبزك تارة باسم الوطن واستقلاله، وتارة أخرى باسم الديمقراطية والحريات بأقصى معانيها الفردية ضيقًا، يكون عليك أن تستنجد بكل من هم على شاكلتك، بكل الضحايا لسياسات الإفقار والنهب والتوزيع غير المتكافئ للموارد، أن تستنجد بشعبك أولاً ودائمًا، بفقراء هذا الشعب ليخرج الصوت واضحًا ورافضًا لكل أشكال القتل طويل المدى من خلال التجويع. ببساطة، إن التنظير للحط من مكانة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وفرض ازدرائها، هو مشروع لإلحاق الأذى بالأغلبية العظمى من الجماهير.
الأكثر غرابة في هذه الطروحات هو سعيها لاستغباء الجماهير من خلال ادعاء وجود انفصال بين الحقوق المختلفة، وعدم اتصال النضال الاجتماعي الاقتصادي بنظيره الوطني والديمقراطي، فهذه النظم الرجعية المستبدة المرتهنة للاستعمار لم تأت إلا لحماية مصالح مشتركة مع نخب كمبرادورية تعمل لمصلحة المُستعمِر، هنا لا يمكن تجاوز النظر في سياسات الإفقار كرافعة اقتصادية للنظم الرجعية، وللتوزيع غير العادل للموارد، إلا كعملية عالمية لنهب فائض القيمة.
نعم إن الضرائب المفروضة على أهلنا في القطاع المحاصر، والتعنت في جباية هذه الضرائب هو خدمة صافية تقدم للمحتل وحلفائه، وسياسة رجعية تعبر عن نظرة متخذيها لجماهير هذا الشعب الأبية الصامدة، وإن هراوات القمع في السودان حين تنهال على رؤوس الجماهير المحتجة ضد الإفقار وغياب التنمية، فإنما تمسك بها تلك الأيدي التي قسمت السودان وأخضعته لشروط المنظومة الاستعمارية، هذا أيضًا حال من أطلق هراواته في الضفة المحتلة دفاعًا عن المحتل، فلم تكن هذه السياسة القمعية الممتدة اعتداء على هويتنا الوطنية وحق جماهير شعبنا في المقاومة فقط، بل كانت انحياز للمشروع الصهيوني وللمركز الإمبريالي الداعم لهذا المشروع.
حين تنهض هذه الملايين وربما المليارات من البشر كل صباح بحثًا عن لقمة العيش الكريم، فإنها تخوض معركة قاسية قد فرضها عليها لصوص الأرض، وواجب كل حر عاقل في هذا العالم أن يقاتل لتجنيب الأبناء والأحفاد خوض هذه المعاناة اللعينة.