حسام أيمن أبو سيدو شاب فلسطيني من قطاع غزة، قضى نحبه قبالة شواطئ اليونان، ١٥٠ مترًا قبل الشاطئ هي ما تكفلت بإنهاء الرحلة الطويلة لحسام بالموت، حيث أصرّ المُهرّب على نزوله من القارب برفقة العشرات بينهم نساء وأطفال. ومن لم يتكفل بهم الموت في ثلاث حروب عدوانية سلّطها المُحتل على قطاع غزة، والحصار المُستمر، تكفل بهم البحر، والمهربين، وبرد مياه الغربة القاتل.
الحقيقة أن هذه كلها أدوات تكمِّل مهمة الاحتلال في ذبحنا، وتستفيد من أسوء منظومة للسيطرة عرفها الشعب الفلسطيني في تاريخه، منظومة يحصل فيها الاحتلال على كل الامتيازات التي يريدها، وتتكفل سلطات رثة بتقييد حرية الفلسطيني، وإفقاده الأمل، وذبحه يوميًا لدفعه لمُغادرة هذه المعازل البائسة التي تخنقنا فيها سلطات البؤس الفلسطيني.
من أغرق شبابنا حتى الموت، لم يكن البحر وحده، بل ذاك الحارس لحدود سجوننا اليومية الذي ظن نفسه حاكم على شيء، فأعلن عقوباته، ووجهه الآخر الذي أرسل جباة المال ليأخذوا من الناس قوت يومهم في غزة، تارة بحجة الضريبة وأخرى بحجة فواتير الكهرباء، فيما تنمو شاليهات رجال الحكم على شاطئ بحرنا الملوث، وتعلو بيوتهم فوق سفوح جبالنا التي استوطنها المحتل في الضفة.
لم يترك شبابنا وطنهم ولم يفروا من المعركة مع الاحتلال، بل تركوا كابوس صنعته سلطات الزيف، وفروا من مجازر الإفقار والإذلال، وإن محاولة دفن هذه الحقيقة الواضحة، هي استمرار لهذه الإبادة المادية والمعنوية لكل أشكال بقائنا، وخدمة صافية للاحتلال.
لم يقتصر تفاقم ظاهرة الهجرة الفلسطينية في السنوات الأخيرة، على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، التي تقول الإحصاءات بأن 52% من سكان قطاع غزة لديهم رغبة في الهجرة، مقابل 29% من سكان الضفة، بل تتفاقم هذه الظاهرة في مخيمات اللجوء، وبخاصة في لبنان، حيث يُحرم اللاجئين هناك من الكثير من الحقوق المدنية الأساسية، بما فيها الحق في مزاولة أكثر من سبعين مهنة، مما يزيد معاناتهم ويدفعهم إلى الهجرة، فوفق إحصاءٍ جرى العمل عليه بالشراكة بين الإحصاء المركزي اللبناني ونظيره الفلسطيني، في نهاية عام 2017، أُعلن أنّ عدد اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات والتجمعات الفلسطينية بلغ 1740422 فردًا، حيث وصل عدد اللاجئين هناك في السنوات السابقة إلى 450000 فرد.
تصاعدت ظاهرة الهجرة مع شدة الإجراءات والعقوبات الجماعية التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي من جهة ضد قطاع غزة، مع حصار مضروب منذ اثني عشر، لكن الأشد قسوة، هو سوط العقوبات الداخلية التي تفرضها كلتا سلطتي الانقسام في وعلى قطاع غزة، لتزيد من معاناة الناس، وتلقي بمزيد من الأعباء والمسؤوليات على كواهلهم، وإلا ما الذي يفسر، دفع الفلسطيني المغترب آلاف الدولارات في سنوات سابقة، ليلتم شمله مع أسرته وعائلته على أرض الوطن، والآن نفس الفلسطيني يدفع آلاف الدولارات تاركًا خلفه أسرته وعائلته ووطنه مهاجرًا، ومن كان "سعيد الحظ" يصطحب أسرته ليلقوا ذات المصير المجهول؟!
إنها مفارقة غريبة عجيبة تلك، التي يفترض أن تدفع مؤسساتنا وجمعياتنا وأحزابنا أن تعطي موضوع الهجرة الفلسطينية أهمية خاصة في برامجهم وآليات عملهم، وطرحه بقوة على جدول أعمالهم، وهذا ما لم يحصل، في الوقت الذي يتأكد يوميًا أن السياسة الإسرائيلية تعطي موضوع هجرة اليهود الصهاينة كل جهودها واهتماماتها وتوظف علاقاتها بما يحقق أهدافها، وترصد له ميزانيات خاصة وضخمة. جنبًا إلى جنب مع استمرار تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها الأصليين، من خلال تضييق الخناق عليهم لدفعهم للهجرة، التي على ما يبدو تكفلت بها أيدي فلسطينية للأسف!!
ذات يوم كان صدح صوت المذيع العربي أحمد سعيد، عبر إذاعة صوت العرب، حول إلقاء الغزاة في البحر، اليوم شعبنا هو من يلقى في البحر وفي المنافذ والمعابر، وهذه السطور ليست تبرير أو تهرب من مسؤولية كل فرد فلسطيني عن مواجهة الاحتلال، بل دعوة للمحاكمة والمحاسبة لكل من شارك في تقويض عوامل صمود شعبنا، ليتحسس القادة والجنود والجباة والسعاة والمخبرين أيديهم، وينظروا لدمنا المسفوك. فعلى هذه الأيدي دم كثير.