ما إنْ فشلت محاولة الانقلاب العسكري «البائسة» في العاصمة الفنزويلية كاراكاس قبل أيام، حتى وجّه رئيس الجمعية الوطنية الفنزويلية (البرلمان) وزعيم المعارضة اليمينية «خوان غوايدو» دعواتٍ لمناصريه للنزول إلى الشارع في تظاهرات، تؤمن نوعًا من الشرعية المبنية على "الضغط الشعبي" لتشكيل حكومة انتقالية في البلاد، في ظل غياب أي دعمٍ دستوري لمطلبه في إسقاط حكومة الرئيس مادورو الذي يتمتع بالشرعية الدستورية وبدعم من الجيش.
إلا أنّ رئيس البرلمان الذي اكتشف أن حجم جماهيره محدود، وأنه لن يتمكن من تأمين الدعم الشعبي اللازم للضغط على الحكومة في الشارع، سارع إلى إعلان نفسه "رئيسًا بالوكالة" أمام الآلاف من مؤيديه في شوارع العاصمة، قائلاً: "أقسم أن أتولى رسميًا صلاحيات السلطة التنفيذية الوطنية كرئيسٍ لفنزويلا للتوصل إلى حكومة انتقالية وإجراء انتخابات حرة".
لم تمضِ دقائق على هذا الإعلان، حتى جاء أسرع ردود الفعل الدولية على لسان الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» الذي أصدر بيانًا قال فيه: "أعترف رسميًا اليوم برئيس الجمعية الوطنية الفنزويلية خوان غوايدو رئيسًا لفنزويلا بالوكالة". وقد أشارت مصادر مقربة من الحكومة، إلى أن سرعة الاعتراف هذه توحي بشكلٍ كبير بأنّ خطوة غوايدو كانت مرتبة مُسبقًا مع الإدارة الأمريكية. كما اعتبرت المصادر ذاتها، أن الأخير"أراد الالتفاف على دعوات التحقيق الجزائي بجرم محاولة اغتصاب السلطة بالعنف" التي وجهتها المحكمة الدستورية العليا له ولأعضاء آخرين في البرلمان.
وقد برّر ترامب اعترافه هذا بأن "الجمعية الوطنية (الفنزويلية) أعلنت الرئيس نيكولاس مادورو فاقدًا للشرعية، وبات منصب الرئاسة بالتالي فارغًا". وأضاف أنه يعتبر أن "الجمعية الوطنية هي المؤسسة الوحيدة المنتخبة شرعيًا وفقًا للأصول".
من جهته، ردّ الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بقطع علاقات بلاده الدبلوماسية مع الولايات المتحدة احتجاجًا على الخطوة الأمريكية. وقال مادورو "قررت قطع العلاقات الدبلوماسية والسياسية مع الحكومة الإمبريالية للولايات المتحدة. ليرحلوا من فنزويلا، هنا لدينا كرامة" ومنح ممثلي البعثات الدبلوماسية الأمريكية 72 ساعة لمُغادرة البلاد.
وخلال ساعات قليلة، سارع الحلفاء الأمريكيين إلى تلبية دعوة الرئيس الأمريكي بأن يحذوا حذوه. حيث اعترف ممثلو كل من كندا (وزيرة الخارجية كريستا فريلاند) والبرازيل (الرئيس بولسونارو) وكولومبيا (الرئيس إيفان دوكي) والبيرو (نائب الرئيس مرسيديس أراوز) إلى إعلان الاعتراف بـ "غوايدو رئيسًا شرعيًا لفنزويلا" من مكان انعقاد «منتدى دافوس الاقتصادي». واتبعت تشيلي والإكوادور والأرجنتين والباراغواي خطوات حلفاؤهم من دول مجموعة ليما.
وحدها المكسيك (من بين دول المجموعة) من خرجت عن النص وانضم رئيسها «أندريه أوبرادور» إلى جانب روسيا و تركيا وبوليفيا والأوروغواي وكوبا في إعلان اعترافها بالرئيس "مادورو رئيسًا شرعيًا مُنتخبًا على قمة هرم السلطة في فنزويلا".
من جانبه، أعلن الجيش الفنزويلي موقفه بجلاء، إذ أكّد وزير الدفاع الفنزويلي الجنرال «فلادمير بادرينو لوبيز» وقوف الجيش والمؤسسات العسكرية إلى جانب الديمقراطية وقال في تغريدة له على موقع تويتر "إن جنودنا لا يقبلون برئيس ظل يخدم مصالح مشبوهة وسيكفلون حماية الدستور والسيادة الوطنية". وكذلك فعل قائد القوى الجوية الفنزويلية «خوان مانويل دياس»، إذ جدّد ولائه للرئيس مادورو وقال في تغريدة: "أمام الدعوات غير الوطنية المنبثقة عن الجهل بالإرادة الشعبية، فإن جنودنا يقفون بثبات للحفاظ على الدستور متمسكين بقيمنا التاريخية وهويتنا في الفداء والبطولة".
وكانت قوات الجيش والشرطة في فنزويلا قد أعلنت قبل أيام سيطرتها التّامة على محاولة الانقلاب التي "نفذتها مجموعة من رجال الحرس الوطني (27 عنصرًا!) حيث قاموا بسرقة أحد مستودعات السلاح وحاولوا التسبب بحالة من الفوضى والاضطراب في حيّ فقير قريب من القصر الرئاسي مدفوعين من قبل جماعات اليمين المتطرف"، وفق ما جاء في بيان قيادة الجيش، الذي أكّد أن منفذي هذه المحاولة "سيتلقون العقاب المناسب في إطار القانون".
أما شعبيًا، فقد نزل عشرات الآلاف من مؤيدي الرئيس مادورو إلى شوارع العاصمة، لإثبات دعمهم له في مواجهة مؤيدي المعارضة. في مشهدٍ يعيد التذكير بلحظات التوتر الشديد الذي عاشته البلاد في العام 2017، وخلّفت عشرات الضحايا نتيجة أعمال العنف.
هذا وأعلن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أنه قرر إغلاق السفارة الفنزويلية وكافة القنصليات في الولايات المتحدة. وأكد مادورو في خطاب له أمام المحكمة العليا، ردًا على تصريحات وزير الخارجية مايك بومبيو بأن الولايات المتحدة تعتزم الحفاظ على الحضور الدبلوماسي في فنزويلا: "حتى يوم الأحد أمامه 72 ساعة للمُغادرة، للرحيل عن فنزويلا".
وأكد مادورو كذلك أنه موافق على مبادرة المكسيك والأوروغواي للحوار بين السلطات والمعارضة في فنزويلا. وقال: "أنا منفتح على الحوار... وأنا موافق على المبادرة الدبلوماسية للحوار والتفاهم والاتفاق"، وذلك في إشارة إلى مبادرة المكسيك والأوروغواي لإطلاق مفاوضات شاملة وصادقة بين السلطات والمعارضة "مع احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان".
وفي تصعيد جديد وجهت الولايات المتحدة، الخميس، تحذيرًا لرئيس فنزويلا نيكولاس مادورو من استخدام العنف في وجه رئيس المعارضة خوان غوايدو، الذي أعلن نفسه رئيسًا مُؤقتًا للبلاد، متعهدةً بقطع "مصادر الدخل" عن مادورو.
وجدد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو دعم بلاده لغوايدو، مُشددًا على أن حكومة مادورو "غير شرعية وغير ديمقراطية"، وحذر بومبيو خلال اجتماع لمنظمة الدول الأميركية، "النظام غير الشرعي لمادورو من أي قرار باستخدام العنف لقمع الانتقال الديمقراطي السلمي"، وفي دعوة مفضوحة للانقلاب طالب قوات الأمن الفنزويلية بـ "حماية" غوايدو، بحسب وكالة "فرانس برس".
لا غرابة إنْ خلصنا إلى أنّ فنزويلا التي استطاعت الصمود في مواجهة المحاولات المحمومة للنيل من إرادتها طيلة السنوات الماضية، والتي تمكنت بفضل وقوف الجيش والشعب إلى جانب الحكومة المنتخبة التي تعبّر عن الخيارات الحقيقية للبلاد، من اجتياز محاولة اغتيال الرئيس، ثم محاولة الانقلاب عليه عسكريًا، ستتمكن من مواجهة هذا التحدي الجديد في النهاية. إلا أن هذا الانقلاب الدستوري يبرهن على النية العميقة للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في تكدير حياة الشعب الفنزويلي، وإجباره على خوض معركة جديدة.. للدفاع عن كرامته الوطنية.