Menu

هشام بركات الذي طعن في براءة مبارك فاغتاله الإرهاب

اللواء محمّد إبراهيم

هشام بركات

الهدف_مصر_بهاء الدين يوسف

قائع كثيرة جعلت من المستشار هشام بركات النائب العام المصري الذي لقي مصرعه قبل أيام متأثرا بإصابته في حادث تفجير سيارة ملغومة، شخصا استثنائيا في تاريخ القضاء المصري، لكن كل هذه الوقائع تتضاءل قيمتها أمام حقيقة واحدة، أنه أول نائب عام يتم اغتياله في مصر منذ استحداث المنصب عام 1881.

أقل من تلك الحقيقة بمراحل أن الرجل ارتبط اسمه لحسن حظه أو سوئه بالعديد من القضايا الجماهيرية، التي تنتهي غالبا المحاكمات فيها بقرارات لا ترضي أحدا، فقد تم انتدابه رئيسًا للمكتب الفني للمحكمة التي كانت تنظر قضية “مذبحة بورسعيد” الشهيرة التي راح ضحيتها عشرات من مشجعي النادي الأهلي، كما شهدت مختلف مراحل التقاضي حالات عنف بالغة ومظاهرات، أسفرت عن مقتل كثيرين، خاصة من أهالي بورسعيد الذين اعترضوا على أحكام الإعدام التي أصدرتها المحكمة ضد بعض المتهمين.

القضايا الخطرة

ولد هشام بركات في العام 1950، وتخرّج من كلية الحقوق في جامعة القاهرة عام 1973، ليتم تعيينه وكيلاً للنائب العام حتى أصبح رئيسا بمحكمة الاستئناف، ثم تم انتدابه رئيساً للمكتب الفني والمتابعة بمحكمة استئناف الإسماعيلية وقت نظر قضية محاكمة المتهمين في قضية أحداث ستاد بورسعيد، كما تولى أيضاً قضية هروب المساجين من سجن وادي النطرون، وقد افتتح المستشار بركات عهده في النيابة العامة بتولي قضية التخابر التي صدر فيها الحكم بالإعدام لـ3 متهمين من قادة الإخوان، بينهم خيرت الشاطر ومحمد البلتاجي حضوريًا، والأشغال الشاقة المؤبدة لـ17 آخرين من ضمنهم الرئيس المعزول محمد مرسي، والمرشد العام للجماعة محمد بديع.

كانت آخر القضايا التي تولاها قبل اغتياله “القضية 250” التي باتت مثار اهتمام الرأي العام المصري، لما تسرب عنها من تفاصيل تخص المتهمين الذين يمثلون نخبة في المجتمع (سياسيون وإعلاميون وشباب ثورة) اتهموا بتلقي أموال منتظمة من سفارات دول أجنبية، بهدف إثارة القلاقل في الدولة.
توتر تاريخي

من المفارقات اللافتة في منصب النائب العام، أن شاغله عادة ما يتهم بأنه أداة في يد النظام الحاكم للبطش بمعارضيه، وكان هذا واحدا من الاتهامات التي وجهها أنصار جماعة الإخوان المسلمين المنحلة للمستشار الراحل هشام بركات، حيث كتب وليد شرابي عضو ما كان يسمى بجماعة “قضاة من أجل مصر” التي ضمت بعض القضاة المنتمين أو المتعاطفين مع الإخوان تعقيبا على واقعة الاغتيال واصفا النائب العام الراحل بأنه هو “من قرّر فضّ رابعة والنهضة وسجن الأحرار، وتسبب في عزل القضاة الشرفاء، وزور أوراق حبس محمد مرسي فضلا عن اتهامات آخري عديدة”.

وعلى خلاف ما يعتقده كثيرون لم تكن علاقة النائب العام بالسلطة السياسية ودية في أغلب الأوقات، ويذكر التاريخ العديد من الوقائع التي وصلت فيها الخلافات بين الطرفين إلى ذروتها، نتيجة انحياز النائب العام إلى القانون ورغبة السلطة في تجاوزه.

من أشهر الأزمات تلك التي وقعت بين الملك فؤاد الأول والنائب العام البلجيكي فان دن بوش عام 1923، عندما نشبت أزمة سياسية بين الملك وسعد زغلول باشا رئيس الوزراء وقتها حول التفسير الدستوري لقرار الملك بتعيين خمسة أعضاء من مجلس الشيوخ دون العودة إلى مجلس الوزراء والحصول على موافقته، واحتدم الخلاف بين الاثنين ليقررا الاحتكام إلى النائب العام البلجيكي الذي كان يفترض به الانحياز لرأي الملك وتسجيل موقف ضد زعيم الأغلبية البرلمانية وصاحب الشعبية السياسية الهائلة وقتها، لكن المسيو بوش انتصر لرأي القانون الذي كان في صف سعد زغلول.

هناك أزمة العلاقة بين مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952 والمستشار عبدالرحيم غنيم النائب العام الذي استمر من عهد الملكية، حيث فشلوا في إقناعه بالاستقالة من منصبه فلجأ المجلس إلى حيلة قانونية للتخلص منه عبر رفع الدرجة المالية لمنصب رئيس محكمة الاستئناف لتكون مساوية لمنصب النائب العام، وهو ما مكّنهم من نقل غنيم من منصبه إلى محكمة الاستئناف.

الأزمات بين السلطة السياسية والنائب العام استمرت في عصر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الذي شهدت علاقته بالمستشار محمد عبدالسلام النائب العام بين عامي 1963 و1969 توترا واضحا بلغ ذروته في اعتراضه على قيام المباحث العسكرية بإصدار أوامر بالقبض على أيّ شخص دون إذن من النيابة العامة.

لكن رغم الخصومة لم يسع المستشار عبدالسلام لاستغلال واقعة رحيل المشير عبدالحكيم عامر عقب نكسة 1967 لتصفية حساباته مع عبدالناصر، وهو في أضعف مراحل حكمه، إنما انحاز للقانون عندما تولى التحقيق في مقتل المشير فأكد بما توفر لديه من أدلة أنه انتحر ولا يمكن لعبدالناصر أن يكون قد قتله أو تآمر مع من قتله.

علاقة النائب العام بالسلطة تجاوزت الخطوط الحمراء في بداية حقبة الرئيس أنور السادات الذي أصدر أول قرار في تاريخ النيابة بإقالة النائب العام المستشار علي نورالدين من منصبه في بداية سبعينات القرن الماضي، لصلته بعدد من رجال الرئيس الأسبق عبدالناصر ممن اصطلح على تسميتهم بـ”مراكز القوى”.
اهتمام متقطع

لم ينتبه المصريون لأهمية منصب النائب العام الذي يجري تعريفه في الأدبيات القانونية باعتباره محامي الشعب، ولم يحظ شاغلو المنصب طوال ما يقرب من 108 أعوام بقدر من اهتمام العامة حتى واقعة شركات توظيف الأموال التي تفجرت عام 1989 حينما استيقظ المصريون ذات صباح ليكتشفوا أن النائب العام المصري وقتها المستشار بدر المنياوي أمر بالقبض على أحمد الريّان أحد الشركاء في شركة الريّان أكبر شركات توظيف الأموال في ذلك الوقت، وهو القرار الذي أدى لتداعي ظاهرة توظيف الأموال وتسبب في معاناة مئات الآلاف من المصريين أصحاب الإيداعات لاسترداد أموالهم على دفعات وأحيانا في صورة بضائع.

وقتها فقط انتبه البسطاء لخطورة منصب النائب العام وإمكانية أن تؤثر قراراته على حياتهم ومعيشتهم، فتحول شاغل المنصب إلى رجل عام لا يقلّ في شهرته عن الوزراء، وحفظ العامة أسماء من توالوا على المنصب مثل رجاء العربي وماهر عبدالواحد وعبدالمجيد محمود لكن من دون أن تحظى قراراتهم بنفس القدر من الاهتمام العام.

الزخم الشعبي عاد إلى قرارات ومنصب النائب العام بشكل نسبي، عقب نجاح ثورة 25 يناير 2011 في إزاحة الرئيس الأسبق مبارك عن الحكم، خاصة بعد أن تبنى قطاع من المشاركين في الثورة وعلى رأسهم الإخوان المسلمون المطالبة بإقصاء النائب العام وقتها المستشار عبدالمجيد محمود الذي وصف بأنه “نائب عام مبارك” من منصبه وتعيين نائب عام ثوري، وهو الطلب الذي لم يتحقق في فترة المجلس العسكري الانتقالية.

بعد نجاح الرئيس المعزول محمد مرسي في انتخابات عام 2012، وسعيه الحثيث لأخونة السلطات السيادية في الدولة مثل القضاء والشرطة والجيش، لجأ إلى إصدار قرار غير مسبوق بتعيين عبدالمجيد محمود سفيرا لمصر في الفاتيكان، واختيار نائب عام جديد هو المستشار طلعت عبدالله ليكون ذلك القرار الذي صدر في نوفمبر من نفس العام بداية نهاية حكم الإخوان.

اشتعلت الأجواء في مصر بين القضاة والجماعة بعد صدور القرار لأسباب عديدة أولها أن الرئيس المعزول تجرأ على إقصاء النائب العام بالمخالفة للمادة 119 من قانون السلطة القضائية التي تمنع عزله أو إقصاءه، ثم اختيار طلعت عبدالله للمنصب بالمخالفة للقانون الذي يفرض على المجلس الأعلى للقضاء ترشيح ثلاثة مستشارين يختار رئيس الجمهورية واحدا من بينهم للمنصب وهي خطوة تجاهلها مرسي، فضلا عن أن عبدالله كان معارا في الكويت وقت اختياره للمنصب ولم يكن موجودا في السلك القضائي المصري.

ولم يهدأ القضاة حتى قامت ثورة 30 يونيو 2013 التي أطاحت بحكم الإخوان، فكان من أول قرارات الرئيس المؤقت عدلي منصور تنفيذ حكم محكمة النقض المصرية ببطلان عزل عبدالمجيد محمود وعودته إلى منصبه، وهي العودة التي لم تطل سوى لعدة ساعات حيث أعلن محمود استقالته من منصب النائب العام مساء نفس اليوم، استشعارا للحرج في أداء واجباته بسبب خصومته الشخصية مع قادة الإخوان الذين يتوجب على صاحب المنصب التعامل معهم كمتهمين بعد القبض على عدد كبير منهم بعد عزل مرسي في 3 يوليو عام 2013.

عداء مستمر

علاقة التحفز الواضحة بين الإخوان والقضاة التي انعكست في إظهار كثير من قادتهم لمشاعر الشماتة في مقتل المستشار هشام بركات لم تكن وليدة الفترة التي تلت ثورة يناير، إنما يمكن اعتبارها جزءا من تراث الجماعة منذ نشأتها، فنتيجة دخولها في عداوات كثيرة مع مختلف أجهزة الدولة، بقيت علاقة الجماعة مع القضاء في حدود القاضي والمتهم، وهو شكل لا يسمح بنشوء أيّ مشاعر إيجابية بين الطرفين.

لكن لم تحدث مواجهات حقيقية بين الطرفين حتى قام عدد من أعضاء التنظيم السري للجماعة باغتيال القاضي أحمد بك الخازندار عام 1948 الذي كان ينظر في قضية متهم فيها عدد من أعضاء الجماعة.

الأزمة بين الإخوان والقضاء بلغت أسوأ منحنياتها في ستينات القرن الماضي بسبب الأحكام المتتالية على عدد كبير من قادة وأتباع الجماعة، وبعد عودة الإخوان للحياة السياسية في الثمانينات اكتسب التوتر شكلا جديدا تمثل في اتهام القضاة بتزوير الانتخابات لصالح النظام السياسي وتعمد إسقاط مرشحي الجماعة.
بعد وصول محمد مرسي إلى الرئاسة زادت حدة المواجهة بين الجماعة والقضاة، خاصة بعد تغير موقعها من وضع المتهم إلى الحاكم، ويبدو أن قادتها كانوا يسعون لتصفية حساباتهم القديمة مع القضاء فلجأوا لعزل النائب العام وتعيين آخر بالمخالفة للقانون، وتلا ذلك محاولة إقرار قانون السلطة القضائية الذي لقي اعتراضات واسعة من القضاة مما اضطر الرئيس المعزول لتأجيل تطبيقه.

محامي الشعب

النائب العام يمثل رأس الهرم في جهاز النيابة العامة، الذي يضم محامين عموم ورؤساء ووكلاء نيابة ومساعدين ومعاونين، والنائب العام بدرجة وزير وهو عضو في المجلس الأعلى للقضاء يتبع رئيس الدولة مباشرة، حيث يعين بقرار منه، ولا يحق عزله أو إقالته من منصبه، ويختص عمله بالدفاع عن مصالح المجتمع، وأيّ جريمة تقع على أرض مصر أو خارجها، ويكون أحد أطرافها مصريا، يحق له تحريك الدعوى الجنائية فيها.

وقد عرفت مصر وظيفة النائب العام ضمن عملية تحديث مصر التي بدأها الخديوي إسماعيل، وأكملها نجله الخديوي توفيق، فكانت باكورة تحديث النظام القضائي في مصر بإنشاء وزارة العدل (الحقانية) في عهد الخديوي إسماعيل، ثم إنشاء المحاكم المختلطة المعنية بالنظر في المنازعات القضائية التي تنشأ بين الأجانب المقيمين في مصر.

وبعد إجبار الخديوي إسماعيل على التنازل عن الحكم لابنه أقدم الخديوي توفيق على استحداث منصب النائب العام أو محامي الشعب الذي يتولى تحريك القضايا في وقائع الفساد العامة، وقد اختلف المؤرخون في تفسير استحداث المنصب، فمنهم من اعتبر قرار الخديوي توفيق واحداً من القرارات التي اتخذها بضغط من الدول الأجنبية الدائنة لمصر والتي كانت تتحكم وقتها في القرار السياسي للدولة، فيما رأى آخرون أن الخديوي توفيق استهدف من قراره تدشين فكرة إنشاء محاكم مصرية حتى لا تترك الساحة القضائية في يد المحاكم المختلطة، ويدللون على ذلك بإنشاء محكمة الاستئناف بعد عامين فقط من استحداث منصب النائب العام، وإسناد رئاستها إلى إسماعيل يسري باشا أول محامي للشعب في تاريخ المحروسة.

وأخيراً فإن حماس الإخوان لمقتل النائب العام المصري هشام بركات دفعهم لتجاوز قرارات مهمة له على غير هوى السلطة مثل قرارات إحالة ضباط شرطة إلى النيابة متهمين بالاعتداء على مشتبه بهم داخل أقسام الشرطة، وقيامه بالطعن على براءة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك ونجليه جمال وعلاء ووزير داخليته حبيب العادلي في قضية قتل المتظاهرين، كذلك طعنه في براءة سامح فهمي وزير البترول الأسبق من تهمة تصدير الغاز لإسرائيل.

نقلا عن العرب